د. الطيب زين العابدين فعلتها لجنة جائزة نوبل للمرة الثانية! لقد منحت في السنة الماضية جائزة نوبل للسلام لعام 2006 للبروفيسور محمد يونس، أستاذ الاقتصاد البنغالي في جامعة دكا، تقديراً لجهوده الخارقة في محاربة الفقر في بلده بالتقاسم مع بنك قرامين (بنك الريف أو بنك الفقراء) الذي أسسه يونس عام 1976 في بنجلاديش. استندت اللجنة في قرارها ذاك على أن الفقر يعد من أكثر أسباب النزاعات والحروب في العالم، وأي مجهود يبذل في القضاء على الفقر هو مجهود لدعم وبناء السلام. وفي هذا العام اتخذت اللجنة خطوة أكثر تقدماً حين منحت جائزة نوبل للسلام لعام 2007 من أجل حماية البيئة في العالم التي بدأت تتلوّث بصورة متسارعة تهدد حياة الأجيال القادمة، أعطيت الجائزة للهيئة الحكومية العالمية المعنية بتغير المناخ (Intergovernmental Panel on Climate Change - IPCC) بالتقاسم مع ألبرت أرنولد آل قور نائب الرئيس الأمريكي الأسبق في عهد كلنتون. وليست هذه هي المرة الأولى التي تنحاز فيها اللجنة النرويجية الى حماية البيئة فقد منحت في عام 2004 السيدة الكينية ونقاري ماتاي جائزة السلام لمجهودها في محاربة الجفاف والتصحر بزراعة الأشجار في أنحاء كينيا ولعملها في مجال حقوق الإنسان. قالت اللجنة إن مؤشرات التغير في مناخ الأرض المستقبلي ينبغي أن تعامل بمنتهى الجدية وأن نتخذ ضدها كل أساليب الحماية التي يمكن أن يفكر فيها الانسان. فالتغير الشامل الذي يحدث في مناخ الأرض سيبدل ويهدد أوضاع الحياة لمعظم أبناء البشر، سيدفع الناس الى هجرات واسعة النطاق والى منافسة حامية حول موارد الطبيعة، وسيقع العبء الأكبر من آثار هذا التغير على أكثر البلاد ضعفاً وقدرةً، وسيزداد خطر العنف المسلح والحروب في داخل الدولة وبين الدول المختلفة. ومنحت الجائزة للهيئة العالمية المعنية بتغير المناخ لمجهوداتها العلمية التى نشرتها فى العقدين الماضيين مما أحدث اتفاقاً واسعاً واجماعاً مستنيراً بالصلة القوية بين أنشطة البشر والاحتباس الحراري في الكون. آلاف العلماء والموظفين من أكثر من مئة بلد تعاونوا معاً من خلال الهيئة لتأسيس قناعة أكبر بالحجم الضخم لزيادة الحرارة على الأرض. كان الاحتباس الحراري العالمي ينظر اليه في عقد الثمانينيات كفرضية مثيرة، ولكن عقد التسعينيات أنتج أدلة حاسمة في دعم تلك الفرضية، وفي السنوات القليلة السابقة اتضحت الصلة بين أنشطة البشر والاحتباس الحراري بصورة جلية، وأن تداعيات ذلك أصبحت أكثر وضوحاً. وبالنسبة للشريك الآخر في الجائزة آل قور فقد ظل لسنوات طويلة أحد السياسيين القياديين في العالم المهتمين بحماية البيئة، وأصبح مدركاً في وقت مبكّر لتحديات تغيّر المناخ التي تواجه العالم، وعبّر عن التزامه القوي تجاه البيئة من خلال نشاطه السياسي والقاء المحاضرات وتأليف الكتب وصناعة الأفلام مما دعم المعركة ضد تغيّر المناخ، ولعله يكون الشخص الوحيد الذي قام بأكبر دور في ايجاد تفهم عالمي للخطوات التي ينبغي أن تتخذ ضد تغير المناخ. والهيئة الحكومية العالمية المعنية بتغير المناخ تكونت بمبادرة من الأممالمتحدة عام 1988، وانضمت لها أكثر من (130) دولة، وهي تقوم بالبحوث والدراسات اللازمة في مجال تغير المناخ وتقدّم توصياتها للعالم لمكافحة تغير المناخ وزيادة الإحتباس الحراري. قدمت الهيئة في العشرين سنة الماضية ثلاثة تقارير أساسية حول تغير المناخ: الأول فى 1990، والثاني في 1995، والثالث في 2001، وأدى كل تقرير من هذه التقارير الى خطوات عملية من قبل الأممالمتحدة في مجال مكافحة تغير المناخ. فقد جاءت مفاوضات كيوتو لحماية البيئة عام 1997 نتيجة