الدعم السريع يغتال حمد النيل شقيق ابوعاقلة كيكل    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    وصول البرهان إلى شندي ووالي شمال كردفان يقدم تنويرا حول الانتصارات بالابيض    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    عقار يوجه بتوفير خدمات التأمين الصحي في الولايات المتأثرة بالحرب    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    الإمارات العربية تتبرأ من دعم مليشيا الدعم السريع    محمد الفكي يتهم إسلاميين بالتخطيط لإشعال الشرق    حسين خوجلي يكتب: مدينة الأُبيض ومن هناك تبدأ الشرعية ومجتمع الكفاية والعدل    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    لافروف: العالم يشهد أزمة في مجال الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي    أمانة جدة تضبط موقعاً لإعادة تدوير البيض الفاسد بحي الفيصلية – صور    نصيب (البنات).!    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    محمد وداعة يكتب: حميدتى .. فى مواجهة ( ماغنتيسكى )    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد بالفيديو.. الناشطة السودانية الشهيرة مدام كوكي تسخر من "القحاتة" وحمدوك: (كنت معاهم وخليتهم.. كانوا سايقننا زي القطيع وبسببهم خربنا وش مع البشير لمن قال أدوني فرصة)    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف ترى الخرطوم أزمة دارفور؟ (الحلقة الثامنة) القبيلة وآلية تحقيق السلام الاجتماعي

الخرطوم(smc) تعتبر قضية دارفور واحدة من القضايا التى صادفت اهتماما غير مسبوق على خلفية تضخيم الوسائل الإعلامية لتفاعلاتها وآثارها حتى صارت الموضوع الأول في قائمة الأخبار والتحليلات التى غالباً ما تغفل عن ذكر الحقائق ولا تلامس الواقع على الأرض. صحيفة الشرق الأوسط نشرت مجموعة من المقالات المتصلة عن أزمة دارفور وهي عبارة إفادات قدمها وزير الخارجية السوداني السابق وأحد مستشاري الرئيس عمر البشير حالياً, وتأتي أهمية الإفادات المقدمة حول الموضوع بحكم التصاق الرجل وقربه من الأحداث والتداعيات السياسية لهذا الملف وغيره من الملفات الأخرى ذات العلاقة, وفيما يلي نورد هذه الإفادات:من التقاليد المهمة في دارفور ما يسمى «بالراكوبة والعوائد» وهي ما يتفق عليه لمعالجة المنازعات المتعلقة بالتعدي على الممتلكات بسوء نية تشكل القبيلة رقما يصعب تجاوزه في ظروف دولة كالسودان، بمساحتها الشاسعة وضعف البنية التحتية وظروف وإفرازات التحول ببطء من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات حديثة. وكما هو معلوم تعتبر القبيلة وحدة اجتماعية واقتصادية وسياسية (مجتمع بأكمله). مجتمع متماسك بولاء طوعي يجذب الفرد نحو الجماعة لما يوفر من حماية وضمان وهوية وهدف ووسيلة لتحقيق الذات. ورغم أن مجتمع القبيلة مجتمع محافظ في مجمله، ومتماسك كغيره من المؤسسات الاجتماعية، فإنه يتفاعل مع ما يجد ببطء وروية، ولا يعني ذلك مجتمعاً منغلقاً منكفئاً على نفسه. تحكم مجتمع القبيلة قيم ومبادئ تنظم الحياة داخل كل مجموعة، وفي نفس الوقت ترتب العلاقات البينية بين المجموعات القاطنة في النطاق الجغرافي المشترك بغية المساكنة والمعايشة عبر آليات انسجام اجتماعي وتعايشي. نظمت حياة القبائل والجماعات ثلاث مؤسسات أصيلة، نشأت من داخلها وتطورت معها عبر الزمن وهي: الدار