د. أمين حسن عمر كان السودان دائماً حاضراً بقوة فى الأجندة الصهيونية منذ كانت اسرائيل فكرة على الورق. بل كان جزءٌ من السودان وهو جنوب السودان الى جانب يوغندا هو الأرض الأولى التى أُقترحت لاقامة الدولة الصهيونية ولم تتغير النوايا الا بعد وعد بلفور.وظلت الفكرة حاضرة بوصفها خطة بديلة حتى صدور الكتاب الأبيض.بيد أن اقامة الوطن المزعوم فى فلسطين لم يسحب الاهتمام من منابع النيل فى يوغندا وجنوب السودان والتى تمثل الحد الجنوبى للوعد التوراتى المزعوم لبنى اسرائيل بمنحهم الأرض من النيل الى الفرات . السودان فى الأجندة الاسرائيلية: والسودان بصفته أكبر الأوطان العربية وأثراها بالموارد الطبيعية وموارد باطن الارض ظل محل اهتمام لا يتزحزح. ووجد جنوب السودان اهتماماً خاصاً فى الأجندة الاسرائيلة .لعدة أسباب أهمها قربه من مصدر مياه النيل بل ومشاركته بنسبة يعتد بها فى زيادة مصادر المياه بما يهطل فيه من أمطار غزيرة ترفد النيل بأنهار بحر العرب وبحر الزراف ونهرالسوباط وكذلك فان مشروعات تطوير الموارد المائية لنهر النيل ترتبط جميعا بجنوب السودان بمعالجة المستنقعات والتبخر لضمان تدفق أكبر قدر من المياه شمالاً.كذلك فان الجنوب يمثل عمقاً بعيدا للعالم العربى فى عمق القارة الافريقية . وفصل أفريقيا العربية عن أفريقيا الزنجية ظل هدفا لا يحيد عنه المخططون الاستراتيجيون فى اسرائيل . ثم ان الجنوب يختلف اثنيا ودينيا الى مدى ملحوظ عن بقية أجزاء السودان . وقد وفرت السياسة الاستعمارية البريطانية الأدوات التشريعية والسياسية لتكريس هذا الاختلاف بل وتحويله لانشقاق فى جنوب السودان . ولعل ذلك لم يكن بمبعدة عن ما تتطلع اليه الصهيونية . فأصابع أسرائيل فى بريطانيا كانت ذات تأثير كبيرخاصة وأن أمور السودان كانت تدار فى وزارة الخارجية لا فى وزارة المستعمرات . ووزارة الخارجية أكثر تعرضا للنفوذ الصهيونى من وزارة المستعمرات كما يدرك العارفون . العقدة الأسرائيلة فى مسألة الجنوب : اسرائيل كانت حاضرة منذ اليوم الأول فى مسألة الجنوب والتى بدأت بتمرد توريت فى العام 1955 وقبل اعلان استقلال السودان . وكان هدف التمرد فصل جنوب السودان على الرغم من اختيار كل زعمائه للوحدة مع الشمال فى مؤتمر 1946. وكان هذا الاختيار على خلاف ما سعى اليه منظمو المؤتمر الاستعماريون . وجاء قرار الزعماء بالوحدة موجعا أيضاً للكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى التى استأثرت بالشأن الاجتماعى والدعوة والتعليم فى جنوب السودان. أما سياسة اسرائيل لاستخدام مسألة الجنوب أداة لاضعاف السودان فيعبر عنها وزير الأمن الأسرائيلى الأسبق آفى دختر بوضوح ودون مواربة (كانت هنالك تقديرات إسرائيلية حتى مع بداية إستقلال السودان فى منتصف عقد الخمسينات أنه لا يجب أن يسمح لهذا البلد رغم بعده عنا أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربى لأن موارده إن أستثمرت فى ظل أوضاع مستقرة ستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب. وفى ضوء هذه التقديرات كان على إسرائيل أو الجهات ذات العلاقة أو الإختصاص أن تتجه إلى هذه الساحة وتعمل على مفاقمة الأزمات وإنتاج أزمات