«1» كانت أيامي في إدارة الإعلام في وزارة الخارجية بين عامي 2005-2006م، أيام رهق مفرح، وعنت مفيد. ذلك كلام قد لا يصادف فهماً عند من لا يرى إلا الوجه الظاهر منه، فيحيلني إلى شرح أكثر. كنت في تلك السنوات أدير الإعلام، ولكن كان للمهمة وجهها الصعب، وهو تولي النطق والتعبير الرسمي عن مواقف وزار ة الخارجية، إزاء مختلف الأزمات الناشبة في البلاد، وقد صارت جزءاً من ملفات أجنبية، ترى أطراف خارج السودان أنها من صميم ملفاتهم، وأن مناكفاتنا فيما بيننا داخل البلاد، تتصل بمناكفاتنا لهم. بعد ثورة الاتصالات والانكشاف المعلوماتي، صارت الحذلقة القديمة والمناورات اللفظية، أمور تجاوزها الزمن الجديد، وذلك مما ضاعف من ضرورة التفاعل السريع مع المستحدثات التي تتصل بنا في الساحة الدولية. من محاسن الصدف ان مكاتب إدارة الإعلام كانت تجاور مكاتب تفضلت الوزارة وخصصتها لجمعية الأممالمتحدة في الخرطوم، ولرئيسها الرجل الكبير، عقلا وبدنا، عمنا شيخ الدبلوماسية السفير بشير البكري.. لو كان الجيل المؤسس في وزارة الخارجية، قد دخل إلى دهاليزها في الخمسينيات، فنحن من جيلها الثالث الذي ولج إليها في سنوات السبعينيات. السفير الراحل البكري هو من الجيل المؤسس، بل هو من بين أول من وضع اللبنات الأولى لعلاقات السودان الدبلوماسية مع أوروبا، ومع فرنسا بوجه خاص. ما سعدنا بصحبته وهو في الوزارة من كبار رجالها، إذ حين أكمل مهمته الأخيرة، سفيراً للمرة الثانية في باريس، كنا نحن ندشن دخولنا إلى الدبلوماسية منتصف السبعينيات، ويعتمدنا، شيخها الألمعي المفكر جمال محمد أحمد، دخلنا في يفاعتنا وما هيأ القدر لنا رفقة مع كبار سدنة الدبلوماسية السودانية وحافظي أسرارها، ننهل مباشرة من معينها، لكنهم تركوا لنا التقاليد الراسخة، منارات تعين إلى فلاح، ومصابيح تقود إلى نجاح. ما التقيت الراحل إلا وقت ان زرناه برفقة صديق العمر الدكتور الواثق محمد حاج الخضر علي كمير، بعد ذلك بقليل في داره العامرة بحي »باريس« بداية شارع الحرية، والواثق يعد العدة وقتذاك للزواج من كريمته الدكتورة النابهة زينب بشير البكري. كان عمنا السفير بشير، في رقته المعهودة يسأل ونحن نجيب، في رحاب معلم كبير، واسع العقل عميق التجربة. «2» قلت: كانت سعادتي بمقامي في إدارة الإعلام، جوار مكاتب السفير الكبير سعادة كبرى وجائزة، حسدني عليها الكثيرون من بين زملائي في الوزارة.. أجل.. كنت قد بدأت وقتذاك، ارتب لترسيخ دور للناطق الرسمي باسم الوزارة، يخرج صوتي عبر الأثير وعبر شاشات التلفزة، وأنا على تردد ورهبة، فالتجربة لا تاريخ لها ثابت في وزارة الخارجية، برغم ان مستحدثات ثورة الإتصالات استوجبت نظراً جديداً في إعلام وزارة الخارجية، كنت أتلمس ردود الافعال، وأتقصى عن الانطباع الذي تتركه تصريحاتي. في الأيام الأولى، ما همني كثيراً محتوى التصريح، بقدر ما همني أسلوب العمل وطريقة إخراجي للتصريحات التي تصدر عني باسم الوزارة، متلمساً النجاعة والمصداقية، وهما لازمتان لا تقوم المهنية إلا بهما. قبل ساعة الإفطار المعتادة، يدلف إلى مكتبي، يقوده سائق سيارته، ومتخذاً عصاه الصغيرة سنداً، رئيس جمعية الأممالمتحدة في السودان السفير بشير البكري.. أحياناً يجلس، وكثير أحيان يظل واقفاً لا يستجيب لرجواتي، بزعم حرصه ألا يأخذ من وقتي فيما لا يفيد وأكثر مما يحب. يتسربل بمثل هذا التواضع الجم، فيما لا أعرف لمجلسي أو لوقفته معي، إلا كل صالح وكل مفيد. يحدثني عما لاحظه في تصريحاتي، يناقش خلفياتها ويدلني على ما التبس فيها جراء تعقيدات الأزمات الناشبة، تنخفض وتيرتها و»نيفاشا« تقترب من الأفق الإيجابي، أو تعلو وتيرتها واتفاق »ابوجا« لا يجد الرضا ولا القبول.. برغم سن الرجل، وبرغم انشغالاته العديدة، وتشعب اهتمامه بقضايا السياسة