والأعراف والإدارة التقليدية للقبيلة. هذه المؤسسات تكمل بعضها بعضا، فالدار (بمسمياتها المختلفة من حاكورة، ارض القبيلة... الخ) تمثل الإطار الجغرافي للقبيلة. وتمثل الأعراف الشرائع والقوانين والإجراءات والتدابير الفطرية المنظمة لكل مناحي الحياة في داخل المجموعة الواحدة أو بينها والمجموعات الأخرى. وتشكل الإدارة التقليدية للقبيلة، التي تعرف اصطلاحا عند أهل الحضر وأروقة الحكم، بالإدارة الأهلية، الآلية التي تسوس الدار باسم القبيلة من خلال تطبيق الأعراف عليها وعلى غيرها من القبائل. وشكلت هذه المؤسسات الثلاث أسباب الاتزان الاجتماعي داخل القبيلة الواحدة والعلاقات البينية مع القبائل الأخرى. إن من أهم أسباب تحقيق السلام الاجتماعي بين القبائل خصائص المجتمعات المذكورة وهي: 1- الانفتاح والمرونة اللذان تميزت بهما القبائل صاحبة الدار، والتسامح العرفي الذي عضدته القيم النبيلة من الموروث القبلي والقيم الدينية، فضلا عن سهولة سبل كسب العيش في ظل طبيعة معطاء بفضل الله، ومن ثم غياب التنافس والمزاحمة على الموارد. يضاف إلى ذلك بساطة وسائل تبادل المنافع ومتطلبات الحياة. نجم عن كل ذلك استعداد فطري لمشاركة الغير في خيرات القبيلة. وهذه الرغبة في المشاركة عن رضا، كانت من أكبر عوامل التماسك الاجتماعي. ونظمت هذه الرغبة الفطرية لاستعمال الموارد الطبيعية جماعياً، أعراف تفرق بين ملكية العين وحق الانتفاع، حيث إثبات الملكية للمجموعة صاحبة الدار، وتبقى المنفعة تسامحاً مشاعة لكل من سكن المجموعة. 2 احترام الوافدين وقبولهم الالتزام بأعراف وتقاليد أهل الديار والاستقرار والمساكنة بالرضا، والموافقة على الانضواء تحت راية النظام الاداري العرفي السائد، والتشرب بالثقافة والقيم السائدة أو على الأقل مسايرتها وتجنب استفزازها او تحديها، يضاف الى ذلك في كثير من المناطق تعاهد الوافد والمستقبل على وحدة المصير في (الدية والولية) اعلانا للتزاوج والانصهار والموافقة. 3 مرونة الاعراف وتطورها الذاتي ومواكبتها للمستجدات لاستيعابها في تطوير «تشريعاتها» دائما في حدود الممكن بالتراضى والتوافق، من دون اصرار على حرفية التطبيق. 4 النظام الاداري الذي يساس من خلال المجتمع ويطبق العرف، نظام مبني على الرضا والالتزام من قبل المواطنين وقيادات قبائلهم. فزعيم القبيلة ومن يعاونه رموز للقبيلة وقادة طبيعيون للمجتمع، ولذلك تتعين طاعتهم لانهم يستمدون شرعيتهم من رعاية أعراف وتقاليد المجتمع. هذه الآليات حفظت التوازن الاجتماعي. ولم تعرف العرف والتقاليد كحاجز عند التعامل مع الانسان.. وبمعنى آخر انها مبرأة من العنصرية، ورتبت العلاقة البينية بين القبائل، بغض النظر عن الجنس. ولا نقصد أن نقرر أن هذه الآليات منعت حدوث المنازعات والاحتكاك والحروب بين القبائل وفي داخل القبيلة الواحدة، بل نشير الى انها عملت لدرء حدوث المنازعات، واحتوائها والحد من آثارها السالبة عند حدوثها ومعالجتها. وأدت قوة مؤسسات الضبط الاجتماعي أعلاه، الى استقرار الأرياف والبوادي، من خلال القيادة الحكيمة لزعماء وقيادات العشائر والقبائل، وعبر علاقاتهم الأفقية المستمدة عبر القبائل من خلال الصداقات والمصاهرات والحكمة في إدارة شؤون الحياة وفق أعراف رسخت في الوجدان القبلي. ولعل الاعراف هي المنشئة لقوة التماسك لهذه المجتمعات، والسؤال البدهي هو لماذا؟ هناك عوامل أدت الى ضرورة حكم الاعراف وتراضي القبائل عليها، ومنها: 1 الجيرة والتداخل واستحالة تجنب الاحتكاك والتنازع والصراع كواقع وسمة ملازمة للتجاور و«المجاورة الاسنان للسان، غلطت الاسنان على اللسان». فلولا وجود الاعراف لتهالكت المجموعات في دوامات العنف والاحتكاك. 2 الظروف الطبيعية وما ينجم عنها من احتمالات تؤدي الى الاعتماد المتبادل بين السكان. فالتغيرات المناخية الموسمية من أمطار وآفات، تحتم الحاجة لآلية لتقليل درجة المخاطرة، وتنشئ تعاونا لقسمة الموجود في سنوات العسرة واستغلال الموارد في المنطقة الجغرافية الواحدة التي أنشئت، بل حتمت أن تكون العلاقة تكاملية (symbiotic) لا تنافسية (competitive). 3 السبب الغريزي المحافظة على النوع (survival) يتطلب درجة عالية من التسامح والتساهل في استرداد الحقوق، وجبر الخواطر، وإزالة المرارات بين المجموعات المتساكنة في مكان واحد. فلو أصر كل فرد على التمسك بحقه كاملا العين بالعين والسن بالسن ربما سيفقد أفراد الجماعات الكثير من الانفس لذلك إعمال الفضل بين الناس تسامحا (آلية محافظة على النوع). 4 المقاضاة الحديثة فضلا عن انها لا تعالج جذور المشكلة، لأن على القاضى الحكم بالظاهر، فإن طريقة المقاضاة ومؤسستها غريبة على هذه المجتمعات (إثبات اركان الجريمة.. الاجراءات والمحاماة وغيرها) ويضاف لكل ذلك أن المقاضاة لا تزيل المرارات من الانفس ولا تحقق الاستقرار، لكون احتمال اللجوء الى أخذ الثأر والانتقام سيظل قائما. زد على ذلك ايضا أن المقاضاة مكلفة ومرهقة ماديا وجسديا لبعد مسافات المحاكم. 5 الوجدان: الأعراف وجدانية مرتبطة بالذات وتراث مكون من النفسية عند أهل البدو والقرى، ومن أهم وجدانياتها ابقاء سبل ومنافذ الاتصال فاتحا وموصلا في احلك اللحظات. تشترك كل قبائل السودان في احتكامها الى العرف ورضائها به، وإن اختلفت التفاصيل حسب الظروف الخاصة لكل منطقة. ولم تقنن الأعراف في شكل مواد قانونية تضبط حياة هذا الكم الهائل من القبائل. ودارفور جزء أصيل بل ومهم في كل ما ذكر، إذ يبلغ عدد الادارات الأهلية في دارفور 42 إدارة حتى 1990. ويعني ذلك أن نسبة الادارات الأهلية بولايات دارفور تبلغ 41% من جملة الادارات الأهلية في شمال السودان، مما يعطي دارفور وضعا خاصا وواقعا يصعب تخطيه. تنظم الاعراف والتقاليد والسوالف (السوابق)، جل حياة هذا الكم الهائل من القبائل وما زالت الاقوى في ترتيب المعاملات بين افراد هذه القبائل في ما بينها وبين من يجاورها من قبائل أخرى. وهذه الأعراف هي وسائط التحوط والوقاية من التصادم والاحتراب وأيضا وسائل تخفيف حدة التوتر والحروب واحتوائها وحلها كما سنوضح. توجد آليات للتحسب والوقاية من الاحتكاك والتصادم بين المجموعات القبلية نوجز أهمها في الآتي: 1. تنظيم استخدامات الأرض بين الرعاة والزراع من دون تقاطع أو تصادم بين مصالح الفئتين. حددت الاعراف مسارات عبر المزارع لمرور الحيوان اثناء ترحال الرعاة، يلزم بعدم الانحراف عنها حفاظا لحقوق الزارع. ويلزم في المقابل الزارع بعدم التعدي على هذه المسارات بالزراعة لكي لا يضيقوا على حركة الحيوان. وامعانا في الحيطة تحدد الاعراف تواريخ مرور الحيوانات عبر المزارع وهذه التواريخ ملزمة للطرفين. وتضبط الأعراف كذلك حيازات الارض للقبائل في شكل حيازة جماعية يطلق عليها مصطلح دار أو حاكورة وفق الاعراف الموروثة. 