عصر الأحد المنصرم كان الوفد المرافق للرئيس عمر البشير يستعد لمغادرة طهران التي أمضى بها يومين للمشاركة في المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب.. الجميع أبرموا عهداً مع طائرة الرئيس الرابضة في مطار أمهر اباد يمنون أنفسهم بزيارة تاريخية إلى دولة الصين بعد أن دار حولها جدلٌ كثيفٌ، إذ عارضتها أمريكا - كالعادة - وندّدت بها منظمة العفو الدولية ورمتها وسائل الإعلام الغربية بكثيرٍ من الأوصاف، ولكن ذلك لم يغيّر في الأمر شيئاً لان البشير أعلن أنه سيبدأ زيارته الى بكين في السابع والعشرين من الشهر الجاري - أمس الأول الاثنين -. ----- كان إنزواء الشمس نحو المغيب يحمل معه اعلاناً متواتراً بقرب مغادرتنا لهذه العاصمة الحفية طهران، فلقد نالنا منها ما يضاهي (حنو المرضعات على الفطيم) أو يزيد - حين نزلنا أرضها لحضور المؤتمر - بدأ السبت المنصرم وانتهى مساء ذات اليوم الاحد -. المجموعة الإعلامية إنضمت على تخوم المغيب الى موكب الرئيس عمر البشير، حيث مضينا معه لافتتاح المعرض الثقافي السوداني، ذاك المكان عبأ الحضور بأحاسيس الشرف الوطني الباذخ وهو يُجسِّد نموذجاً مصغراً للسودان بشماله وشرقه وشماله وجنوبه الجديد بالطبع. تدشين هذا المعرض كان يعني نهاية برنامج الرئيس عمر البشير في طهران، حيث إصطف موكب الرئيس يشق شوارع العاصمة الأنيقة في طريقه إلى المطار لبدء الرحلة إلى الصين. - وما أدراك ما الصين - زيارة كان من المتوقع أنها ستأخذ حيِّزاً في سماء المواجهة السياسية بين السودان والولاياتالمتحدة، ومن تبعها بالإدانات المغلظة لموقف الصين وهي تتهيأ لإستقبال البشير. لكن أياً من أفراد الوفد الرسمي لم يكن يضع بالاً لتلك التهديدات على الرغم من التحذيرات التي وصلت إلى حد التلويح بالقرصنة الجوية لتوقيف الرئيس عمر البشير. السابعة مساءً - الخامسة والنصف - بتوقيت السودان، إكتمل عقد الوفد الرسمي المرافق للرئيس وصار الجميع داخل الطائرة تأهباً للإقلاع إلى الصين. حينما سألت عن المسار الذي ستسلكه الطائرة وسط الأجواء الملبدة بالتهديدات والمعبأة بإحتمالات الغدر وسيناريوهات القرصنة، علمت أن الجهات المختصة درست ثلاث خيارات منذ البداية تمثلت في السير عبر باكستان أو كازخستان وأوزبكستان التي إستقر عليها الأمر وصولاً إلى مسارات آمنة تدخل الرحلة الى الأراضي الصينية. لم يكن هذا التمحيص إلا لتأمين مسار الطائرة في أجواء لا تحتمل المغامرة وتستدعي أن تكون هنالك دراسة مستفيضة للخيارات كافة في ظل الغضبة الأمريكية التي سعت بقدر ما استطاعت لتعقيد وصول الرئيس الى الصين. أجواء الطائرة كانت محفزة على التفاؤل بوجود ترتيبات تتناسب مع خطورة الأجواء التي ستعبرها الطائرة التي تقل إلى جانب الرئيس عمر البشير، الفريق أول بكري حسن صالح وزير رئاسة الجمهورية وعلي كرتي وزير الخارجية ود. عبد الحليم إسماعيل المتعافي وزير الزراعة والمهندس أسامة عبد الله وزير الكهرباء والسدود وعبد الباقي الجيلاني وزير التعدين، إلى جانب البعثة الإعلامية والإدارية ورجال المراسم والتأمين. الرحلة قُدِّرت بست ساعات ونصف، حيث غادرت