تمضي الساعات بطيئة وهي تقترب من فجر السبت التاسع من يوليو للعام 2011م.. والمشهد قبل الأخير تغلب عليه الدموع.. للحظات الوداع التي ارتسمت على الوجوه الأبنوسية وهي تعانق الشماليين قبل الرحيل في أماكن قد تظل في قلوبهم وإن رحلوا لدولتهم الجديدة.. كذلك الدار القابعة في الخرطومجنوب التي تعرف بدار السلاطين.. بدأت أوراق الأشجار اليابسة تسقط أمام بوابة الدار في مشهد درامي كأنما أراد به المخرج اختصار كلمة النهاية بصورة تراجيدية تنتزع الدموع من عيني المشاهد.. المكان الذي كان لا يهدأ من حركة الجنوبيين وهم ينتظرون الفصل في قضاياهم خيم عليه السكون لأن سيناريو الرحيل أفرغ الساحة من ضجيجها. حجر كبير متكيء على طوب الأرض هناك كان بمثابة «الككر» أي كرسي السلطان جلس عليه العم عبدالله محمود مغربي وهو من الأنواك «بحر الليل» ولد في الخرطوم وعاش فيها سنوات عمره حتى كسا الشيب رأسه.. جلس تحت ظل النيمة «نيمة السلطان». ومعه الأمين ويدان التوم من جبال النوبة.. نظراتهم كانت تحلق في الأفق البعيد للمشهد الخالي من ضجيج الأمس وهم يسوقون الذكريات لتلك الأيام حين يجلس السلطان ويقول كلمته للخصوم وينهي المعضلة، قطعنا على عبدالله شرود ذهنه وطلبنا منه التوقيع على دفتر الوداع فقال: ميلادي كان هنا في الخرطوم، وأعلم ان القدر سطر لنا الانفصال ولكنني باقٍ حتى لو «اعتبرت أجنبياً» ولم أشعر يوماً بمرارة الإنفصال إلا عندما خلا ذلك الدار من حركته التي كانت تؤنسني في وحدتي ويقيني ان السودان واحد بجذوره لا بأرضه. الدار خلا تجاوزنا المشهد بسكونه وخلفنا حفيف الأوراق المتساقطة كموسيقى تصويرية لمشهد الانتقال للداخل.. المكاتب مغلقة صعدنا الدرج فإذا بمكتب موارب فدلفنا الى داخله وجدنا بعضاً من السلاطين بهندامهم الأنيق. ميلنج منيل ملواك، ذال مجاك من «رمبيك»،، نحن وصلنا نهاية المطاف بانفصال الجنوب «ورجلنا ما بتنقطع من السودان» بتلك العبارة أراد ميلينج ان يوقع على دفتر الوداع فكان لسانه يلهج بحسن الجوار للدولتين وانهم كمواطنين بعيدين عن السياسة ولهم رسالة للدولتين وهي «احسموا الخلافات بالحوار لا بالحرب». ملينج جاشت مشاعره بالشجن وهو يقول سأحن كثيراً لأصدقائي في الشمال وسأدون أرقام هواتفهم في مفكرتي ليكون اتصالي الأول من السودان الجنوبي بأصدقائي في الشمال وبما أن الانفصال أضحى واقعاً إلا أن لملينج أمنية في الخاطر هي ان يكون المصير مثل ألمانيا «انفصال بعده وحدة». من ملينج الى سلطان جيمس شول من رمبيك عاش جيمس في الشمال «21» عاماً وهو الآن يودع اخوته في الشمال ويقول لهم: «كتر خيركم وبارك الله فيكم». وأن السلام الذي جاء به الرئيس عمر حسن أحمد البشير مع اخيه ونائبه سلفا كير حفظ أرواح المواطنين في الشمال والجنوب، وأقول ان علاقات التواصل بيننا ستظل، فأتمنى ان لا يكون هناك جواز سفر لتلك العلاقة فقط بالإذن، «وكان حيين بنتلاقى».