2. التحالفات والمعاهدات بين القبائل في تعهدات أخوة تجعل دماء كل فرد من القبائل المتحالفة دماً واحداً محرما إراقته لضبط سلوك الأفراد لمراعاة «الخوة» والدفاع عنها. 3. المصاهرة وسيلة اخرى للوقاية، خاصة المصاهرة بين قيادات القبائل حتى يكونوا قدوة مشجعة لعموم أفراد القبيلة تقليدها. 4. الصداقات والهدايا بين قيادات القبائل لترطيب العلاقة عبر الزيارات المتبادلة والهدايا والحضور في المناسبات افراحا كانت أو اتراحا كناية عن الود. 5. المهرجانات السنوية (الزفة) في كل عام وهي مرتبطة بمواسم اعياد وهي وسيلة مهمة للتآلف بين الافراد والمجموعات والقبائل. وتساهم الزفة من خلال المناخ الفرائحي من سباق الهجن والخيول والالعاب ووسائل الترويح الشعبي المتنوع في تقريب المسافة بين الناس، وترسيخ الرغبة في التعايش. وتتيح هذه المهرجانات لقيادات القبائل فرصة للاجتماع لمناقشة الهم العام لمجتمعاتهم ومعالجة القضايا بالتراضي سدا لباب التنازع. ذكرنا أن هذه الأعراف والتقاليد قديمة قدم وجود المجموعات السكانية في كل منطقة، تتوارثها الأجيال، وتنحتها في الذاكرة. والجديد في الأمر تدوين هذه الأعراف كضرورة لمقابلة الالتزام بالأعراف الموروثة وتطويرها لتناسب حال الزمان والظروف التي يعيشون فيها، خاصة ما يهدد وجودها أو يخل التوازن الاجتماعي بينها، فيجعلون الاعراف رادعة لمن يتعدى على سلامة الانفس والثمرات. لذلك نجد تطوراً في قيمة الدية، سواء كانت دية دماء أو اصابة اعضاء الجسد او التعدي على الشرف او الشتم بالالفاظ الجارحة او إشانة السمعة او تسبيب الموت عن طريق الحيوان او المركب من دون قصد. وللدية مقصد ردع الجاني وحقن الدماء وتطييب النفوس وتعويض من فقدوا من يعولهم. والدية في القتل العمد انها القصاص، وفي هذا الشأن للقبائل قوائم تفصل عدد الحيوانات وسنها ونوعها في دقة متناهية. والأعراف تبين ما يفعل عند متابعة أثر الجاني أو الجناة. فلو اختفى عند قرية أو قربها أو في منطقة قبيلة بعينها، يطلب عرفاً في هذه الحالة من السكان اخراج الجناة، فإن لم يفلحوا في تحديد الأثر أو اخراج الجناة، توجه اليهم تهمة ارتكاب الحادث كمجموعة ويلزموا بالدية في حالة القتل، والتعويض في حالة النهب أو السرقة ردعا لهم. والقصد هنا منع التستر على الجناة من جانب، واستعمال قوة الضغط الاجتماعي على افراد الجماعات من مجتمعاتهم بضبط سلوكهم من جانب آخر. ويطلق على هذا النوع من الديات اسم الدية العجاجية ولعلها دية «القسامة» في الشرع التي عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم. إذ يقضى أن يوجه أهل المقتول الاتهام الى خمسين من رجال المنطقة التي وقع فيها القتل المجهول، ويطلب منهم اداء القسم على انهم لم يقتلوه ولا يعرفون القاتل، وبعد القسم تفرض على سكان المنطقة الدية الشرعية وتسلم لاولياء الدم. من الاعراف دفع كرامات وصدقات من أهل القاتل الى اهل المقتول كدليل على الالتزام والاعتراف بالذنب، وابداء حسن النية بالمشاركة في المصيبة التي حلت بأهل المقتول بتقديم واجب العزاء. ايضا في الكرامات والصدقات تفاوت في ما تقدمه القبائل في ما بينها. ومن التقاليد والاعراف المهمة في دارفور ما يسمى «بالراكوبة والعوائد»، وتعني الراكوبة ما يتفق عليه لمعالجة المسائل والمشاكل والمنازعات المتعلقة بالتعدي على الممتلكات بسوء نية. وتنشأ العوائد أو الرواكيب كاتفاق ينجم عن أسرتين أو أسر فخذين او بطنين من قبيلة واحدة او قبائل، في اطار التسامح والتساهل. نظام مبني على التكافل والالتزام الاجتماعي. وعلى سبيل المثال لو
