نرمي من استخدامنا لمفردة «النزعة» هنا التفريق بينها وبين مفردات أخرى كثيرة تفيد نفس المعنى في مجالات ومباحث أخرى ذات دلالات إيجابية في كثير من الأحيان، بحيث يأتي النزوع هنا مترادفاً مع الاحالة المتعمدة إلى مرجعية واحدة ليست بأى شكل المرجعية الوحيدة بشأن الموضوع «المُتَوّجه إليه نزعوياً. ونقصد بموضوع «النزعة السنارية»، على وجه الدقة، تلك النصوص المسرحية العديدة التي اتخذت من سنار «السلطنة الزرقاء» ملهماً ومصدراً اساسياً لموضوع كتابتها الابداعية، كتفرع للاتجاه الآفروعروبي في مجالات فنية أخرى. اقصاء والنزعة السنارية كما هو معروف عنها، نزعة تميل إلى اختزال مجمل التاريخ السوداني، والذي يعود إلى مراحل ما قبل التاريخ، بدءاً بانسان سنجة ومروراً بكافة الممالك والحضارات السودانية القديمة في نقطة تاريخية واحدة معزولة عن هذه السيرورة المتصلة هي سنار المملكة، التي شهدت أول التقاء مؤثر للثقافة العربية الاسلامية بالثقافة الافريقية في السودان، وأصبحت بذلك هي الجزر المفهومي المؤسس لانطلاق هذه النزعة في مختلف الحقول الابداعية، وقد برز هذا الجزر، أول ما برز، في مجال الشعر، محاولاً تدعيم دعوة «حمزة الملك طمبل» الشهيرة الى قومية الشعر السوداني وتطويرها، من خلال عكس مفردات التداخل الثقافي بين تلك المجموعات، متخذاً من سنار رمزاً لهذا التداخل والتعايش السلمي، ومعبراً عن هوية الشعب السوداني الهجين. ثم امتد هذا الاتجاه ليشمل الكتابة الابداعية في مجال التأليف للمسرح بذات التوجه، بدءاً بمسرحية الطاهر شبيكة «سنار المحروسة» والتي كتبت في العام 6691م، مروراً ب «حصان البياحة» ليوسف عيدابي، و«ريش النعام» لخالد المبارك، انتهاء بتجربة «بين سنار وعيزاب» التي أعدها عثمان جمال الدين وأخرجها للمسرح علي مهدي نوري في العام 6002م. ورغماً عن ذلك الاختلاف الواضح بين هذه النصوص، من حيث انتقائها للمادة التراثية موضوع المعالجة، وكيفية المعالجة نفسها، إلا أن القاسم المشترك الأكبر بين جميع هذه النصوص هو اتخاذها لمملكة سنار مرجعية تاريخية ومفهومية تبحث من خلالها عن هوية سودانية تمثل المعبر عن الوجدان الجماعي السوداني، فمسرحية «سنار المحروسة» مثلاً تبدأ بلقاء ملك الفونج بشيخ العبدلاب، وبعد السؤال عن الحال يدور الحوار التالي: الملك: العوين الشيخ: مستورات ومكجورات ومحجوزات الملك: العلماء والأولياء والصالحين، كيف حالن؟ الشيخ: حالن زين البعلم منهم بعلم والبمسك الطريق بمسكه والحيران جميع جالسين ومتأدبين لي حضرتن وطابقين الورك في جلستن. الملك: والدين والشريعة.. إلخ. ويستمر الحوار إلى أن يصل: الشيخ: بالحيل يا ملك الملوك يحكو لينا أهلنا القدام الله يرحمن قالوا نحن ناس قبيل جينا من الجزيرة العربية بلد الشريف السمحة وفي زمان زمن عمارة دنقس اللمة الصعيد والسافل جماع جميع السافل. الملك «مكملاً»: وحاربوا الفنج النصارى في سوبا وخربوها خراب يضرب به المثل. من خلال هذا الحوار يسهل استخلاص بعض الدلالات التي تؤكد انتماء المسرحية لهذه النزعة، فهي، أولاً، مستوحاة من «كتابة الطبقات» الشهير لود ضيف الله، والذي يعتبر الوثيقة الأم في تاريخ المملكة نفسها، لدرجة تطابق نصوص بعض حوارتها مع النصوص التاريخية الموجودة في الكتاب، ثم ان الرجوع لاستلهام التراث ليس مبرءاً من التوجه الآيدلوجي بأي شكل، وإنما هو استرجاع لنقطة