قوة الاشياء تنبع من ضرورتها. وبتدني هذه الضرورة تتراجع قوتها. ومن المفردات التي بدأت في الاضمحلال تبعاً لهذه القاعدة مفردة السبيل. ونحن الآن بصدد القاء الضوء على أحد أهم نماذجها الامدرمانية عرفاناً اولاً وامتناناً له لما ظل يؤديه على مدى مائة عام من «السقيا» وهو سبيل خلف الله. يقع السبيل على خاصرة شارع اب روف ولازال يقاوم في كبرياء عوامل الفناء رغم سني عمره المديدة والتي تنصبه شيخاً على الاسبلة. هذا القرن من السقيا يضفي عليه بعدا استثنائىاً لم يتوافر لغيره من الاسبلة العديدة التي تظهر ثم تختفي من على سطح المدينة في فترة وجيزة. ولقد زالت أو توقفت وظيفة اسبلة تفوقه صلابة ومتانة كسبيل سلاطين باشا الذي يقوم في الساحة الجنوبية لمجلس بلدي أم درمان. وقد نحت من الجرانيت على هيئة النصب اليونانية التي تخترق الازمنة بتماسكها الرائع. ولكن رغم هذه الصلابة سرعان ما فقد وظيفته التي استمرت طوال العهد الاستعماري ثم توقف بعد ذلك سريان الماء عبر قنواته وغدا أشبه بالنصب التذكاري. غير ان سبيل خلف الله نفسه قد اعترته آثار الشيخوخة وذلك لتراجع ضرورته بعد ان تدنت أهمية الشارع الذي يحتضنه، شارع أبي روف. وبغرض التوثيق لهذا الأثر نشير إلى ان الذي اسسه هو الحاج خلف الله العوض العام 2191م وهو بالتالي بمثابة توام للترام الشهير الذي دشن في نفس العام. ولقد اكتسب السبيل شهرة لم تتسن لغيره من الأسبلة بل ونافس المعالم الكبيرة للمدينة حتى أن ادارة المرور - الحركة آنذاك - كانت تختبر المتقدمين إليها بطلبات رخصة القيادة، بسؤالهم عن موقعه في خارطة أم ردمان. في تعليل هذه الاستمرارية للسبيل يقول مجذوب حسن خلف الله - حفيد مؤسسه: «إن هذا السبيل أسس على اخلاص. ومالله يبقى وتدوم بركته. وقد قلت للعديد من الذين اتصلوا بي لتحويله الى دكان أو خلافه، إننا نريده دكاناً للآخرة» انتهى. ضم هذا السبيل في بواكيره اربعة اقسام: البئر التي يجلب منها الماء إليه. وهذه تقع على بعد خمسين متراً جنوبيه. وشيدت بمياهها أكثر المنازل المجاورة قبل ظهور المواسير. وكان يقوم عليها سقاء من اليمن. والمنشأة الثانية هي حوض الدواب الذي كان تسقى منه الخيل والحمر الأهلية في غدوها ورواحها. ولقد انهارت البئر في خريف 0691م وردمت بواسطة السلطات المحلية. والمنشأة الثالثة، بطبيعة الحال، هي سبيل الماء نفسه الذي كانت تنوء مصطبته بالازيار القناوية الضخمة، والتي تضاءلت الآن إلى ثلاثة ازيار صغيرة يبترد منها قلة من الراجلين. يرطبون وجوههم واقدامهم من لفح الصيف. أما القسم الرابع فهو الاستراحة التي تشكلها مصطبة طويلة بطول حائطه الغربي. كان السبيل ابان ازدهاره الى الستينيات سوقاً في غاية الحيوية. فقد كان محطة للترام مما يوفر حشداً دائماً أمامه ويتطلب خدماته من الماء والظل. وكانت تنيخ بجواره دواب الباعة للقلل والازيار والعربجية يريحونها ضرباً من الرفق بالحيوان. ومن الظواهر الطريفة قيام مرتادي السبيل بتدوين اسمائهم على جدرانه الداخلية، فغدت الحيطان سجلاً تذكارياً للزوار، وهنالك تدوينات واضحة لبعض الرموز الاجتماعية والثقافية البارزة. ومن تدويناتي الشخصية على هذا السجل: عذوبة مياه سبيل خلف الله انبتت على صدغيَّ