اتلف حيوان زرعاً، تشكل لجنة محايدة لتقدير التلف، ويعرض التقدير على الاطراف للموافقة عليه قبل اعلانه لان تقديرات الاجاويد غير قابلة للمراجعة بعد اعلانها. عند اعلان التقدير يخير صاحب الزرع بين استلام القيمة المقدرة او وضعها في حافظة «الراكوبة» كاول سابقة بينه وصاحب الحيوان. ولا يعطى صاحب الزرع الحرية المطلقة ليقرر بمفرده، إذ أنه عضو في جماعة. لذلك تعقد الاسرة اجتماعا للتداول وتسعى لاقناع صاحب الزرع بألا يأخذ الخسارة من صاحب الحيوان الذي أتلف الزرع، لتكون سابقة تبنى عليها الرواكيب بين الاسرتين او الجماعتين مستقبلاً. ويعلن في وجود اللجنة تأسيس الراكوبة بين الطرفين، إما بوضع كل قيمة الخسارة او نصفها او ربعها في الراكوبة رصيدا للأسرة او الجماعة لاستعماله في المستقبل في حالة حدوث خطأ من أحد أفراد الجماعة بقتل أو أذى حيوان للراعي. وللراكوبة حساب دقيق (دائن ومدين) لا مجال لتفصيله، وبما أن قيمة الراكوبة قيمة ثابتة لا تتآكل ولا تتقادم بمرور الزمن متساو ومتكافئ مما يعني تساوي الكثير مع القليل بقاعدة «ما لم تدفع قيمة الحمل لا تطلب قيمة الجمل». ومن التقاليد والأعراف السائدة أيضاً مبدأ «التقريب» ويعني النفي من الديار لحين معلوم ومشتق، من ذلك تغير خط سير الرعاة من المسار الذي اقترفوا فيه جناية إلى مسار آخر كعقاب، ويتم التقريب للأفراد أو الجماعة. الأمثلة أعلاه هي للاعراف والتقاليد التي تعمل بمثابة تشريعات وقوانين واجراءات تنظم وتضبط حياة القبائل، وضمان تطبيقها ورعايتها من قبل القيادات الطبيعية لهذه المجتمعات وهم الحكماء والوجهاء والاعيان من قادة القبائل من خلال نظامهم العشائري، وأن قائد القبيلة واعيانها يفصلون في المسائل العادية التي تنشأ بين افراد قبائلهم، بينما مؤسسة الجودية تعالج المسائل الكبيرة وفي داخل وعبر القبائل. يطلق اسم لفظ الجودية على عملية الوساطة من خلال طرف ثالث لحل التنازع بين طرفين أو أكثر. والجودية آليه تسخر قوة عادات وتقاليد وقيم وأعراف المجتمعات لمعالجة النزاعات بين الأفراد والجماعات، ولبناء السلام على المستوى القاعدي بين السكان في أصقاع السودان، وهي بالضرورة ضاربة الجذور بين مجتمعات دارفور منذ القدم، وأصبحت ثقافة شعبية متطورة، ومؤسسة لها أركان وفنون. ويقوم بالجودية وجهاء القوم، وقادة المجتمع وحكماؤه، ممن لا يشك في نواياهم الصادقة، ومقدرتهم ومعرفتهم وتجاربهم ورغبتهم في الاصلاح. ويتولى هؤلاء الصفوة عملية الوساطة بين الفرقاء، إما بمبادرة ذاتية، أو عبر الطلب من أطراف النزاع أو طرف واحد من المتنازعين، أو بطلب من أهل الخير عامة. وفلسفة الجودية مبنية على قاعدة أن طريقة الوصول لفض النزاع، لها نفس أهمية النتيجة المتوصل اليها في نهاية المطاف، لذلك تبرز ضرورة توسيع المشاركة لكل الاطراف المتنازعة، سواء كانوا أطرافا مباشرين أو غير مباشري، المتطرفين منهم والمعتدلين، وافساح المجال لكل رأي أو شكوى أو ملامة وعتاب. وترتكز على الحلول التوفيقية المبنية على الرضا والقبول لضمان استمرارية الحل. والجودية مؤسسة اجتماعية كاملة البنية، عمادها أفراد يعتبرون مراجع في الأعراف والسوابق كالدوانة عند