يقول ابن الجوزى: مما افادتني تجارب الزمان أنه لا ينبغي لأحد ان يظاهر بالعداوة احداً ما استطاع فانه ربما يحتاج إليه مهما كانت منزلته وان الانسان ربما لا يظن الحاجة إلى مثله يوما ما.. كما لا يحتاج إلى عويد منبوذ لا يلتفت إليه. لكن كم من محتقر أُحْتِيجَ إليه، فاذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخص في جلب نفع وقعت الحاجة في دفع ضر. ولقد إحتجت في عمري إلى ملاطفة أقوام ما خطر لي قط وقوع الحاجة إلى التلطف بهم. واعلم ان المظاهرة بالعداوة قد تجلب اذى من حيث لا يُعلم، لأن المظاهر بالعداوة كشاهر السيف ينتظر مضرباً وقد يلوح منه مضرب خفي وإن اجتهد المتدرع في ستر نفسه فيغتنمه ذلك العدو.. فينبغي لمن عاش في الدنيا ان يجتهد في ان لا يظاهر بالعداوة احداً لما بينت من وقوع إحتياج الخلق بعضهم الى بعض وإقدار بعضهم على ضرر بعض. وتحدث عبد الرحمن بن الجوزى عن المتعة والخوف فقال: رأيت النفس تنظر إلى لذات ارباب الدنيا العاجلة وتنسى كيف حصلت ما يتضمنها من الآفات.. وبيان هذا أنك ان رأيت صاحب سطوة فتأملت نعمته وجدتها مشوبة. فان لم يقصد هو الشر حصل من عماله. ثم هو خائف منزعج في كل أموره، حذر من عدو ان يسيئه، قلق ممن هو فوقه ان يعزله ومن نظيره ان يكيده ثم اكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من اصحاب السلطات وفي حساب اموالهم وتنفيذ اوامرهم التي قد لا تخلو من اشياء منكرة وان عزل اربي ذلك على جميع ما نال من لذة ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها ومنها وعليها. وإن رأيت صاحب تجارة قد تقطع في البلاد فلم ينل ما نال إلا بعد علو السن وذهاب زمان اللذة. وقال ابن الجوزى أيضاً: كما حكى ان رجلاً من الرؤساء كان حال شبيبته فقيراً، فلما كبر استغنى وملك اموالاً.. واشترى خدماً من الترك وغيرهم وجواري من الروم فقال هذه الابيات في شرح حاله: ما كنت ارجوه إذ كنت ابن عشرينا ملكته بعد ان جاوزت سبعينا تطوف بي من الاتراك اغزلة مثل الغصون على كثبان يبرينا وخرد من بنات الروم رائعة يحكين بالحسن حور الجنة العينا يردن احياء ميت لاحراك به فكيف يحين ميتاً صار مدفونا قالوا انينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا ويعلق بن الجوزى بقوله: هذه الحالة هي الغالبة فان الانسان لا يكاد يجتمع له كل ما يحبه إلاّ عند قرب رحيله فان بدر ما يحب في بداية شبابه فالصبوة مانعة من فهم التدابير أو حسن الإلتذاذ، والإنسان في حالة الصبوة لا يدري اين هو إلا ان يبلغ فاذا بلغ كانت همته في (اللذة) كيف ما اتفق.. وان تزوج جاء الاولاد فمنعوه اللذة وانكسر في نفسه وافتقر الي الكسب عليهم.. فينما هو قد دعك في تلك المديدة القريبة من الثلاثين وخطه الشيب فانفرق من نفسه لعلمه ان النساء متفرقن منه، كما قال ابن المعتز.. يا لله.. لقد اتعبت نفسي في مشيبي فكيف تحبني الغيد الكعاب وهكذا.. لا ترى المتمتع بالمستحسنات ان وجدهن لم يجد ما لا يبلغ به المراد.. وان اشتغل بجمع المال ضاع زمن تمتعه، واذا تم المطلوب فالشيب اقبح قذى واعظم مبغض. ثم ان صاحب المال خائف على ماله ومحاسب لمعامليه، مذموم إن أسرف وان قَتَّر. ولده يرصد موته وجاريته قد لا ترضى بشخصه وهو مشغول بحفظ حواشيه. فقد مضى زمانه في محن، واللذات فيها خلس معتادة لا لذة فيها. ثم في القيامة يحشر الأمير والتاجر خزايا إلاّ من عصم الله.. فاياك.. إياك ان تنظر إلي صورة نعيمهم فانك تستطيبه لبعده عنك ولو قد بلغته كرهته. ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة ما لا يوصف فعليك بالقناعة مهما أمكن، ففيها سلامة الدنيا والدين. وقد قيل لبعض الزهاد وعنده خبز يابس: كيف تشتهي هذا..؟ فقال: أتركه حتى اشتهيه!! ويواصل عبد الرحمن بن الجوزى: قال ابو الفرج: معشر المذنبين اجعلوا اعماركم ثلاثة أيام.. يوم مضى ويوم انتم فيه. ويوم تنتظرنه لا تدرون بما يأتيكم من صلاح أو فساد ولعلكم لا تبلغونه. فأصلحوا اليوم الذي مضى بالندم على ما فاتكم فيه من الطاعة والإحسان وما اقترفتم فيه من الذنوب والعصيان.. واليوم الذي مضى إنما تصلحونه في اليوم الذي انتم فيه بالبكاء والندامة وذم النفس مع الملامة.