Sep 17, 2016 الخرطوم«القدس العربي»: لوحة سيريالية مدهشة ترسمها حلقات الذكر لدى الطرق الصوفية في السودان، مشهد يجمع بين القيم الروحية المتمثلة في الأذكار الدينية والفعل الاجتماعي الذي يجسده الحضور المتنوع لهذه الحلقات، سواء من المؤدين أو جمهرة المتفرجين المشاركين بصورة أو أخرى في المشهد، وتمثّل هذه الحلقات مظهرا ثقافيا وفعلا دراميا عدّه بعض الباحثين نوعا من الأداء المسرحي. ثقافة المكان ويرى بعض الباحثين أن دخول الإسلام إلى السودان أضاف للتنوع الموجود فيه بعدا آخر، حيث تم استيعاب العديد من مظاهر الثقافة الإفريقية في الدعوة الإسلامية ومن أبرز تلك المظاهر الطبول الصاخبة والتي تجلّت في إيقاعات النوبة وهي الأداة الموسيقية الرئيسية في حلقات الذكر. ويقول الناقد عز الدين ميرغني إن حلقات ذكر الصوفية تعتبر من الموروث الثقافي السوداني الذي وظف ثقافة المكان، فالطبول والنوبة والطار في نظره كلها من تأثير الثقافة الإفريقية، وحلقات الرقص والتثني أيضا لا يعرفها العرب وكذلك التلحين والأناشيد الجماعية تمثل مشهدا دراميا حيا، حيث أخذت ذلك من نفير الحقل في البيئة الزراعية. ويضيف أن وقوف القائد والشيخ في منتصف الحلقة يمثل قائد الأوركسترا في الجوقات الموسيقية، والبقية تمثل الكورس، وفي حلقات الذكر أيضا تشبّه لا إرادي بحلقات الزار عند النساء حيث يرطن البعض ويبكي ويتداعى ويخرج ما عنده في لوحة سيريالية عظيمة. انتشار الطرق الصوفية بدأت الطرق الصوفية تنتشر في السودان بعد زيادة الوجود العربي الإسلامي في الأجزاء الشمالية من البلاد. وعرف السودانيون الدين الإسلامي بشكل مباشر بعد حملة عبد الله بن أبي سرح التي وصلت إلى مدينة دنقلا العجوز عاصمة دولة المقرة المسيحية، وتم توقيع اتفاقية البقط بين العرب الغزاة والنوبة في شمال السودان، ومن هنا يتم توثيق دخول الإسلام بلاد السودان. ويرى الدكتور صبري محمد خليل، استاذ الفلسفة في جامعة الخرطوم، أن الطرق الصوفية ساهمت في نشر الإسلام في السودان، وأصبح التصوف وقيمه السلوكية والمعرفية أحد مكونات الشخصية السودانية، بصرف النظر عن الموقف منه. ويضيف أن الكثير من القيم الايجابية التي تميز الشخصية السودانية كالتسامح والزهد والتضامن والتعايش السلمي مع الآخر، مرجعها التصوف، ويقول إن التصوف ساهم في حل مشكلة المعرفة بالإسلام ذاته، نسبة لجهل الناس بدلالات ألفاظ القرآن والحديث، وعدم فهم كتب التراث الإسلامي. شارات وبيارق وألوان ارتبط فن المديح والأذكار الدينية بنشأة الطرق الصوفية بعد قيام السلطنة الزرقاء في مطلع القرن السادس عشر الميلادي. واستقرت هذه الطرق في بدايات القرن التاسع عشر وتعتبر الطريقة القادرية أكثرها إنتشارا لا سيما في منطقة الجزيرة وسط السودان. وللطرق الصوفية شارات وبيارق وألوان تتميز بها، فيتميز السادة الرفاعية باللون الأسود، والقادرية باللون الأخضر، والأحمدية باللون الأحمر. أما طريقة (البرهانية) فإنها لا تتميز بلون واحد كسائر الطرق بل تتميز بثلاثة ألوان: الأبيض والأصفر والأخضر. وتتعدد الطرق الصوفية في السودان ومن أبرزها: الطريقة القادرية نسبة للشيخ عبد القادر الجيلاني، والبرهانية الدسوقية، والسمانية، والتيجانية، والطريقة