جديدة حتى يكون حاصل هذه الأزمات معضلة يصعب معالجتها فيما بعد. وكون السودان يشكل عمقاً إستراتيجياً لمصر فهذا المعطى تجسد بعد حرب الأيام لسنة 1967 عندما تحول السودان إلى قواعد تدريب وإيواء السلاح الجو المصري والقوات البرية هو وليبيا . ويتعين أيضاً أن نذكر بأن السودان أرسل قوات إلى منطقة القناة أثناء حرب الإستنزاف التى شنتها مصر منذ عام 1968-1970. لذلك كان لابد أن نعمل على إضعاف السودان وإنتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة رغم إنها تعج بالتعددية الإثنية والطائفية لأن هذا المنظور الإستراتيجى الإسرائيلي ضرورة من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القومي الإسرائيلي) . فالحصول على موطىء قدم راسخ فى الجنوب كان هدفاً استراتيجياً لكن استخدام الجنوب وسيلة لاضعاف السودان الكبير والتسبب فى تمزيقه كان هدفاً آخرلاتقل أهميته عن الهدف الأول .وقد نفذ عملاء اسرائيل بطرق واضحة وخفية الى جنوب السودان منذ التمرد الأول . وظلت اسرائيل هى الراعى الأهم لكل حركات التمرد باعتراف زعمائها منذ الأنانيا الى ماتتسمى بحركة تحرير السودان وفرعها الحالى المتسمى حركة جيش تحرير السودان قطاع الشمال . وسياسة استخدام الاقليات الاثنية والدينية والطائفية سياسة راسخة فى الاستراتيجية الاسرائيلة عبر عنها بن غوريون ثم غولدا مائير ابان توليها حقيبة الخارجية الاسرائيليةزتقول غولدا (إن إضعاف الدول العربية الرئيسية وإستنزاف طاقاتها وقدراتها واجب وضرورة من أجل تعظيم قوتنا وإعلاء عناصر المنعة لدينا فى إطار المواجهة مع أعدائنا . وهذا يحتم علينا إستخدام الحديد والنار تارة والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة أخرى(.بيد أن حرب اسرائيل فى السودان لم تكن دائما فى طى الخفاء فقد كشفت تقارير كثيرة منشورة وأبحاث فى الدوريات ومقالات فى الصحافة الاسرائيلية النشاط الاسرائيلى فى الجنوب منذ مطلع الستينيات . ففى أحد التقاريرالتى أعدها المحامي إيتي ماك ومعه البروفيسور عيدان لاندو، يكشف تقريرهما خوض اسرائيل "حربًا سرية" في جنوب السودان، منذ ستينيات القرن الماضي، ويقرران انها دعمت ما يسميانه نضال المتمردين الداعين للتحرر من حكم الخرطوم. وهذا الدعم الإسرائيلي حسب لاندو لم ينبع من القيم التى تؤمن بها اسرائيل أو من تعاطفها الصادق مع نضال شرعي للتحرر، وإنما نبع بالأساس من مصالحها الإستراتيجية . وقد بدأت صفقات الأسلحة الإسرائيلية لجنوب السودان تتدفق في الستينيات عبر الأراضي الأوغندية، فأول صفقة كانت عام 1962م، ومعظمها من الأسلحة الروسية الخفيفة التي غنمتها دولة الاحتلال من مصر في عدوان 56, ثم في منتصف الستينيات حتى السبعينيات، استمر تدفق الأسلحة من خلال أحد العملاء الذى هو "جابي شفيق" وبعض هذه الأسلحة كانت روسية استولت عليها إسرائيل في حرب 1967وقدرت مجلة (معرجون) العسكرية الاسرائيلية أن مجموع ما قدمته إسرائيل لجيش تحرير السودان خلال الحرب على الشمال مبلغ يربو على500 مليون دولار، قامت الولاياتالمتحدة بتغطية الجانب الأكبر منه. ووصل الأمر بها الى تدريب مئات الضباط فى اسرائيل والتكفل بدفع رواتبهم . وقادة