أرادت الحكومة السودانية من منطلق روح اتفاقية السلام الشامل المعروفة باتفاقية نيفاشا كما يبدو أن تفتح في شهر يناير القادم صناديق الاستفتاء لهضم أصوات أبناء الجنوب في مناخ تشاع فيه التوصيات الرسمية والشعبية والحزبية بخيار الوحدة باعتبار أن كل شروطه بالنسبة للمستفتى الجنوبي أصبحت مستوفاة عملياً على الأرض بعد التزام الحكومة ممثلة بالمؤتمر الوطني بتنفيذها على مدى أكثر من خمس سنوات وحزمة من هذه الشروط تحدث عن تنفيذها لصالح تغليب خيار الوحدة بين الشمال والجنوب وزير الخارجية على كرتي في تصريح صحفي سابق حيث قال:(نجد أن مجرد التنفيذ بصدق خلال الفترة الماضية في مجالات تقسيم الثروة والسلطة والترتيبات الأمنية وإقامة مؤسسات الحكم الاتحادي وحكم الجنوب يشكل في حد ذاته دافعاً للجنوبيين إذ يدل على صدق التوجه من قبل الشمال في تنفيذ الاتفاقية، ثانياً ظلت الحكومة المركزية تقدم عروضاً كثيرة للتدريب وإصلاح المؤسسات وقد قدمت في ذلك الكثير. الحكومة المركزية أيضاً لم تطالب حكومة الجنوب بتقسيم الموارد الأخرى التي تحصل عليها حكومة الجنوب في الجمارك والضرائب). والمعلوم أيضاً أن المواطن الجنوبي قد أغناه تنفيذ اتفاقية نيفاشا بهذه الصورة التي قدمها الوزير كرتى عن عناء دراسة خيار الانفصال فهو يجد على قول كرتي أيضاً (إصلاحات في مؤسسات إقليمالجنوب المختلفة والقيام من قبل الحكومة المركزية بدراسات لإنشاء السدود على النيل الأبيض لإنعاش التنمية وإنتاج الكهرباء). وبعد وقف الحرب وتحقيق كل هذه الإنجازات آنفة الذكر لم يبق أمام المواطن الجنوبي غير خيار الوحدة لأن عدم استمرارها ربما يعنى ان تتأثر أوضاع إقليميةالجديدة الجيدة. ويبد ان استيعاب الحكومة المركزية لمخاطر الانفصال على المواطن الجنوبي هو الذي جعلها تسخرَّ مؤسسات الإعلام الرسمي لدعم خيار الوحدة بعد ان انتفت كل الأسباب التي تحول بينه والمواطن الجنوبية كما شجعت ايضاً المؤسسات الإعلامية غير الرسمية على الإسهام الوطني في الحفاظ على وحدة البلاد من خلال دعم خيار الوحدة بإبراز استيفاء شروطها المتمثلة في تحقيق الإنجازات على أرض الجنوب. وداخل دواوين الحكم فيه. لكن الإعلام الرسمي في الجنوب يبدو انه لا يعمل تجاه دعم خيار الوحدة والروح واحدة مع الإعلام الرسمي في الشمال، وهذا يتجلى في تصريحات صحفية أطلقها مؤخراً وزير الإعلام بحكومة الجنوب برنابا مريال بنجامين حيث قال:( تلفزيوننا القومي في الشمال لم يوجه من بالشمال ان هناك خياراً آخر غير الوحدة ويعد هذا أمراً غريباً للشعب في الشمال ونحن في الحكومة – أى حكومة الجنوب- وفي الوزارة سنتحدَّث مع زملاءنا في الحكومة الاتحادية من أجل ان يكون هناك توازن موضوعي وواقعي فيما يختص بموضوع الاستفتاء وتقرير المصير) . والملاحظ في تصريحات بنجامين إنها تعبر عن اهتمام مغاير لاهتمام الحكومة الاتحادية وكأنما هذا يعد أثراً من أثار وفاة الراحل قرنق على روح التوافق بين الشريكين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في مسألة خيار الوحدة واعتبار ان تقرير المصير لابد منه للشعور الدائم بأن الوحدة طوعية وليست إجبارية بعد ان تنتفي الأسباب الداعية لخيار الانفصال في المرحلة الانتقالية المخصصة لتنفيذ اتفاقية السلام الشامل وترغيب أبناء الجنوب في استمرار الوحدة بتوضيح مخاطر الانفصال بعد اختفاء أسبابه وزوال دواعيه. وحينما يطلب وزير الإعلام بحكومة الجنوب أن يقوم التلفزيون القومي أو الإذاعة القومية أو أى موقع الكتروني تابع للدولة بدعم خيار الانفصال مع دعم خيار الوحدة، فبالمثل يمكن أن تطلب الحكومة الاتحادية من وزير الإعلام بالجنوب نفسه أن يوجه عبر تلفزيون الجنوب بدعم الوحدة وبعض الانجازات التي ذابت فيها دواعي الانفصال بعد أكثر من خمس سنوات من إدخال اتفاقية السلام الشامل حيز التنفيذ وبتوضيح أن الاتفاقية وقبلها المفاوضات الطويلة قد جاءت من أجل اجتثاث الدوافع التي تقف من وراء الرغبة في الانفصال ولكن الملاحظ أن حكومة الجنوب ممثلة بالحركة الشعبية تمنح لبعض أبناء الجنوب الفرصة الكافية للتعبير عن رغبتهم في الانفصال كما يفسر هذه الظاهرة الجديدة هناك تخصيص يوم التاسع من كل شهر لإنطلاق تظاهرة