الميرغنية، وغيرها من الطرق الصوفية الأخرى التي انتشرت في كل بقاع السودان الشمالي واستقرت في المدن والأرياف. زفة المولد وتنتشر حلقات الذكر الصوفي في كل زمان، لكن هنالك مناسبات محددة تجري فيها حلقات الذكر ومن أبرزها «زفة المولد» وهي تظاهرة دينية وثقافية تطوف المدن الكبرى في ليلة المولد، ومن أكبرها زفة أمدرمان التي يشارك فيها السياسيون إضافة للكيانات والمجموعات الشعبية، ويعتبر الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم «مسرحا» لحلقات الذكر بكل تجلياتها. ومن أبرز المظاهر التي تتجلّى فيها «النوبة» حلقات الذكر التي تقام تخليداً للشيخ حمد النيل بن الشيخ أحمد الريح بن الشيخ محمد الزاهد بن الشيخ يوسف أبوشرا في مساء كل جمعة، حيث يجتمع المريدون والمحبون لهذا النوع من الذكر، إضافة إلى الباحثين والدارسين، وهنالك من يلتقط الصور النادرة للذاكرين وهم في قمة غرقهم في الأداء. وتجمع هذه الحلقات مختلف فئات الشعب السوداني من الشيوخ والرجال والنساء وحتى الأطفال وتبدأ عقب صلاة العصر وتنتهي عند المغرب وفيها يسكب عرق غزير ويجلي المريدون قلوبهم بذكر الله ويريضون أجسادهم ويذوبون تماما في هذه الحلقات. الرجبية في الشكينيبة الشكينيبة منطقة في ولاية الجزيرة بالقرب من مدينة المناقل وتضم العديد من المعالم الدينية والتاريخية واشتهرت بعلاج الأمراض النفسية والعصبية والعقلية والروحية، واشتهر فيها الشيخ عبد الباقي المكاشفي، وتقام فيها الكثير من المناسبات الدينية منها الاحتفال بالسابع والعشرين من رجب التي تعرف بالرجبية، وتتضمن بعض المظاهر الاجتماعية مثل الزواج، وتقام فيها الذكرى السنوية لرحيل الشيخ الجيلي الشيخ المكاشفي، وتنتظم المنطقة حركة تجارية وتشهد نشاطا كبيرا. و»حفير» من معالم الشكينيبية، يقع في طرف المسيد، وقد حفره الشيخ المكاشفي بيده عام 1927 مع خواص مريديه وطلابه بغرض أن يجمع ماء المطر فيه للري والشرب والطهارة والبهائم، ويعدّه المريدون من كرامات الشيخ المكاشفي، وتتحول المنطقة في المناسبات الدينية إلى حلقة ذكر ممتدة زمانا ومكانا وتضج الطبول و«النوبة» في شبر من الشكينيبة. ظاهرة ثقافية وفعل درامي ويقول الناقد الدرامي وعميد كلية الموسيقى والدراما الدكتور فضل الله أحمد عبد الله إن حلقات الذكر الصوفي، عموما وعند الطريقة القادرية على وجه الخصوص تشكل ظاهرة ثقافية وممارسة فيها الكثير من ملامح الفعل الدرامي والمسرح تحديدا، وذلك باحتوائها على العديد من العناصر ومنها الأداء «الذكر نفسه». ويشير إلى أنّ «المقدّم» وهو شخص يدير العملية كلها، يكون بمثابة المخرج وله زي خاص وبإشارة منه بالعصا تبدأ عملية الذكر. ويضيف أن كل المشاركين في حلقة الذكر لهم مقامات وأدوار مختلفة مثل المريد والحوار والدرويش، ولكل منهم زي مختلف عن الآخر ويؤدي الجميع طقسا روحانيا مميزا داخل هذه العملية التي تتم في مكان وزمان واحد وهذا يشبه المسرح تماما. ويصف المشهد كله في الذكر والذي يشتمل على إيقاع وموسيقى وإنشاد وشخوص ومؤثرات وأزياء تميز الشخصيات وجمهور ومخرج ويرى أن هذا الواقع يشكل، في العديد من مظاهره، شكلا من أشكال الدراما. وإضافة لهذا الشكل من العرض فإن الحالة النفسية «التقمص» موجودة في حلقات