والبيئة والدبلوماسية والتعاون الدولي، ما كان يغفل عن تصريحات ينطق بها متحدث باسم الوزارة، يعرف هو عظم مسئولية القول المطلق عبر الأثير، فتفيض نصائحه عليَ، يشفق علىَ من الزلل ومن القول المهلك، ويبصرني ان هفوت، وينصرني ان ظلمني آخرون، ثم يشد من أزري وأنا - بعد- أحتاج إلى الكلمة المشجعة، تحضني على تجويد ما كلفت به من عمل بالغ الحساسية في نظر الوزارة، وبالغ الخطر في نظر الناس، كبيران شدا من أزري، وسانداني سنداً معنوياً ما بذلك من جهد، وأنا أنطق باسم وزارة الخارجية. الأول هو الراحل السفير بشير البكري، والثاني هو البروف علي شمو، أطال الله عمره، وأفادنا بعلمه وخبرته. «3» على أيامنا في وزارة الخارجية، طيلة عقد الألفية الأول، كان الراحل الكبير هو نجم منتديات الوزارة، و»المتداخل« الأول في ندواتها السياسية والثقافية والاقتصادية، إسهاماً لا يأتي إلا من ضليع متمكن، وبليغ ذرب اللسان. ما قال كلمة ولا تفضل بتعبير لمجرد ان يقال إنه شارك بصوته، أو ليثبت حضوراً فاعلاً، لكنه يطلق الملاحظة الثاقبة العميقة على ما يسمع من محاضرات وندوات، ويبدي الرأي السديد، حين تتشعب الرؤى وتدلهم السبل وتتلجلج الحجج وتلتمس الشورى. تعلمنا منه كيف تكون الدبلوماسية مهنة صرفة، لا تشوبها مناوشات السياسة، و لا تحاصرها المصالح الضيقة، فقد عمل الراحل وبذل عمره بالكامل، ومصالح الوطن نصب عينيه، وبناء صورته رهن عقله الثاقب.. أدرك باكراً مثلما أدرك كل جيله من الدبلوماسيين والسفراء، ان في نقاء الدبلوماسية نقاء للوطن، وان الانحياز لتيارات السياسة، انحراف بمهنيتها عن جادة الفعل الإيجابي، من جيله رجال كثيرون قاوموا قسر الدبلوماسية لتحني قامتها السامقة أمام ضغوط السياسة وتجبر الساسة وغطرستهم.. حين جرى التوغل على الدبلوماسية، أواخر سنوات الستينيات، وجمال محمد أحمد وكيلاً يدير أمورها الإدارية، فإن الغيرة على المهنة بلغت شأواً عالياً في عهده، فقد أقدم على التلويح باستقالته إن لم يكف السياسيون عن التغول في وزارته، والتدخل في شئونها.. رئيس الدولة الحكيم آنذاك، وقف إلى جانبه ونصره. ذلك إرث الدبلوماسية السودانية، وكان الراحل الكبير بشير البكري أحد أركان سدانته ورأس حماته. رحل عنا، ولكن بقيت روحه تحرس إرثنا الكبير وتزود عنه. «4» سيحدثكم غيري عن سهم السفير الراحل في اليونسكو.. شهد بداياتها الفطيرة في الأعوام التي تلت الحرب العالمية الثانية، ووقف على مراحل تطورها، ثم كان احد كبار الراسخين من خبرائها، فأبلى أحسن البلاء ورفع للسودان اسماً في المنظمة الدولية. ما اختاره أحمد مختار امبو مستشاراً له في اليونسكو من فراغ.. بل عن ثقة في مقدرات الرجل، وعن إدراك صائب لسهمه الكبير في الارتقاء بأدائها.. تنوعت خبراته في المنظمات الدولية والإقليمية، واتسعت رؤاه وتجلت حكمته. ما بخل بها وهو ينضم عضواً في وفد السودان في جلسة تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا عام 1963م. تنوعت تجربته الحياتية، فدلف بهمته العالية، يجتهد في قطاع المصارف منذ »كريدي ليونيه«، ثم يكون من مؤسسي بنك النيلين بعد ذلك.. لم تسعفه الهمة وحدها بل خبرته الأكاديمية والمهنية في هذا المجال، فأبلى خير البلاء فيه. يتقاعد عن العمل الدبلوماسي، فيجد خبرته تتعتق وهو يسهم في تأسيس صرح تربوي كبير، هو صرح جامعة امدرمان الأهلية، وفي كل ذلك، ما انقطع قلمه عن تناول مستجدات الساحة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية، مستصحباً تلك الخبرة الواسعة، وذلك النظر العميق في تناوله لجل هذه القضايا. ينطوي عام على رحيل البكري، ويظل مكانه فضاء شاسعاً يذكرنا بعظيم فقده، وعظيم حاجتنا لحكمة مثل حكمته، ولحذق مثل حذقه، ولانحياز منقطع للوطن مثل انحيازه.. الخرطوم 28/ديسمبر/2011م