غيب الموت صاحب (الحي اللاتيني) احدى اهم الروايات العربية.. وبرحيله انطوت احدى الصفحات الاخيرة في السجل الرائع لجيل كامل ضم مجموعة رائعة من المبدعين.. ومرحلة كاملة كانت زاخرة بالابداع الحقيقي. رحل سهيل ادريس ناشر وصاحب مجلة «الآداب» الشهيرة التي صعد من خلالها تيار الكتاب والشعراء العرب. رحل الاستاذ سهيل ادريس بعد عمر ناهز الثلاثة وثمانين عاماً.. امضى جلها في الدفاع عن المشروع القومي من خلال رؤية حداثية.. راهن من خلالها على الانفتاح وبرحيل سهيل ادريس.. رحلت مؤسسة ثقافية شاملة ومتكاملة كان سهيل ادريس روائيا وقاصاً وكاتباً ومترجماً.. بالرغم من أنه درس العلوم الشرعية لم يصبح ماذوناً أو قاضياً شرعياً وانما اتجه الى الادب.. وظل يناضل من اجل مشروعه القومي.. منذ كان، وظل عروبياً وقومياً حتى بعد ان هوت الاشواق الكبيرة والاحلام الطموحة. وانهزمت كذلك كل الايدلوجيات. التقيت بالراحل سهيل ادريس كثيراً واجريت معه عدة حوارات.. فقد كان دائم الحضور الى بغداد.. مشاركاً في كل المناسبات الادبية والثقافية والسياسية.. فقد كان الذي يربطه بعاصمة العروبة كبيراً ووثيقاً واجريت معه عدة حوارات.. وكان يقاوم قصيدة النثر مقاومة عنيفة وقال لي «لم انشر قصيدة نثر في الآداب على الاطلاق».. رغم اعترافه بشعبيتها وعندما سألته عن رفضه نشر رواية الراحل الصديق محمد شكري قال لي إنها رواية غير متكاملة رغم نجاحها الكبير.. وتوزيعها الذي اصاب الموزعين والناشرين بصفعة كبيرة. وعندما قلت له : إن هناك تفاصيل مشتركة بين رواية محمد شكري «الخبز الحافي».. خاصة الجزء المتعلق بالسيرة الذاتية لمحمد شكري.. وبين الجزء الاول من سيرته الذاتية او مذكراته قاطعني قائلاً: نعم فهمت الجزء الذي تقصده لكن انا اعتبرت أن الرواية كعمل فني متكامل انها غير متكاملة. ولا ينسى الناس جهده في اصدارة معجم المهتي الفرنسي والمهني العربي. لقد اشعل الكثير من المعارك. وهنا اود ان اشير الى المعركة التي اشعلتها الآداب بين الشاعر الراحل نزار قباني وشاعرنا محيى الدين فارس.. فقد دارت معركة عنيفة على صفحات المجلة بين الشاعرين.. عندما اتهم الراحل نزار قباني الشاعر محيى الدين فارس بأنه لا يكتب شعرا الا بأمر من الكرملين.. مع العلم بان محيى الدين فارس لاعلاقة له بالشيوعيين.. والتقينا في بغداد.. في دعوة من دعوات المربد.. كان نزار يجلس مع د. سعاد الصباح وعدد من الشعراء العراقيين والعرب.. ولمح الوفد السوداني يجلس في طاولة لوحده .. وكان يتوسطنا محيى الدين فارس ومصطفى سند والراحل فراج الطيب وسيف الدين الدسوقي وآخرون.. وفجأة اشار لي نزار قباني.. وسألني.. عن الرجل الذي يجلس وسطكم هذا هل هو محيى الدين فارس ام شبيه له قلت له نعم انه محيى الدين فارس. قال لي اريد ان اجلس معه جلسة مصالحة ولتكن في جناحي بالفندق لتزيل غضب ثلاثين عاماً.. حيث دارت بيني وبينه معركة في مجلة الآداب. وافقت وجئت فرحاً لمحيى الدين فارس: إلا انه فاجأنا بشروط تعجيزية للمصالحة. ولا ينسى قراء الآداب المعركة التي دارت بين الآداب ومجلة شعر. الآداب كانت منبراً حراً لمعظم الكتاب والشعراء والادباء العرب.. وكان سهيل ادريس قد ترجم كتباً لجان بول سارتر والبيركامو ودوبريه وغيرهم. وروايته (الحي اللاتيني) احدثت إنقلاباً في الرواية العربية حيث تناولت الصدمة. وفي العام 1956م شاركه الراحل الشاعر نزار قباني.. حيث تكفل برأس المال مناصفة لكن في نهاية العام 1961م اضطر نزار قباني الى فض الشراكة.. لان وزارة الخارجية السورية احتجت على عمل نزار قباني لانه يتعارض مع عمله كدبلوماسي وسفير في وزارة الخارجية السورية. والحي اللاتيني روايته الشهيرة.. تشترك في موضوعها مع رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، للطيب صالح و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و«قنديل ام هاشم» ليحيى حقي وهو لقاء الثقافة العربية بالثقافة الاوروبية.. لان رواية الحي اللاتيني تتحدث عن علاقة حب بين طالب عربي وفتاة فرنسية.. ونص «موسم الهجرة إلى الشمال» اكثر عمقاً.وتتميز شخصية سهيل ادريس بالرزانة والنبرة الهادئة في الحديث وسعة الصدر في قبول الرأي الآخر، وكان بسيطاً ومتواضعاً في تعاملة مع الآخرين. رحم الله فقيد الرواية والثقافة العربية الدكتور سهيل ادريس.. باكثر مما قدم لوطنه ولشعبه العربي وللادب العربي بشكل عام.