المخابرات الاسرائيلية يتفاخرون بذلك علناً حيث يقول الرئيس السابق للاستخبارات الحربية الإسرائيلية (أمان )"عاموس يادلين" : "لقد أنجزنا عملًا عظيمًا للغاية في السودان, نظمنا خط إيصال السلاح للقوى الانفصالية في جنوبه ودربنا العديد منها، وقمنا أكثر من مرة بأعمال لوجستية لمساعدتهم، وشكلنا لهم جهازًا أمنيًّا استخباراتيًّا". وقد ارتفعت وتيرة الدعم فى الثمانينيات لتبلغ الدعم المباشر للحركة الشعبية بأسلحة متقدمة بل وتدريب عشرة من منسوبيها الضباط على قيادة مقاتلات خفيفة للهجوم على المراكز الحكومية في الجنوب، بل إن اسرائيل وفرت للحركة الشعبية ولا تزال توفر صورًا عن مواقع القوات الحكومية تلتقطتها أقمارها الصناعية، ويقوم بعض خبرائها بوضع الخطط الميدانية بل قيادة الطائرات والقتال إلى جانب الانفصاليين . وكانت أثيوبيا على عهد مانقستو تشكل مركز الدعم والأمداد وانتقل المركز الى كينيا بعد سقوط نظام مانقستو فصارت هي جسر الاتصال بين الطرفين بدلًا من إثيوبيا، ولا تزال اسرائيل تسلح جنوب السودان حتى فى أتون الحرب الأهلية بين أبناء الجنوب وبعد أن فرضت الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة حظرًا على بيع أسلحة لجنوب السودان . ووفق مصادروزارة الدفاع الإسرائيلية فأن صادرات الأسلحة الإسرائيلية إلى أفريقيا سجلت ارتفاعًا كبيرًا في عام 2014، بلغت نسبته 40% قياسًا بالعام الذي سبقه، علمًا بأن صادرات الأسلحة الإسرائيلية إلى أفريقيا في عام 2013 سجلت هى الأخرى رقمًا قياسيًّا. ووفقًا لهذه المعطيات فإن حجم صفقات الأسلحة بين إسرائيل ودول أفريقية بلغ 318 مليون دولار في العام الماضي، فيما كان حجم الصفقات 223 مليون دولار في عام 2013.ويرجح المراقبون ان غالب هذه الأسلحة ذهبت الى جنوب السودان والى قطاع الحركة الشعبية الذى يقاتل الحكومة السودانية فى جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق والى الحركات الدارفورية التى تقاتل فى الوقت الراهن الى جانب حكومة سلفاكير. وأصبحت نقطة الارتكاز هذه المرة هى كمبالا بدلا من نيروبى. السودان هو المستهدف : و الدعم الاسرائيلى لحركات التمرد فى جنوب السودان لم يقتصر على التسليح والتدريب بل شمل ادارة حملة دبلوماسية عالمية لدعم التمرد وأدانة وعزل حكومات الشمال التى تقاتله .ونشطت اللوبيات الصهيونية فى الولاياتالمتحدةالأمريكيةوالعواصم الأوربية فى تسعير هذه الحملة وألصاق أردأ الأساءات بحكومات السودان المتعاقبة بل وبشعبه . وتصوير السودان الذى يتميز بروح من التسامح لا مثيل لها حتى فى العواصم التى تدار منها الحملة بوصفه جحيما من التمييز العنصرى والتباغض الأثنى . ان الأعلام الصهيونى بنفوذه الواسع عبر العالم رسم وجها بشعاً للسودان رغم كل الحقائق والشواهد المحسوسة الملموسة التى تكذب تلك الدعايات الكاذبة الظالمة . ولا يزال السودان يدفع أثماناً باهظة بسبب الصورة المصنوعة عنه فى المخيلة الغربية على وجه الخصوص . وقد أدت تلكم السياسات الى اقناع صانعى السياسات فى أوربا وأمريكا وبضغط من الاعلام بالتحول الى تأييد انفصال جنوب السودان . وذلك على الرغم من ممانعة الكثير من أهل النظر الاستراتيجى