فهو خروج من ألف الرحيل ليلاً وألفته الدروب وحيداً، رفيقه جواده، فنور المدن لا يبدو إلاّ في ظلمة وكأنه صديقه الراحل في الليل وحيداً: عبد الرحيم أبو ذكرى، وكأن ورد العطاء السابق واللاحق لولا رحيله المفاجع المبكر مات على كفه لا يجد من يواريه اذ زهد فيه الناس. وهي قصة الغربة والفقد والتضحية الابدية لورود الوطن. ورمز هذا الرحيل شيمة المبدع الثائر فارس قومه يحارب بدمه وقلمه الذي تضيق به اسوار سجن وطنه فيضرب في فيافي الارض يبتغي متنفساً وحرية وقد رحل من قبل محمد عبد الحي وعاد لقبيلته مليء الجراب بدرر الحكمة، ولكنه عندما ضاقت به الأرض بما رحبت آثر أن يغيب في الأفق على عجل قبل الوداع على فرسه الأشهب تاركاً لنا إرثاً لم نتيقن فهمه ولا حدثنا بنعمته الخليقة وقد نبأنا برحيله دون ان ندرك ما رمي إليه: «هنا أنا والموت جالسان في حانة الزمان وبيننا المائدة الخضراء والنرد والخمرة والدخان من مثلنا هذا المساء؟ هو الموت يسعي إلينا بلا قدم في الدجى والنهار خلقنا له ناضجين استدرنا له فلماذا البكاء؟». وقد طرق المتنبي رحيل الفارس من قبل حين قال: «الخيل والليل والبيداء تعرفني ?? والسيف والرمح والقرطاس والقلم» وها هو إلياس فتح الرحمن يعيد خروج لوركا يبحث عن قرطبته الخادعة، التي تغريه بنورها وتحرقه بنارها مغنياً لسفره، وهكذا المبدعون في بحثهم الدائم عن الحرية والعدالة للجميع يقطعون فيافي الزمان حتى يوصلون راية وشعلة النضال لمن يحملها من بعدهم لتستمر ديمومة الثورة تغذى نهرها بدماء الثوار الرافضين للخنوع فيكملون دورات بعضهم البعض يتناولون الرّاية مّمن ترجل عن مهره عندما يسلبه الحلم حياته: قرطبة نائية وحيدة مهر أسود، قمر ضخم وفي خرج السرج الزيتون ورغم أني اعرف الطريق فلا سبيل أبلغ قرطبة عبر السهل، عبر الريح سهر أسود، قمر أحمر والردي إلىّ ناظر من على قلاع قرطبة ولنا أن نتساءل هل كان رحيل كل هؤلاء، منذ المتنبي وحتى عبد الرحيم أبو ذكرى، وموتهم في غربة عن بلادٍ تغنوا بها ووهبوها ارواحهم وحبهم محض صدفة أو عبثاً لا طائل من ورائه؟ فكل المبدعين غرباء في حالة ترحال دائم خارجي وداخلي فبودلير وصف شيئاً مماثلاً فصار الصديق صنو الرحيل: «أنت لما عشقت الرحيل لم تجد موطناً يا حبيب الفضاء الذي لم تجسه قدم يا عشيق البحار وخدن القمم». ووصف هذا الرحيل ناظم حكمت: «لذا علىَّ ان اعود الى اماكن كثيرة قادمة كي ألتقي نفسي، أتفحصها دون توقف دون ما شاهد الا القمر بعدها اصفر فرحاً وأنا أطأ حجارة وترابا دون ما هم غير العيش ودون ما اسرة غير الطريق» وأي صديق تبتغي غير جوادٍ يحملك بلا كلل أو ملل وعرق جلده كدموع اعين باكية أو شموع ذائبة في غيهب الليل تضيء الطريق لمدن الأحلام يجذبك بريقها، يشاركك المصير والألم والمناجاة، ويؤنسك في السرى رفيقاكما الحلم والأمل ورحم الله المتنبي حين قال: «وما الخيل الا كالصديق قليلة ?? وإن كثرت في عين من لا يجرب» وعندما يتوه الدّرب فتطرق درباً آخر تخذّ السير حتى تدرك مبتغاك، تجد ان الضوء الذي جذبك لم يكن إلا من نار حريق الحرب الهوجاء، لا سبب ولا معنى له إلاّ العبث، ولا يعادله إلا حريق أحلامك في داخلك، ولا يجد قبرك ما يضمّه، فقد انتشر رمادك وذراه الريح مثل ورود ذاوية، حملها ظهر أو كف صديق ورفيق رحلتك. فإذا انت وجوادك توحد ووحدة، بعد ان ترجل رفاقك عن خيلهم واحداً بعد الآخر عند وقوعهم اسرى للعناء والشقاء والإغراء. والشاعر يسائل الطريق، فهو ادرى بالاجوبة وقد شهد بداية الزمان ويدرك المكان، بعد أن أكسبه حياةً أو تنّبه لها أو ينبهنا لحياته الأزليّة: «فما بكت عليهم السماء والارض» يسأله عن مكان يواري فيه أجمل ما حمل صديقه وحاول اهداءه لشعبه فتجاهلوه حتى ذوت وروده في يده، وأشفق عليه وعليها الشاعر وسعى لقبر يسعها ولم يجد غير قلبه مثوى لها فقلب المؤمن وسع الله سبحانه وتعالى حين ضاقت به السماوات والارض. وقد طرق محمود علي طه المعنى منشداً: «ضاع عمري وما بلغت طريقي وشكى القلب من عذاب وضيق» وهذا الحريق الذي يذكره إلياس فتح الرحمن من المدن، التي خدعه بريقها واكتشف حريقها، هو ليس حريقاً عبثّىاً ولا نتج من سذاجةٍ وإنّما كما قال ناظم حكمت: «أصرخ، أصرخ، أصرخ كثير هو الحزن ولا من معين القلوب خرساء، ثقيل هو الهواء كالرصاص أقول له، لأحترق، وأتحول إلى رماد إن لم أحترق أنا، وتحترق أنت».