الذكر، حيث تشهد الحلقة أنواعا من التوتر والصراع الداخلي في أعماق نفس الذاكر من جهة والصراع الخارجي الذي يجسده الحوار بين مجموعة المؤدين كلها من جهة أخرى ويتم كل ذلك في وجود جمهور يتفاعل ويشارك أحيانا في العرض. وهو يشير إلى بعض المظاهر المتعلقة بهذا الفعل، ويقول إن الذاكر نفسه قد يدخل في حالات نفسية وينتقل من حالة إلى أخرى، يقوم بهذا الأداء وفي باله أن هناك من يشاهده (يسرق عين الجمهور) ويرى أن هذا الوضع موجود في العديد من أشكال الدراما، لا سيما العروض المسرحية. ويخلص الناقد الدرامي فضل الله أحمد عبد الله إلى إن حلقات الذكر عند الصوفية في السودان تحتوي على أغلب عناصر الفعل الدرامي، وهي أقرب إلى فن المسرح من ضروب الدراما الأخرى، وهي تشكل مظهرا من مظاهر الثقافة السودانية بتنوعها الثر والفريد. جذور الموسيقى السودانية ترجع جذور الموسيقى السودانية إلى موسيقى أغنية «الحقيبة» التي ترجع بدورها إلى أناشيد المديح الدينية التي كانت منتشرة وسط الجماعات الصوفية منذ ممالك السودان في القرون الوسطى، والتي يمدح بها الرسول (صلى الله عليه وسلم) وآله والصحابة وأئمة الطرق الصوفية ومشايخها. وتستخدم فيها آلات موسيقية تقليدية مثل الطبول والدفوف والطار، وهو آلة أشبه بالبندير المستخدم في شمال افريقيا للأغراض نفسها، والمثلث، والرق والعصي. وأحيانا يستعمل البخور لاضفاء جو من الروحانية على العرض. ويقول أنس العاقب إنّ مفردة «مديح» كمصطلح سوداني تعني وتدل على ذلك الفن الغنائي الذي ركز وتخصص في أداء ونشر رسالة دينية تهدف إلى نشر تاريخ وتعاليم الدين الإسلامي من منطلق التركيز على السيرة النبوية وآل البيت والصحابة منذ فجر البعثة والدعوة إلى الإسلام. ويرى أن المديح كفن أصيل لم ينبع من فراغ، لأن المجتمع الذي خرج منه كانت له فنون غنائية متنوعة ذات خصائص متفردة في الشكل العام من حيث المقامية وأسلوب الأداء واستخدام الإيقاعات المختلفة والمتنوعة التي استمدها من الأقاليم التي تقع شمال ووسط السودان والتي يطلق عليها «الوسط» إصطلاحا. ويضيف: «وبهذه الخصوصية جمعت المدائح باقة من الإيقاعات التي كانت تشكل أساسا للأغاني الشعبية والمحلية وضمنتها ثقافة فن المديح وتنظيره ويمكن ان نورد الإيقاعات الستة الأساسية وهي: المربع، المخبوت، المعشر، الهمباتي، الحربي، الدقلاشي». ويلاحظ أن رواة المديح ومغنيه ميزوا عددا من تلك الإيقاعات الشعبية والمحلية بأن أطلقوا عليها أسماء مصطلحية خاصة بفن المديح وثقافته، فمثلا إيقاع «التم تم» الذي كان مرتبطا بمجالس الطرب واللهو أطلقوا عليه «الهمباتي» لأن الهمباتة وهم لصوص الجمال، كانوا يرتادون تلك المجالس ويغدقون عليها. وبعد إنقراض «الهمبتة» بقي إيقاع «التم تم» الراقص وهو الذي يسود ما يسمى ب «غناء البنات» وغناء قاع المدينة إلى أن صار الآن فنا جماهيريا علنيا. بوتقة انصهار وعلى الرغم من اشتهار بعض حلقات الذكر في أنحاء البلاد المختلفة، فإن هذا الملمح الروحي والثقافي ينتشر في كل أنحاء السودان ويشكل إيقاع «النوبة» أيقونة هذه الحلقات التي تجمع مختلف السودانيين في بوتقة روحية تنصهر فيها المقامات والرتب الدنيوية والانتماءات القبلية. المصدر: http://www.alquds.co.uk/?p=599159