الطائرة المطار في حوالي الساعة السابعة مساءً، الكل أخذ مقاعده وكان الفريق أول بكري يتفقد المرافقين ويطلق قفشاته على نحو أكسب الرحلة إعتيادية كبيرة تجاسرت على تهديدات أمريكا والمنظمات الغربية على نحو أشاع طمأنينة كبيرة ظللت مسار الرحلة. بعض المرافقين وبعد مضي ساعة ونصف أحسوا - وأنا بينهم - بأن مسار الطائرة يتحول وأنها قد أخذت إستدارة كاملة، لكنا لم نعر الأمر إهتماماً لأنّ السفر بالطائرات يجعل مثل هذا الاحساس إعتيادياً في كثير من الأحيان، ولكن يبدو أن الأمر لم يكن محض إحساس، ففي تلك اللحظة كانت الطائرة تستدير وتعود أدراجها صوب طهران. بعد أن يَمّمَ الكابتن طائرة الرئيس شطر طهران، أبلغنا الفريق أول بكري حسن صالح أن هنالك تعقيدات ذات صلة بتغيير مطلوب في مسار الطائرة ستضطرنا للعودة إلى طهران، بهدف الترتيب لمسار جديد وقد حدث ذلك، وما أن سارت الطائرة ذات المسافة التي قطعتها حتى بدأت في الهبوط، وقد عادت أدراجها في العاشرة من مساء يوم الإثنين. أسباب عودة الطائرة إعتذار تركمانستان عن السماح لها بعبور أجوائها وصولاً إلى أوزبكستان، وقد علمت أن أوزبكستان أبدت موافقتها على عبور طائرة الرئيس، إلاّ أنّ تركمانستان تلقت إتصال الطائرة لفتح أراضيها قبل فترة غير كافية من وصول حدودها وكان من الممكن أن تسمح بالعبور - ولكن يبدو أن الأجندة السياسية لعبت دوراً في التعامل على هذا النحو، وربما لا يكون هنالك تواطؤ متعمد، ولكن من الواضح أن الإتصال المتأخر منحها فرصة للخروج من دائرة الحرج -. ويبدو أنّه كان هنالك إعتماد على الموافقة الأوزبكستانية بطريقة أضعفت جانب المتابعة والتدقيق في هذا الجانب، خاصةً وأن الإتصال بسلطات تركمانستان تمّ قبل «8» دقائق من وصول حدودها، بينما عاد الكابتن بطائرته قبل دقيقتين من دخول أجواء تركمانستان. علمت أنّ الطائرة كانت مواجهة بخيار التوجه عبر مسار آخر يتطلب تجهيزات إضافية حتمت عودة الطائرة الى مطار طهران، وقد هَبّ رجال المراسم الإيرانيين يتقدمهم وزيران في الحكومة أحدهما وزير التعاون الدولي للعودة إلى المطار واستقبال الرئيس البشير والوفد المرافق له. وفي الاثناء تم إتصال هاتفي بين الرئيس البشير ونظيره الإيراني أحمدي نجاد الذي إهتم بالامر كثيراً وعرض الحضور الى المطار، ولكن الرئيس أثناه عن ذلك خاصةً وأنه كان مشغولاً بختام مؤتمر مكافحة الإرهاب الذي شارك فيه «5» رؤساء ورؤساء حكومة ووزراء خارجية لأكثر من «60» دولة. بعد ذلك، أمضى الرئيس البشير الذي غادر الطائرة بمعنويات عالية ساعتين بالمطار، حيث داعب الصحفيين وابتسامة كاملة تعلو وجهه، الرئيس أمضى قرابة الساعتين في المطار حيث كانت هنالك مَساعٍ لتأمين مسار جديد للطائرة بذلها أفراد البعثتين السودانيتين بطهرانوبكين مع دولة باكستان وقد نجحت تلكم الجهود في نهاية المطاف. أمضى الوفد ليلته تلك بأحد القصور الرئاسية في إيران، وسحابة نهار اليوم الثاني، حيث كان هذا الوقت كافياً لتأمين مسار جديد كانت وجهته باكستان هذه المرة، التي وافقت على عبور طائرة الرئيس، لكن الطريق عبر باكستان إستغرق وقتاً طويلاً، فقد إنتهت