قبيلة الفور، وهم يمثلون ذاكرة القبيلة في الأعراف، وهم حفظة السوابق (الكيفية التي حلت بها المسائل والمشاكل المشابهة في الماضي). وتمر الجودية، خاصة في حالات القضايا المتشعبة بأربع مراحل: مرحلة المساعي الحميدة، وهي مرحلة لتطييب الخواطر وايقاف نزف الدماء في حالة الحروب، والتعهد بعدم التعدي أو الانتقام إلى حين على الأقل، وهذه المرحلة تمهيد للقيام بوساطة للمصالحة بين الفرقاء. ولا يطلب من هذه الأطراف القبول بالدخول في صلح أو قبول جودية، وذلك لأن الأطراف في حالة توتر ومرارات، بل يعتبر قبول مبدأ تهدئة الحال وابقاء الامور على ما هي عليه (Status Quo) اشارة مشجعة لقبول التصالح مستقبلا. والمرحلة الثانية هي مرحلة قبول الصلح وتأتي بعد وقت معقول تجف فيه الدماء كما يقال، ويسعى الوسطاء لحصول الموافقة على مبدأ الصلح، لذلك يتصلون بأعيان «ومفاتيح» المجتمع، ومتى تم القبول يتفق على زمان ومكان الصلح، وعادة في أرض محايدة. وبعد ذلك يتم اختيار عدد من الاجاويد المقبولين للاطراف لتولي الجودية. والمرحلة الثالثة انعقاد مجلس الصلح أو مؤتمره تحت مظلة الدولة من دون تدخل في عملية المصالحة. وتهيئ الدولة المناخ الصالح من مكان وامكانات ومعيشة واعاشة، وتكتفي بخطاب من مسؤول حكومي فيه نبرات الرجاء والامل والدعاء للتوصل لحل يرضي الاطراف، مذكرا باهمية الصلح كقيمة دينية وعرقية... الخ، ثم تعرض أسماء الأجاويد لكل المؤتمرين، ليعلن أطراف النزاع موافقتهم عليها وتفويضهم. ويختار الاجاويد من بينهم رئيساً. ويحدد كل طرف اسماء مجموعته التي ستفاوض المجموعة الاخرى، ثم يتم تقسيم الاجاويد الى لجان متخصصة، وتحدد اسماء اعضاء المؤتمر الراغبين، ثم يعطى كل طرف فرصته لمخاطبة المؤتمرين. المرحلة الثالثة مرحلة الدخول في حوار (التفاوض)، حيث يبدأ الاجاويد بمحاورة كل طرف على حدة (Proximity)، والسماع من دون ضجر أو مقاطعة أو تعليق لوجهات النظر، ثم يجلس الأجاويد منفردين لتداول ما سمعوه، لتحسس طريقهم نحو الوفاق، ثم يجمعون الطرفين لمواجهة بعضهم بعضا من دون اساءة أو استفزاز. وتبدأ المرحلة الرابعة باجتماع منفرد للاجاويد لبلورة حلول توفيقية مستنبطة من رؤى الاطراف. وتقدم هذه الحلول لكل طرف على حدة، وتناقش وتؤخذ تعليقات الاطراف في الاعتبار، ثم تعاد صياغة مقترحات الحلول لاستيعاب الممكن من آراء الاطراف. وتدون الحلول في الصورة النهائية، لتعرض على المؤتمرين في شكل إعلان لما تم التوصل اليه حسب الاعراف، وهي حلول ملزمة للأطراف، تعتمدها الدولة وتصبح لها قوة القانون في التنفيذ. تداخلت عدة عوامل ومتغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية اثرت سلباً على التوازن الاجتماعي والسلام الاجتماعي، مثل الجفاف والتصحر وتداعياتهما على المراعي وقلة انتاجية الارض، وبالتالي زيادة الطلب على استخدامات الارض، والتنافس بين الزراعة والحيوان. وكذلك أدخلت اقتصاديات السوق مفاهيم الانانية للكسب ولو على حساب القيم التي كانت تنظم استخدام الارض كمورد. يضاف الى ذلك الهجرة من دول الجوار الى اقليم دارفور، وزيادة اعداد اللاجئين من معارضي النظم السياسية في دول الجوار. وقد أدى ذلك لدخول قيم مختلفة، ودخول أسلحة نارية وجدت سوقاً عند المواطنين. وقد ساعد وجود الاسلحة على تشجيع النهب المسلح كظاهرة أقلقت مضاجع المواطنين، وحل الادارة الاهلية