قال الراوي: بينما كان السيد عبدالرحمن المهدي يستجم على (عنقريبه) كانت هناك مجموعة صبية من اولاد الانصار يلعبون بجواره، مراعين اعلى اشكال الاحترام والتقدير للزعيم الروحي لطائفة الانصار. الا ان صبياً صغيراً من بينهم اندفع اثناء مطاردة صبيانية وقفز متخطيا (العنقريب والامام). اندهش كل من شاهد المشهد، وعم الصمت الحاضرين. غير أن السيد ابتسم بهدوء، والتفت الى كبارات الانصار الحاضرين، وقال : (دا ود منو؟!)، فقيل له ود ناس نميري، فصمت السيد برهة، ثم التفت الى محدثيه قائلا: (البعملها فيكم الجنى دا، ما اتعملت فيكم قبل كدا، ولا بعد كدا!!). .......................................................................................... بعيون المستقبل ربما كان ينظر السيد عبد الرحمن ، أو هي فراسة شخصية، أو حتى قد تكون كرامة للسيد بشأن ما سيلحق بالانصار في الجزيرة ابا وودنوباوي. ولكن ما لاشك فيه أن السيد رأى جملة من الصفات القيادية في شخص الصبي (نميري) وهو يلعب مع اقرانه أنبأته عن صفات قائد لا يرحم اعداءه. و يمكن القول إن ما من مجموعة بشرية إلا ويوجد بينها قائد يدير أمورها ويمتلك زمام المبادرة فيها، فالقيادة كلمة تتداول قديما وحديثا ولكنها اشتهرت قديما وارتبطت بالصراعات والحروب حيث كانت الانتصارات في الحروب سبباً رئيسياً في إظهار مواصفات القائد وشخصيته. وقد تطورت القيادة مع تطور العصر، واصبحت علما له اصوله ومبادئه وفلسفته، يرى القيادة باعتبارها نشاطاً أو حركة تعمل للتأثير على سلوك الآخرين أفراداً أو جماعات من أجل تحقيق جملة أهداف متفق علىها. لذا لم يكن مستغربا أن تعمل كل مجموعة منظمة على تحسين وتطوير القيادة والتعرف المبكر على المواهب القيادية لأفرادها وتعزيز المهارات الايجابية لديهم. جدلية الفطري والمكتسب توقفت طويلا عند القيادة، وانقسم الناس الى مدرستين، فمدرسة وارين بينسي ذهبت إلى أن القيادة موهبة فطرية تمتلكها فئة معينة من الناس، ويقول بينسي: (لا تستطيع تعلم القيادة، القيادة شخصية وحكمة وهما شيئان لا يمكنك تعلمهما)، بينما ذهبت مدرسة بيتر دركر الى أن القيادة فن يمكن اكتسابه بالتعلم والممارسة والتمرين، يقول وارن بلاك احد رموز هذه المدرسة: (لم يولد أي إنسان كقائد، القيادة ليست مبرمجة في الجينات الوراثية ولا يوجد إنسان مركب داخلياً كقائد). وبصورة عامة يمكن القول ان هناك جملة من صفات القيادة تكون فطرية واخرى مكتسبة. وقد استفادت الجبهة الاسلامية الى اقصى حد من ذلك، فعند وصولها للحكم في نهاية الثمانينات، بكوادرها الشابة التي قادت المعارضة البرلمانية وعركتها التجربة في الجامعات -خاصة الخرطوم-. وقد شهدت التنظيمات السياسية في الآونة الاخيرة أزمة حادة، مما جعلها دون استثناء تتحسس مستقبلها بتوجس، ان لم تفكر في الاستعانة ب (محترفين اجانب)!!. خاصة بعد ظهور الوسطاء والمراقبين في قضايا السودان الكثيرة. ويرى مراقبون ان التنظيمات لم تعد تعتني بكوادرها الشابة كما السابق، في ظل أزمة مبدعين في شتى المجالات- بما فيها السياسي. فمحمد الطندب (عضو اللجنة العلىا لاعلام الحزب الاتحادي) إعتبر في حديثه ل «الرأي العام» أن انسداد آفاق الترقي في التنظيمات السياسية الا بالطرق الملتوية، والمناخ السياسي الطارد اديا الى الانصراف عن العمل السياسي في الجامعات، الامر الذي ادى الى صعوبة في اعداد واختيار كادر نوعي مميز، والى ندرة وجود لكوادر قيادية يلوح في محياها مشروع سياسي محنك مثل الشريف حسين الهندي والازهري لدى الاتحاديين، وكالترابي وعلي عثمان ورفاقه عند الاسلاميين، والصادق في اوج شبابه في اواخر العشرينات عند حزب الامة، وكالطالب النابغة عبدالخالق محجوب عند الشيوعيين. ويتوقع محمد حسن التعايشي رئيس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم الاسبق (اصبح الآن عضو المكتب السياسي لحزب الامة) ان تشهد الفترة القادمة ظهور قيادات جديدة يفرضها واقع الحياة وتمليها سنة الاستخلاف، وتكمن المشكلة حسب وجهة نظر (التعايشي) في ان هذه القيادات غير مدربة، لأسباب تتعلق بإنغلاق مؤسسات التعلىم العالي على نفسها في الفترة الاخيرة، علاوة على جملة من التشوهات التي لحقت بها، الامر الذي جعل القوى السياسية لا تعتقد في امكانية انتاج هذه المؤسسات لكوادر مؤهلة كما كان الحال في السابق. لذا اتجهت الاحزاب الى الاستعانة بمراكز تأهيل ومؤسسات لبناء القدرات، سواء داخل البلاد او خارجها. عبر التعاقدات او المنح. فطلاب وشباب المؤتمر الوطني تتوافر لهم فرص التدريب والتأهيل على اعلى مستوى، علاوة على بعض التنظيمات الاخرى التي لديها امكانيات تأهيل لكوادرها بطريقة غير منظمة عبر علاقاتها الخارجية. ويضيف (التعايشي) ايضا ان شباب المؤتمر الوطني يتوفر لهم ما لا يتوافر للتنظيمات الاخرى، فقد تم ابتعاث عدد منهم الى لندن عبر عقد مع مركز متخصص في بناء القدرات لتلقي دورات في (اللغات، الاتصال، التفاوض.. الخ....). في المقابل أصبح كوادر التنظيمات الاخرى يعتمدون على انفسهم في المقام الاول للتأهيل وتعزيز القدرات، بينما تقوم التنظيمات بدور التربية السياسية فقط، بعد ان تنازلت -لضيق ذات اليد- عن دور التأهيل السياسي لمؤسسات المجتمع المدني. ويذهب الناشط في المجتمع المدني ناجي شيخ الدين الى منحى آخر حيث يقول: (إن السياسة فقدت سحرها، ولم تعد جاذبة للشباب، بسبب القبضة البوليسية، والعولمة التي تكرس حاليا في كثير من جوانبها للمال كمصدر للسلطة والتغيير). ويواصل شيخ الدين حديثه بأن ازمة القيادات شاملة، فالحركة الاسلامية فقدت خيرة شبابها، وافضل القيادات الشابة في محرقة الجنوب. اما بقية القوى السياسية فقد خسرت ايضا الكثيرين في صراعها على السلطة منذ العام 1989م، كما تسبب المناخ العام في هجرة ورحيل الكثير منهم. نواصل