الذى حذروا من مغبة أن يؤدى انفصال الجنوب الى حرب أثنية تمزق الجنوب الى ما يشبه الوضع الصومالى . وتزيد من المخاطر على الجوار المباشر له والذى لا يخلو من أوضاع النزاع وأسبابه . وهاهى تنبؤات الأمس تتحول الى حقائق اليوم و يدفع تكلفتها الملايين من المواطنين البسطاء وقد يمتد أوراها الى الجوار . والاستراتيجية الاسرائيلية هى استراتيجية ضد الدولة السودانية ومن ظن غير ذلك فقد وهم . والسودان الوطن هو المستهدف لا حكومة من حكوماته أياً ما تكون تلكم الحكومة . وسواء كانت تلكم الحكومة فى محور التطبيع أو محور الممانعة فلا فرق . وقد بينت تجربة التقارب الاسرائيلى مع نظام نميرى أن الجهود الاسرائيلية فى دعم التمرد وأضعاف الدولة لم تهدأ ولم تخف أنساقها بل ربما زادت. فبعد محاولة الحزب الشيوعي الانقلابية الفاشلة على الرئيس الراحل جعفر محمد نميري عام 1971، وإبتعاد السودان عن الاتحاد السوفيتي، واقترابه بل اندماجه فى المحور الأقليمى الأمريكى فان اسرائيل مضت حثيثا فى مشروع تقسيم السودان . وذلك على الرغم من تحسن العلاقة مع أمريكا وبالرغم من اتفاقية أديس أبابا التى تمت برعاية أمريكية . وأعقبتها فترة هدنة و هدوء للعمل المسلح في جنوب السودان . بيد أن إسرائيل تحركت فى أكثر من محور لمواصلة دورها في السودان . وبناء عملاء لها خاصة فى جنوب السودان . كذلك أدى تجاوب بعض ذوى الغفلة فى حكومة الرئيس نميرى وتهافتهم للتطبيع مع الدولة الصهيونية الى تمكين اسرائيل من تحقيق مشروع تهجير الفلاشا عبر السودان بعلم الدولة السودانية وتؤاطو بعض أركان الحكم حينئذ . ولم يكف ذلك التهافت والتعاون لكى تتراجع استراتيجية اسرائيل لفصل الجنوب فاستغلت الخلافات الجنوبية الجنوبية حول تقسيم الجنوب الى ولايات بدلاً من الأقليم الواحد للعودة الى مربع الحرب من جديد فى العام 1983. وحدث ذلك فى أعلى مراحل التعاون بين حكم الرئيس نميرى والدولة الصهيونية . وبانهيار اتفاقية أديس أبابا للسلام في عام 1983 ونشؤ الحركة الشعبية لتحرير السودان وجدت اسرائيل حليفا أقوى للتغلغل في السودان وتنفيذ مخططها لتقسميه جنوبًا وشمالا. فبدأت تستقبل ضباط الحركة لتدريبهم على حرب العصابات، بل وأتاحت لهم الالتحاق علناً بالمعاهد العسكرية الإسرائيلية . وقد أورد ذلك الضابط المتقاعد بالمخابرات الإسرائيلي (موشي فرجي ) وهو من جرى تكليفه من قبل المخابرات بتقديم الدعم والمعلومات الاستخبارية والخرائط الجوية للتمرد في الجنوب من خلال ما تصوره أقمار اسرائيل الصناعية. واستمرار استراتيجية فصل الجنوب يطرح أسئلة مهمة حول أمكانية وجود أصابع اسرائيلية فى حادث الموت الغامض للزعيم الجنوبى جون قرنق قائد الحركة الشعبية والذى أكد مراراً وتكراراً رفضه لانفصال الجنوب عن الشمال . وبخاصة بعد ابرام أتفاق السلام الشامل وعودته للشمال والاستقبال الكبير الذى حظى به فى الخرطوم . ولا عجب أن تطرح تلكم الأسئلة تفسها بالحاح فالعلاقات الاستخبارية الحميمية بين كمبالا وتل أبيب تجعل احتمال التؤاطو للتخلص من الزعيم الذى يوشك أن يهدم أستراتيجية الانفصال التى عملت عليها أسرائيل سنين عددا احتمالا لا يمكن صرفه بهزة كتف . نواصل