طائرة الرئيس من أجواء إيران في ساعة ونصف وأمضت ساعتين ونصف سابحة في الفضاء الباكستاني، بينما إستغرقت الرحلة داخل الأراضي الصينية وحتى العاصمة بكين أربع ساعات وأربعين دقيقة لتحط الطائرة على أرض المطار بعد أن سبحت في الهواء لثماني ساعات و«40» دقيقة كانت هي عمر الرحلة من إيران الى الصين عبر باكستان. الرئيس عمر البشير، كان مصراً على الوصول إلى الصين خاصةً بعد أن تم تغيير المسار الأول وعادت الطائرة إلى طهران، ولم يكن يأبه بمشقة السفر الى بكين عبر أي المسارات مهما كان بُعدها. الفريق أول بكري الذى تميز بحضور مطمئن وسط المرافقين، حضر إلينا فى رحلة المغادرة الثانية وأبلغنا أن الطائرة عادت مَرّةً أخرى إلى طهران بعد «4» ساعات من الطيران صوب الأراضي الصينية، لكنه ضحك هذه المرة فقد أطلق الحديث من باب المزاح قبل أن يطمئننا بأننا على وشك الخروج من الأجواء الباكستانية. جهات في الداخل سارعت إلى إتهام الولاياتالمتحدةالأمريكية بترتيب عملية قرصنة للنيل من طائرة الرئيس، وربما تكون إرتباطات الولاياتالمتحدة بعدد من دول تلكم المنطقة وضغطها المتواصل لعرقلة الرحلة منح تركمنستان الجرأة الكافية للإعتذارعن فتح أجوائها لعبور طائرة الرئيس، ولكن كان الأمر بحاجة الى ترتيبات تستدعي مجموعة من الخيارات الكفيلة بتأمين مسار الرحلة إلى نهاياتها بطريقة لا تمنح أية جهة القدرة على الإعتذار أو المراوغة أو الخداع. ومن الواضح أنّ الولاياتالمتحدة بذلت كثيراً من المساعي لإظهار قوتها للصين قبل الكيد للحكومة السودانية، ولكن وصول الرئيس البشير إلى بكين وجّه ضربة قوية للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة وربما يدخل واشنطن في حالة مراجعة لكثير من الحسابات بعد أن بدأ التنين الصيني في إمضاء خططه وبرامجه مستغلاً نفوذه الذي بدأ يأخذ شكلاً أقوى من أي وقت مَضَى. أوكامبو خطط لإعلان مذكرة توقيف القذافي في ذات اليوم الذي ينفذ فيه البشير أول زيارة خارج أفريقيا والعالم العربي منذ إصدار مذكرة التوقيف، وقد بدا واضحاً من التوقيت أنه كان واثقاً من أن البشير عازم على ما أعلنه، وأن القوى الصينية ماضية باتجاه فرض سطوتها في المنطقة. ويمكن القول، إنّ وصول الرئيس البشير الصين مثل هزيمة كبيرة للمحكمة الجنائية الدولية، ولن يكون مُجدياً أن يفكر المناصرون للمحكمة في كيفية عودة البشير لأن (اللعبة إنتهت) بوصوله إلى الصين. الملاحظ أن الرئيس البشير لم يتعرض لأوكامبو من قريبٍ أو من بعيدٍ، ولم يذكر المحكمة الجنائية الدولية أثناء مخاطباته في طهران وحتى اليوم الأول لزيارته الصين، لكنه دعا في خطابه أمام المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب إلى إصلاح المؤسسات العدلية العالمية، ويبدو أن التطورات التي حدثت في ملف أوكامبو وعلاقته بالسودان جعل قيمة الرجل تتراجع في ثنايا الرسمي، لكنه مازال يشغل دوائر وشخصيات عديدة في المؤتمر الوطني والبرلمان، وهذا ما يفسر التصريحات المتعددة لمجموعة من القيادات لمجرد عودة طائرة الرئيس بطريقة كادت تغطي على المكاسب التاريخية والقيمة السياسية النوعية لزيارة بكين.