واضعافها حتى عندما اعيدت، فضلا عن ظهور مؤسسات حديثة منافسة للمؤسسات التقليدية كالمحاكم والمحاماة والمدارس، ومن زيادة اعداد المتعلمين وما ترتب على ذلك من المنافسة على القيادة السياسية، وطلب الوجاهة كقيادة أولى لتمثيل مواطنيهم... الخ. وكذلك استغلال القبائل لطلب الجاه والسلطان، وما نتج من تنافس بين المتعلمين والقيادات التقليدية، وتحالف المتعلمين مع القطاع الحديث من التجار ورجال الأعمال.. الخ فكانت النتيجة التراكمية تآكلا في الأعراف وإضعافا للمؤسسات التقليدية التي حافظت على السلام الاجتماعي عبر الأجيال. ولكن هل يعني ذلك نهاية دور هذه المؤسسات ووضعها في متحف التاريخ أم ما زال لها دور في بناء السلام الاجتماعي واستقرار المجتمعات؟ يميل التوجه العالمي الحاضر نحو الثقة في المجتمعات المدنية ومقدراتها ومعارفها في كل مصالح الحياة. وبعد رحلة طويلة للابتعاد عن كل ما هو تقليدي بعد وصفه بالبدائية، تراجعوا لتحريك وتفجير طاقات هذه المجتمعات خاصة في مسألة فض النزاع وبناء السلام المستدام. وعليه اهتمت بعض جامعات أوروبا والولايات المتحدة بالتجارب الانسانية في فض النزاعات وتحقيق السلام الاجتماعي. وخير شاهد للذخيرة السودانية في هذا المضمار، تدريس النماذج السودانية الأهلية، ويشاهد طلاب العلم في فنون الحوار والتفاوض مجلس المغفور له الناظر بابو نمر. وتجد في الكثير من الكتب والدوريات، الحديث عن نماذج من أميركا اللاتينية وغيرها. و«التقليعة» الحالية في بريطانيا عن العدالة غير المكلفة (Zero Cost Justice) ويعني ذلك أنه مازال هناك مجال للتقاليد والاعراف ومعالجة مشاكل مجتمعاتنا، خاصة في الارياف والبراري عبر موروثاتنا. تستطيع القيادات الطبيعية (التقليدية) المساهمة في ثلاثة مجالات: إعادة الثقة ورتق النسيج الاجتماعي، واحتواء النزاع وحله، وبناء السلام المستديم، كما سنوضح: أولاً: إعادة الثقة ورتق النسيج الاجتماعي من خلال المصالحات على المستوى القاعدي للجماعات. وكذلك من خلال ازالة القلق (Picnic) والخوف والشك من نفوس العائدين، وتشجيع الذين ما زالوا في المعسكرات وتطمينهم للعودة إلى ديارهم، وتأكيد الحماية لهم من قبل القوة الجمعية للمجتمع والدفاع الجماعي والذود عنهم. ثانياً: احتواء النزاع ومنع تصاعده تمهيداً لحله وذلك عبر معرفة الأفراد أو الجماعات التي تقوم باختراق اراضيهم، أو مهاجمتهم، وكذلك مقدرتهم للتحدث لأفراد القبيلة في حالة تمردهم ونصحهم وتشجيعهم للعودة او لقبول المصالحة عبر الحوار. إضافة لما ذكر يكون لهم دور الحوار والتفاوض لفض النزاعات حتى ذات الطابع السياسي، وقيادة فض النزاع المحلي. ولهم دور في إيقاف أو الحد من تجنيد أفراد من مجتمعاتهم في صفوف التمرد. وحال الوصول الى مصالحة، للقيادات الطبيعية دور في عملية تسريح المقاتلين، وجمع السلاح، لمعرفتهم بأفراد قبائلهم، وكذلك الخارجين على القانون من غير المحاربين أصحاب القضية السياسية. ثالثاً: مساهمتهم في بناء السلام المستدام، لمعرفتهم بسلوك أفراد مجتمعاتهم ومقدرتهم على معرفة الجناة الأغراب. وبما أنهم متعاونون وفي علاقات مع غيرهم من قادة المجتمعات الأخرى، يسهل عليهم معرفة الخروقات ومصادرها. وكذلك لفهمهم لأفراد مجتمعاتهم يمكن اقتراح نوع المشروعات المفيدة لادماج العائدين في المجتمع.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.