هو عبد الرحمن بن الجوزي «510 - 597ه» اسمه ابو الفرج عبد الرحمن بن ابي الحسن علي بن محمد بن علي المعروف بابن الجوزي - ينتهي نسبه إلى محمد بن أبي بكر الصديق «رضى الله عنه» واختلف في نسبته قيل ان جده جعفر نسب إلى فرضة من فرض البصرة يقال لها (جوزة) وفرضة النهر ثلمته التي يستقي منها وفرضة البحر : محط سفن.. وقيل نسبوه إلى موضع يقال له «فرضة الجوز» وقيل هو منسوب إلى محلة في البصرة تسمى محلة الجوز وقيل كانت بداره في واسط جوزة فعرف بها. قرأ على جماعة من أئمة القراء وسمع من جماعة من أكابر الشيوخ مثل أبي الفضل بن ناصر وهو خاله فاعتنى به واسمعه الحديث.. ومنهم علي بن عبد الواحد الدينوري الذي قرأ عليه الفقه والخلاف والجدل والاصول وقرأ الادب على أبي منصور الجواليقي واتجه منذ نشأته الى الوعظ. ووصف عبد الرحمن بن الجوزى بلطف الصورة وحلاوة الشمائل وقيل انه كان رخيم النغمة موزون الحركات والنغمات لذيذ المفاكهة يحضر مجلسه ألوف الراغبين في المعرفة يكتب في اليوم أربعة كراريس ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلداً أو ستين. له في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الاعيان وفي الحديث من الحفاظ وفي التاريخ من المتوسعين ولديه فقه كافٍ.. وأما السجع الوعظي فله فيه ملكة قوية ان ارتجل اجاد وان روى ابدع. يقول الرحالة المغربي ابن جبير الاندلسي في وصف تأثير مجلس وعظه: انه أتى بعد ان فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر طارت لها القلوب اشتياقاً وذابت بها الانفس احتراقاً إلى ان علا الضجيج وتردد بشهقاته النشيج وأعلن التائبون بالصياح وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح كل يلقى ناصيته بيده فيجزها ويمسح على رأسه داعياً له ومنهم من يغشى عليه فيرفع في الاذرع إليه فشاهدنا هؤلاء يملأ النفوس إنابة وندامة ويذكرها هول يوم القيامة فلو لم نركب ثبج البحر ونعتسف مفازات القفر إلاّ لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناجحة والحمد لله على أَن منّ بلقاء من يشهد الجمادات بفضله ويضيق الوجود عن مثله. وقد انتقد ابن الجوزى بشدة شذوذ الصوفية وخروجهم عن حدود الشرع وقد استغرق إنكاره عليهم جزءاً كبيراً من كتابه «تلبيس إبليس» وكان يقدر الامام الغزالي ويأخذ عنه، ولكنه لم يتابعه في مجال التصوف وقد اعترض على الفقهاء في جمودهم وتقليدهم وعلى المحدثين ونقد التراث الفلسفي وأوضاع الحكم ووقف من عصره موقف الثورة والاصلاح فنقم عليه كثير من العلماء والحكام واصيب بذلك بمحنة في آخر حياته. نورد هنا نموذجاً من كلامه حيث قال في الغرور بالدنيا: من تفكر في عواقب الدنيا اخذ الحذر ومن ايقن بطول الطريق تأهب للسفر ما أعجب امرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه وتخشى الناس والله احق ان تخشاه. تغلبك نفسك على ما تظن ولا تغلبها على ما تستيقن. اعجب العجائب سرورك بغرورك وسهوك في لهوك عما قد خبئ لك. تغتر بصحتك وتنسى دنو السقم وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم. قد أراك مصرع غيرك مصرعك وابدى مضجع سواك - قبل الممات - مضجعك، وقد شغلك نيل لذاتك عن ذكر خراب ذاتك كأنك لم تسمع باخبار من مضى ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر فان كنت لا تدري فتلك ديارهم محاها مجال الريح بعدك والقبر. ويقول ابن الجوزى عن الافراط في الشهوة. تأملت في شهوات الدنيا فرأيتها مصائد هلاك وفخوخ تلف، فمن قوى عقله على طبعه وحكم عليه يسلم ومن غلب طبعه فيا سرعة هلكته. وقال:الدنيا مفازة: فينبغي ان يكون السابق فيها العقل فمن سلم زمام راحلته إلى طبعه وهواه فيا عجلة تلفه هذا فيما يتعلق بالبدن والدنيا - فقس عليه أمر الآخرة فأفهم. ويقول: تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد ورأيت خلقاً من العلماء والزهاد لا يفهمون معناه لأن فيهم من منعها حظوظها على الاطلاق وذلك غلط من وجهين: أحدهما انه رب مانع لها شهوة اعطاها بالمنع أوفي منها مثل ان يمنعها مباحاً فيشتهر بمنعه اياها ذلك فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح.. واخفى من ذلك ان يرى بمنعه اياها مانعاً.. انه قد فضل من سواه ممن لم يمنعها ذلك وهذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها. والوجه الثاني: إننا قد كلفنا حفظها ومن اسباب حفظها ميلها الى الاشياء التي تقيمها فلا بد من اعطائها ما يقيمها واكثر من ذلك أو كله ما تشتيه، ونحن كالوكلاء في حفظها لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا فمنعها حقوقها على الاطلاق خطر.