عقب احداث يوليو1976 قبضت قوات الامن على مجموعات كبيرة من المشتبه بهم، وتم توزيع هؤلاء المتهمين على مجموعات للتحري والتحقيق معهم. وكنت في ذلك الوقت اشغل منصب المدعي العام، واذكر ان مجموعة من هؤلاء كانت تضم 27 متهما على رأسهم علي محمود حسنين، وسارة الفاضل(رحمها الله)، واحمد البدوي، وسعيد صاحب مصنع المواد الغذائية المشهور. وقد كنت بحكم وظيفتي اشرف على التحري مع هؤلاء المتهمين، وبعد التحري وجدت انه ليس هناك بينات كافية لتقديم هؤلاء المتهمين للمحاكمة، ولكن وزير العدل في ذلك الوقت السيد زكي عبدالرحمن اصر على توجيه الاتهام لهم تحت مواد عقوبتها الاعدام بل وتقديمهم لمحاكمة عسكرية مع انهم مدنيون..ولكني تمسكت بموقفي وكانت وجهة نظري انه ليس هناك بيّنة ضدهم..ولكنه اصرّ على تقديمهم لمحكمة عسكرية وكان من رأيه ان المحكمة هي التي تبرئهم او تدينهم وليس انا، ولكني اصررت على موقفي وقلت له انني لست (باشكاتب) وانما رجل قانون مهمتي تقييم البينات فإذا رأيت ان البينات ليست كافية فلا يمكن ان اقدمهم للمحاكمة.ولكن السيد زكي اصر على موقفه، وامام ذلك قدمت استقالتي ورفعتها لرئيس الجمهورية. كان الدكتور يوسف ميخائيل يشغل منصب وكيل ديوان النائب العام وعندما قرأ استقالتي واطلع على اوراق التحري وتأكد له انه ليست هناك بينة ايّد وجهة نظري، ولكن وزير العدل تمسك بموقفه وأمام ذلك ارفق يوسف ميخائيل استقالته مع استقالتي وقدمها لرئيس الجمهورية عن طريق وزير العدل الذي اوصى بقبولهما، لكن النميري لم يقبل الاستقالة وأخر الموضوع لثلاثة اسابيع..وبعد استقالتي تم اسناد منصب المدعي العام للسيد عمر المرضي الذي يعمل الآن في مملكة البحرين، وكان من رأي المرضي الا اتقدم باستقالتي، ولكن بعد ان اسندت اليه المهمة استقال هو الآخر وكان رأيي الا يستقيل المرضي حتى لا يصبح الديوان خاليا من الكفاءات. وفي النهاية تم تقديم المتهمين لمحكمة عسكرية يرأسها العميد منير حمد..وقد قابلني منير وسألني لماذا استقلت؟ فقلت له:لأنه لاتوجد بيّنات ضد المتهمين. وفي هذا الوقت بدأت الاذاعات العالمية تذيع خبر استقالتي وتتحدث عن اعتراضي على تقديم المتهمين لمحكمة عسكرية..وبعد ان انعقدت المحكمة تم تبرئة المتهمين وعددهم سبعة وعشرين متهما، ولكن تم تحويلهم الى محكمة اخرى قضت بإعدام اربعة متهمين وهم احمد محمد سليمان، ابراهيم احمد عمر، عبدالله ميرغني، عبد الفضيل ابراهيم..واعتقد ان الموقف الذي تشكل بناء على استقالتي كان له الاثر في تهيئة جو من التروي وعدم اخذ المتهمين بشبهات وافعال لم يقترفوها..وقد كانت المرحومة سارة الفاضل تقول انه لولا استقالتي لتم الحكم عليهم بالاعدام. وبعد براءة المتهمين اصدر النميري قرارا بارجاع وزير العدل الى الهيئة القضائية لأنه اعتقد ان تقييمه بمحاكمة المتهمين لم يكن صحيحا..وعندما قبل نميري استقالتي كانت هناك توصية من السيد زكي عبدالرحمن بقبول استقالتي مع حرماني من فوائد ما بعد الخدمة وتم نزع قطعة ارض كان من المفترض ان تؤول لي. وبعد نقل زكي عبدالرحمن الى القضائية تولى منصب وزير العدل د.حسن عمر فقام بتحرير خطاب لرئيس الجمهورية اكد فيه صحة موقفي بعدم تحويل المتهمين الى المحكمة وأوصى بمنحي فوائد ما بعد الخدمة، وقد جاء في خطابه:( وفي رأيي ان تقييم البينة في مرحلة التحقيق يدخل في صميم اختصاص هذا الديوان. وتقييم البينة اجراء تمهيدي يجب ان يسبق المحاكمة لأنه يكشف عما اذا كانت ادلة في القضية كافية لتوجيه الاتهام. فإذا تأكد من يتولى الاتهام من وجود ادلة كافية في نظره يمكن معها ادانة المتهم في مرحلة المحاكمة فإنه يقوم بتوجيه التهمة. وفي ذلك ضمانة كبرى ضد الاتهامات غير المؤسسة او الكيدية او الملفقة. كما انه ليس من اغراض الديوان كجهة اتهام الحصول على ادانة وانما واجبه هو تقييم البينة لاستخلاص الادلة ثم عرضها على المحكمة . وان الحفاظ على تقاليد المهنة يحتم عليه مراعاة مقتضيات العدالة الا اذا كان بيده الدليل الذي يحمله على صحة الوقائع المنسوبة اليه. وقد نجم عن ذلك الخلاف تمسك النائب العام السابق بموقفه، وبالتالي امر بعض وكلاء النيابة بتوجيه الاتهام في تلك القضايا. وفي تلك الظروف لم يكن امام المدعي العام السابق سبيل سوى تقديم استقالته حفاظا على واجبه المهني ، ويبين لي من استقراء تلك الظروف والملابسات انه كان مضطرا لتقديم استقالته بسبب عدم رضائه على ان تتولى النيابة وهو على القمة منها توجيه اتهامات يرى ان الادلة فيها ليست كافية لامكان المحاكمة، وقد برهنت نتائج المحاكمات على صحة ما ذهب اليه من رأي وعلى سلامة ما استقر في وجدانه من قناعة).. ورغم ذلك علق نميري على الخطاب بعبارة(لا اوافق)، وبعد فترة تقلد منصب وزير العدل د.الترابي وقام ايضا بتحرير خطاب ضمنه ذات التوصية التي ذهب اليها د.حسن عمر وايضا رفض النميري التوصية، واستمر الامر بهذه الحالة الى ان جاءت الانتفاضة، واصدر مجلس الوزراء قرارا بارجاع معاشي بناء على توصية وزير العدل عبدالمحمود الحاج صالح واعتبرت الفترة من 75 الى 86 جزءا من الخدمة، وتم منحي قطعة ارض بديلة. وبعد فترة زارني في منزلي السيد زكي عبدالرحمن وابدى أسفه على الموقف الذي وقفه ضدي، لكني قلت له انه ليس هناك شيء شخصي في الموضوع فقد اتخذ كل منا الموقف الذي يراه وفقا لقناعته الشخصية، وقد ظلت علاقتي به عادية حتى اليوم.