الخميس, 04 آب/أغسطس 2016 بدءً أقول إن النخبة الشمالية ليست هي المسؤولة عن انفصال الجنوب، ولا هي بريطانيا واختلف مع كل الذين يذهبون في هذا الاتجاه.. وسوف أعود لتفصيل ذلك لاحقا.. لم أقرأ كتاب الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان «انفصال جنوب السودان.. دور ومسؤولية القوى السياسية الشمالية» ، ولكن قرأتُ ملخصات له من خلال كتابات البعض مثل الدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك (سلسلة مقالات في صحيفة السوداني، أحدها في 16/7/ 2016) وكذلك سلسلة مقالات السفير خالد موسى (في صحيفة «السوداني» – ابتداءً من 26/6/2016)، ومقالات مؤلف الكتاب نفسه عن كتابه في صحيفة «التيار» (أحد هذه المقالات بتاريخ 11/7/2016). وكذلك كتب في هذا الموضوع (من المسؤول عن انفصال الجنوب.؟) البروفيسور حسن الحاج علي في صحيفة «السوداني» (13/7/2016) تحت عنوان (البروفيسور محمداني يُحمِّل الترويكا مسؤولية ما حدث في جنوب السودان). حيث تناول المقال ترجمة وتلخيصا لمحاضرة قدمها البروفيسور محمداني على هامش مؤتمر الوكالة النرويجية للتنمية الذي عُقد في أوسلو يومي 5 و 6 يونيو 2016 وكانت المحاضرة بعنوان (جنوب السودان.. الطريق إلى الحرب الأهلية) خلاصة هذه المحاضرة هي أن البروفيسور محمود محمداني ينطلق من أطروحة تحمِّل ما حدث في جنوب السودان للترويكا وعلى رأسها هيلدا جونسون، وهذه الأخيرة (ممثل الأمين العام للأمم المتحدة السابق بجنوب السودان) صدر لها كتاب عن الجنوب تحت عنوان (جنوب السودان.. القصة التي لم ترو من الاستقلال إلى الحرب الأهلية)، ويُعد كتابها وكتاب د. سلمان من أبرز الكتب التي صدرت مؤخرا لمناقشة أسباب وتداعيات انفصال جنوب السودان واشتعال الحرب الأهلية مقال السفير خالد موسى (السوداني)، 26/6/2016) وقد وصف السفير خالد كتاب الدكتور سلمان بأنه نوع من «جلد الذات، كأحد ترميزات وأصداء الاشتراكية الرومانسية» ، كما اتهم أيضا هيلدا جونسون بعملها وإسهامها الفعلي في فصل جنوب السودان من خلال مواقعها المختلفة كوزيرة للتعاون الدولي في النرويج ومسؤولة أممية في الأممالمتحدة، ومن خلال صلاتها بأطراف المجتمع الدولي واللاعبين الأساسيين في عملية السلام في السودان.» قد يصدق القول بأن النخبة الجنوبية هي المسؤولة عما يحدث في دولة الجنوب الآن وهي مسؤولية تشاركها فيها الترويكا (أمريكا، بريطانياوالنرويج) التي قررت أن يصبح القادة العسكريون قادة سياسيين (محاضرة محمداني المشار إليها أعلاه). أتفق مع هذا الرأي. غير أني أختلف مع كل الذين ذهبوا إلى أن أسباب مشكلة الجنوب قبل الانفصال وأسباب الانفصال نفسه هو مسؤولية النخبة الشمالية، كان رأيي فيما يخص انفصال الجنوب قد قدمته في كتاب تحت عنوان «مسألة الجنوب ومهددات الوحدة في السودان» الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة في بيروت (2009) في (319) صفحة، (أي صدر بنحو عامين قبل الاستفتاء حول تحقيق المصير للجنوبيين). وقد انطلقتُ من فرضية أن مسألة الجنوب تقوم