مهمة في مسار ومنحنى التاريخ الثقافي للمجتمع السوداني لا شك فى أنه ملغوم بعدد من المحاذير التي وقعت فيها هذه المدارس المنصوبة تحت لواء النزعة السنارية. فسنار المملكة الزرقاء يتم الرجوع إليها باستمرار للبحث عن صيغ تماثلية تجسد التصور العام الذي يجب ان تكون عليه الهوية السودانية وبذلك يتم تصويرها كرمز للتعايش السلمي والسماحة المنشودة والمعاملة الكريمة التي سادت حياة العرب والافارقة حينها. وهذا القول أو تلك الاستعادة لا يخلوان من كثير من التجاوزات التاريخية والاجتماعية كما أوضح ذلك الدكتور عبد الله بولا.. فأقل ما يمكن ان يقال في هذا الخصوص ان سنار كانت، في جملة ما كانته من حسن وقبيح، سوقاً لتجارة الرقيق، وفيها نصيب لا يمكن انكاره إلى جانب التجارات الأخرى، فإلى جانب الوثيقة التي أوردها أبو سليم وسبولدنق التي تتناول علاقات الرق بالمجتمع السناري، فإن كتاب الطبقات نفسه احتوى على أنباء الرقيق منثورة بين ثنايا تراجمه لأعلام ذلك العهد في أكثر من ثلاثين موضوعاً بين ص«95-163»، كما لاحظ ذلك محمد إبراهيم نقد في كتابه «علاقات الرق في المجتمع السوداني»، وأخشى أن يحتج علينا أحد بحجة المعاملة السمحة التي يفترض ان الرقيق كانوا يلقونها في مجتمع سنار الصوفي القائم على مبدأ كرامة الانسان الحق في الاسلام. ويكفي لبطلان هذه الحجة ما أورده ود ضيف الله في ترجمة الشيخ حمد النحلان، شائب الصوفية كما كان يُسمى كناية على جلال مكانته بين القوم، وقد كان نموذجاً في المودة والورع. فقد جاء في تلك الترجمة أنه كان يابساً من اللحم والدم، وسموه الناس «النحلان» فخرج من الدنيا وقال فتحت باب الله وقفلت باب المخلوقين، فكان لا يقبل الهدايا ولا جاه له ولا شفاعة ولا يكتب الحجب كعادة الأولياء وليس له حرفة أو زراعة، ومع كل ذلك فقد ورد على أحد مقاديم الملك بادي الأحمر حين هدده بالقتل قائلاً: تقتلني يا عبد كازقيل يا آ كل الضبابة، وقد شرحها البروفيسور يوسف فضل- أي كازقيل- بأنها موضع في كردفان يقطنه العبيد الذين لا سادة لهم وهم أحط درجة في نظر رصفائهم المنتمين إلى سادتهم. لم تختلف كافة النماذج الأخرى من السير قدماً في ذات الاتجاه، فمسرحية حصان البياحة على سبيل المثال تتكئ على كتاب الطبقات مباشرة، حتى كتب عنها الدكتور عثمان جمال الدين قائلاً: تقتلني يا عبد كازقيل يا آكل الضبابة، وقد شرحها البروفيسور يوسف فضل - أي كازقيل - بأنها موضع في كردفان يقطنه العبيد الذين لا سادة لهم وهم أحط درجة في نظر رصفائهم المنتمين الى سادتهم. لم تختلف كافة النماذج الأخرى من السير قدماً في ذات الاتجاه، فمسرحية حصان البياحة على سبيل المثال تتكئ على كتاب الطبقات مباشرة، حتي كتب عنها الدكتور عثمان جمال الدين قائلاً:«لقد استدعى يوسف عايدابي من بطن كتاب الطبقات الشيخ حسن ود حسونة والشيخ فرح ودتكتوك واسماعيل صاحب الربابة والشيخ ادريس ودالارباب وسلمان الطوالي الزغراد وعبدالله بن صابون والمسلمي، مطوعاً هذه الشخصيات الدينية في نسيج ذي لالات ايحائية تكشف عموماً عن أن هذا التراث دائب الحضور في وجدان الانسان السوداني لأنه جزء من ذاكرته، كما قال أيضاً عن مسرحية «ريش النعام» لخالد المبارك أنها أتت كإشارة ضمنية الى المكونات الاثنية في السودان وتمازجها على مدى القرون ذاهباً في ذات الاتجاه الزاعم بسماحة وتعايش المجتمع السناري القديم.