تنادي بالانفصال تحت الأضواء وهذا بالطبع ما تحرمه اتفاقية السلام الشامل على الشريكين لأن خيار الانفصال فيها ليس قائماً على الدعاية السياسية وإنما كما هو معروف يأتي تعبيراً عن احترام إرادة المواطن الجنوبي بجعل الوحدة له طوعية. ويتفق مع هذا الاتجاه الرسمي للدولة المعارض البارز للسيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي حيث قال: (أدعو لضرورة التصدي للأصوات المارقة التي تخون آلية تقرير المصير وتتحدث عن استقلال الجنوب كأنه كان مستمراً – يقصد بعد الاستقلال – والجنوب كان متحداً مع الشمال بطوعه وسوف يقرر في يناير القادم استمراره في هذه الوحدة أو انفصاله). ويؤكد المهدي ما أشرنا إليه هنا من مقارنة بين جهازي الإعلام في الشمال والجنوب قائلاً: (لغة الشمال تعلو نحو الوحدة فيما يتحدث الجنوب عن الاستقلال،وأطالب بتغيير لغة الجنوب لتكون أكثر إيجابية تجاه الوحدة). أما المعارض البارز الآخر محمد إبراهيم نقد سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي فيبدو متفائلاً بتفهم أغلبية الشعب الجنوبي لضرورة الوحدة وأن أضرارها مهما بلغت من الافتراض لا يمكن أن تكون بقدر مخاطر الانفصال حيث قال: (الشماليون داخل الحركة الشعبية ليس لهم مقدرة التأثير على التيار الانفصالي داخل الحركة الشعبية والحركة لا تمثل كل الجنوب ومطلوب من التحالف ايصال صوته للقوى السياسية بالجنوب) وهو يقصد بالتحالف ما يعرف بتحالف أحزاب جوبا .. وهي نسخة معدلة لما كان يعرف بالتجمع الديمقراطي ولكن كان الغريب جداً رغم تصريحات القيادي بالحركة الشعبية ووزير إعلام حكومة الجنوب بنجامين ما صرح به نائب الأمين العام لذات الحركة ياسر عرمان حيث صرح قائلاً: (الحكومة – يقصد الاتحادية – تتحمل مسؤولية انفصال الجنوب، وأدعو لتغيير جذري في المركز الذي يمارس السيطرة على مقاليد الحكم منذ الاستقلال وقد يرث جنوباً جديداً) وهذا التضارب الواضح في الفهم السياسي للأمور على الساحة ينم عن أن الحركة الشعبية لا تنطلق من إستراتيجية إعلامية واحدة وما قاله عرمان من تحمل الحكومة لمسؤولية الانفصال يجافي منطق بنجامين في دعم الإعلام الرسمي في الخرطوم لخيار الوحدة وما قاله عرمان أيضاً حول سيطرة المركز على مقاليد الحكم يبقى حديثاً لا يصلح بعد التوقيع على اتفاقية نيفاشا قبل أكثر من نصف عقد وما تبعه خلال السنوات الماضية من انجازات على مختلف الأصعدة ويشاهدها الناس مثلما يشاهدون السماء والأرض وما بينهما. لكن يبقى الأهم هو توفير النزاهة في عملية الاستفتاء القادم، فلا تتأثر صناديق الاستفتاء بما تأثرت به في أبريل الماضي صناديق الانتخابات وذلك لأن النزاهة تعني أن الأغلبية بإمكانها حماية خيارها مستقبلاً من التداعيات غير محمودة العواقب وفي هذا الصدد يقول مستشار الأمن القومي السوداني الفريق مهندس صلاح عبد الله قوش بأن (ضرورة قيام استفتاء حر وشفاف يعبر عن إرادة الجنوبيين والحذر من قيام استفتاء مشكوك في نزاهة يؤدي إلى صراع ومشاكل بين الشمال والجنوب في المستقبل). ويدعم المبعوث الأمريكي الخاص للسودان اسكوت غرايشن تحذير قوش الذي التقاه بالخرطوم مؤخراً حيث يقول الأول: (أتعهد بمخاطبة الجهات ذات الصلة بالاستفتاء مثل اليونميس ومركز كارتر والجهات ذات الخبرة في المراقبة للاضطلاع بدورها في هذا الصدد). وفي هذا الاتجاه حذر أيضاً مسئول رفيع بالقصر الجمهوري وهو مساعد الرئيس السوداني الدكتور نافع علي نافع مما أسماه تكرار تدخل الجيش الشعبي في الجنوب في العملية الانتخابية تكراره في صناديق الاستفتاء في يناير القادم. وحديث مساعد الرئيس ومستشار الأمن القومي والمبعوث الأمريكي لعله يمضي في اتجاه واحد مع التحذير الرسمي الأمريكي من إقامة دولة فاشلة في جنوب السودان تصبح خزياً وندامة على التفريط في استمرار الوحدة بعد أن بذلت لها كل مستحقاتها المختلفة وكان مؤخراً قد تحدث المسئول الأمريكي الرفيع (بايدن) عن غياب مقومات الدولة في الجنوب أو على الأقل عدم توفرها بالكامل، أي أن ما تمتع به الجنوب بعد اتفاقية نيفاشا من حكم ذاتي وغير كإقليم محكوم بنظام فيدرالي لا يؤهله حسب واشنطن ليكون دولة مستقلة وهنا ينكشف سر أفضلية خيار الوحدة كما يبدو.