على صراع هويات. وأن الانفصال حتمي وسوف يتم سواء أكان سلميا بالاستفتاء أو عن طريق انقلاب (انفصال) بالقوة. وذهبتُ فيه إلى أن نيفاشا لم تضع حلا لمشكلة الجنوب لأنها خاطبت القضية في بعدها السياسي، الأمني والعسكري؛ بينما أغفلت جوهر المشكلة والمتمثل في انعدام الاندماج الاجتماعي، الثقافي والنفسي. وأن هناك تصورات في مخيلة الجنوبيين رسمت صورة للشمالي تراكمت في وجدان الجنوبي عبر التاريخ جعلته يشعر بالعزلة والاختلاف عن شعب الشمال إلى درجة النفور والكراهية أحياناً. وقد حوى كتابي دراسة علمية (واستطلاعا ميدانيا) للجنوبيين المقيمين في الشمال – بعضهم مقيم منذ أكثر من ثلاثين عاماً. (أحد المستطلعين من الجنوبيين قال إنني أكره العرب الشماليين، لن أتعامل معهم إلا عند الضرورة، (الكمساري محصل النقود في الحافلة، والطبيب عندما أمرض)، ووصلتُ إلى نتيجة هي أن الجنوبيين في الشمال يعيشون كأنهم جاليات أجنبية (communities) لأنهم – على الرغم من وجود تعامل اجتماعي إلى درجة الصداقات مع الشماليين – إلا أنها ظلت علاقات سطحية، لم تتطور أو تتجذر إلى درجة الاندماج الاجتماعي النفسي الحقيقي بالنسبة للذين يقولون إن هناك زيجات تمت لشماليين من جنوبيات فهذا حدث في حالات محدودة اقتضتها ضرورات ظرفية. حيث إن تلك الزيجات تمت إما من تجار شماليين أو العسكريين في الجنوب الذين يعيشون لفترة طويلة هناك بعيدا عن أهلهم وأسرهم. لكن في الشمال ظل الجنوبيون يمارسون طقوسهم الخاصة بهم في الأفراح والأتراح بصورة معزولة عن الشماليين فهم لهم عادات وتقاليد مختلفة جدا عن الشمال والجميع يعرف أوجه الاختلاف ولا أحتاج للأمثلة والتفاصيل فيها. إذن للجنوبيين قيم وثقافة مختلفة، فإذا كان لهم قيم وثقافة مختلفة وكذلك دين ولغة مختلفة فهذا يعني أن لهم «هوية» مختلفة، لأن ما أشرتُ إليه يشكل المرتكزات والمكونات الأساسية للهوية. هذا مقروءً مع شعور الجنوبي بأنه مواطن من الدرجة الثانية وأنه مضطهد وأنه مظلوم ومهمش، وتراكم ذلك الشعور عبر السنين فشكل صورة ذهنية سالبة وإحساسا بعدم الانتماء للشمال؛ كل تلك العوامل والتراكمات عززت من نشأة هوية مختلفة. وفي الحقيقة أن البريطانيين عندما جاءوا وجدوا في هذه المنطقة شعبين مختلفين في الطبيعة والتكوين والثقافة، وبالتالي في الهوية؛ وبما أن لهم أهدافا وأطماعا استعمارية سعوا لاستغلال هذا «الاختلاف» لتحقيق أهدافهم عن طريق سياسات محددة، على رأسها سياسة المناطق المقفولة أو المغلقة. أي أن البريطانيين لم يصنعوا هذا الاختلاف، بل وجدوا ذلك في الواقع. ليس الخطأ من النخبة الشمالية أنها فصلت الجنوب بل الخطأ هو أن سعت هذه النخبة لفرض وحدة بالقوة ولم تسع لتأسيس مقوماتها (نظرية بوتقة الانصهار). وما كان لهذه الحرب أن تقوم أصلاً لو اعترفنا منذ البداية إنهما شعبان مختلفان، ظروف التاريخ والجغرافيا فقط هي التي جعلت منهم دولة واحدة (وحدة سياسية هشة). وقد أكد ذلك أحد المثقفين الجنوبيين هو أقري أجادين حيث قال: (قد آن الأوان للجنوبيين أن ينفصلوا(.