للتقرير الثاني، وأدى التقرير الثالث الى تبني الاستنتاجات العلمية لمنهجية المكافحة في البعد الاقليمي. والهيئة الآن بصدد نشر التقرير الرابع في منتصف نوفمبر الحالي والذي أسهم في تأليفه (450) كاتباً أساسياً، و(800) كاتب مشارك، و(2500) خبير ومراجع ومقوم تم اختيارهم بعناية فائقة من أضعاف هذا العدد بناءً على التخصص الدقيق والإنتاج العلمي الأصيل المرتبط بمسائل تغير المناخ، فهو جهد عالمي ضخم بكل ما تعني الكلمة وفي مشكلة من أخطر قضايا العصر التي تتطلب اهتماماً عاجلاً من كل دول العالم. وهنا يأتي دور السودان فقد شارك المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية في نشاط الهيئة منذ عدة سنوات حتى أصبح مستشاره في مجال تغير المناخ العالم اسماعيل الجزولي عضواً بمكتب الهيئة (يتكوّن من (30) عضواً من أنحاء العالم). ونائباً لرئيس فريق العمل الثالث المعني بتخفيض الانبعاثات (كل تقرير كامل تكتبه ثلاث مجموعات عمل في مجالات: علوم المناخ، التكيف مع آثار المناخ، تخفيض الانبعاثات، بالاضافة الى تقرير المنهجيات). شارك من السودان في كتابة التقرير الرابع (نوفمبر 2007) ثمانية من علماء السودان وخبرائه بصفتهم كتّاباً أساسيين: أ. اسماعيل الجزولي (المجلس الأعلى للبيئة)، د. النور الصديق (كلية الغابات جامعة الخرطوم)، د. حسن بشير نمر (كلية الهندسة جامعة الخرطوم)، د. محمد عبد الرافع (كلية الهندسة جامعة الخرطوم)، أ. نجم الدين قطبي (المجلس الأعلى للبيئة)، د. بلقيس العشا (المجلس الأعلى للبيئة)، د. قرشي كنون (مستشار بوزارة العدل ومنتدب لجامعة عمان)، د. ميرغني أبنعوف (وزارة التقانة والعلوم). وحسب قرار الهيئة يعتبر كل الكتّاب الأساسيين للتقرير الرابع (450 كاتباً) ومن بينهم العلماء السودانيون، وفريق العمل الثالث المعني بتخفيض الانبعاثات في التقارير الثلاثة السابقة، كلهم من حملة جائزة نوبل ويحق لهم استعمال اللقب. صحيح، إن مشاركة السودانيين في الجائزة جاءت ضمن مشاركة لعلماء كثر من حوالى (100) دولة، ولكنها بداية مشجّعة وواعدة تعيد الأمل إلى النفوس بأن مؤسسات السودان العلمية معطاءة ولود بأعلى مستويات البحث الأكاديمي المتميّز إذا ما أتيحت لها الفرص رغم شح الإمكانات وضيق العيش وإحباطات السياسة. بالمناسبة تبلغ الجائزة مليون ونصف المليون دولار، سيكون نصيب الهيئة منها (750) ألف دولار، وسيذهب هذا المبلغ إلى صندوق يساعد في تدريب الخبراء والفنيين من دول العالم الثالث مما يعني أن علماء السودان الثمانية (الفقراء) الذين أسهموا بجهد مقدّر في هذا العمل الكبير لن ينالوا شيئاً من حصة الجائزة المالية! هلا قامت جهة مسؤولة في الدولة بتقديم مكرمة سخيّة لهؤلاء العلماء تشجيعاً للعلم والبحث؟ وأهم من ذلك أن تنتهز الدولة هذه الفرصة لاتخاذ خطوات مهمة في مجال حماية البيئة بتفعيل قانون حماية البيئة لعام 2001، ودعوة المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية لمزاولة عمله بجدية (لم يجتمع المجلس أصلاً منذ تكوينه عام 1992!)، وبإعطائه مبنى يليق به بدلاً من المبنى الحالي المتنازع عليه بين وزارتي الزراعة والثروة الحيوانية، وربط الوزارات والمؤسسات المعنية بالبيئة في كيان واسع لوضع السياسات والارشادات والبرامج التي من شأنها حماية البيئة التي بدأت تتدهور كثيراً في نواحي السودان المختلفة، وبقيادة حملة شعبية واسعة على مدى سنة أو أكثر لزراعة الأشجار والغابات ليس فقط في الخلاء ولكن في المدن والقرى والطرق. وختاماً ألف تهنئة وتحيّة لعلماء السودان (الغبش) الذين يعملون في دأب وصمت دون أن يحس بهم أحد من المسؤولين!