اتفاقية السلام الشامل (CPA) أثارت جدلاً واسعاً خلال توقيعها في يناير 2005م وهذا الجدل مرده إلى أنها أنهت حرباً طويلة امتدت لخمس عقود، وكذلك امتداد فترة التفاوض في نيفاشا وقبلها، ومما زاد الزخم حولها أيضاً أنها اتفاقية جريئة في محتواها وعكست رغبة أكيدة للحكومة في الوصول لسلام حتى لو أدى الاتفاق في نهايته إلى انفصال جنوب السودان. والآن بقرب إنتهاء الفترة الانتقالية وقرب موعد استفتاء جنوب السودان، يمكن القول إن اتفاق السلام ظل صامداً رغم احتكاكات الشريكين وأن بروتوكولاته الست مستمرة في التنفيذ إذا استثنينا بروتوكول أبيي الذي ظهرت به تعثرات أفضت إلى تقرير الخبراء ومن ثم قرار محكمة التحكيم الدولية بلاهاي انتهاءً بمفاوضات أديس أبابا حول أبيي برعاية المبعوث الأمريكي اسكود غرايشن .. المركز السوداني للخدمات الصحفية (smc) مثل شاهد عيان خلال الجولة التي علقت مداولاتها إلى نهاية شهر أكتوبر الجاري. من نيويورك إلى أديس أبابا خلال اجتماعات الأممالمتحدةبنيويورك وفي اللقاء الذي جمع الوفد الحكومي برئاسة الأستاذ علي عثمان محمد طه ووفد الحركة الشعبية برئاسة الفريق سلفاكير الذي رفض فيه الوفد الحكومي المقترح الأمريكي الذي يستثنى المسيرية الرحل من استفتاء أبيي بتحديد الإقامة بثمانية أشهر كشرط للأهلية في التصويت، اتهم باقان أموم المؤتمر الوطني بأنه سبب التلكؤ في تنفيذ استحقاقات اتفاقية السلام وأكثر من ذلك وصف المؤتمر الوطني بأنه العقبة الوحيدة في سبيل التوصل لاتفاق سلام يحقق الاستقرار في أبيي وأن الحركة الشعبية تستطيع الوصول لاتفاق تام مع المسرية (إذا خرج المؤتمر الوطني منها) ولكن النائب علي عثمان بخبرته وذكاءه السياسي يكتشف الفخ الذي حاول نصبه باقان أموم لإظهار المؤتمر الوطني مظهر الرافض لكل الحلول، وافق على حوار يجمع المسيرية بالدينكا نقوك عبر الوسيط الأمريكي وجاء اقتراح أديس أبابا مقراً لهذه المفاوضات. ولأن الحركة الشعبية قدمت هذا المقترح كمناورة سياسية فقط ولم تكن جادة في ذلك ولم تتوقع موافقة المؤتمر الوطني عاد نيال دينق وطلب من غرايشون أن يكون التفاوض مباشرة مع المؤتمر الوطني وليس المسيرية إلا أن غرايشون استخف بهذا الطلب المتأخر واعتبره عدم جدية من جانب الحركة الشعبية بل أكد على حتمية لقاء أديس أبابا. المسيرية يهاجمون واشنطن في أول أيام الجولة التفاوضية بأديس أبابا جمعت الوفد الأهلي للمسيرية بالجنرال اسكوت غرايشن والسفير بالخارجية الأمريكية جونستون ليمان، طلب غرايشون من الوفد إبداء آراءهم ومقترحاتهم للحل باعتبارهم المجتمع الذي يمارس أنشطته الحياتية في المنطقة بعيداً عن الآراء السياسية .. وتركز حديث المسيرية لغرايشون في الآتي: (بوصفكم مبعوث لأمريكا وهي دولة عظمى تستطيع حل المشكلات الكبيرة، نطلب منكم العدالة بين المسيرية والدينكا وحفظ حقوق الجميع، وباعتباركم تمثلون الرئيس أوباما يجب عليكم العدل وإلا فلن يكون هناك سلام) ويتواصل الحديث (في كل الفترات التاريخية السابقة كل التعايش بين القبائل سيد الموقف إلى أن تدخلت السياسة، ولم يقو الدينكا نقوك ويظهر التوتر إلا بعد الدعم الأمريكي والدولي لهم في حين لم تقدم أمريكا بالمقابل شيء للمسيرية وتقوّى الدينكا نقوك بأمريكا لسلب حقوق المسيرية). (ونحن كمسيرية لسنا أقوياء لنقاتل القوى الدولية التي سندت الآخرين ولكن هذه القوى لن تستطيع أخذ حقنا لتعطيه للآخرين) (ونحن متمسكون بأرضنا وبحدود 1/1/1956م – الجزرة والعصا الأمريكية حاول الوسيط غرايشون امتصاص هجمة المسيرية وامتلاك زمام المبادرة والدخول في الأجندة الحقيقية للدخول في المفاوضات، حيث قال إن لديه خلفية تاريخية جيدة عن المنطقة ويرغب في طرح شيء عن المستقبل وقال نطرح عليكم الانتقال من مجتمع رعوي إلى مجتمع مدني متطور تتوفر له كل الخدمات في الحياة المستقرة الحضرية وتلتزم أمريكا والمجتمع الدولي بتنفيذ ذلك في مناطقكم – وجاء رد المسيرية مفحماً لغرايشون برفضهم مقترح (الأرض مقابل الخدمات) كما سموه – بل أشاروا إلى علمهم بمخطط دولي لإبعاد المسيرية شمال خط عرض 12 درجة، وأنهم لن يتنازلوا عن أراضيهم ومستعدين للقتال والحرب – هنا انتقل غرايشون إلى خيار بديل تحت شعار العصا .. وقال للمسيرية إذا كنتم متمسكين بحدود 1/1/1956 فهل هذا يعني أنكم لن ترسلوا بقرة واحدة إلى بحر الغزال بالجنوب؟ وهنا ساد صمت طويل ظنه غرايشون نصراً لصالح المقترح الأمريكي المتحامل على المسيرية .. إلا أن نظرة الفرح التي لمعت بعيني غرايشون لم تدم طويلاً – حيث انبرى أحد قيادات المسيرية وقال لغرايشون: كل الاتفاقيات الدولية في العالم تقدم حقوق الإنسان قبل حقوق الحيوان لأن حقوق الرعي ثانوية وهذه الماشية التي تحاولون أن تجعلونا نتنازل عن الأرض بسببها يمكن أن تهلك بسبب أي آفة أو مرض ويمكننا بيعها وتغيير نشاطنا إلى آخر بل أكثر من ذلك سنذبحها بأيدينا لنحفظ أرضنا التي نتمسك بها ولن نقبل بغيرها حتى لو استبدلتموها بشيكاغو الأمريكية. الحركة الشعبية .. إقترح وأهرب دخلت الحركة الشعبية أديس أبابا وهي مرتبكة بسبب أن مقترح مفاوضة المسيرية مباشرة لم يكن في مصلحتها وحاولت التنصل عنه، وكذلك الأوضاع الداخلية في الجسم التنظيمي للحركة بسبب التأجيل المتكرر لاجتماعات مجلس التحرير القومي وانهيار قطاع الشمال فضلاً عن أن تعقيدات قضية أبيي يتولاها فقط بعض قيادات الحركة من منسوبي منطقة أبيي ويحاولوا استخدام إمكانيات الحركة في معركة جانبية لا تهم كل الجنوبيين بل تخص تسع عموديات من الدينكا نقوك الموجود منها على الأرض خمس عموديات فقط – في قضية شائكة وغير مدعومة بمنطق يمكن أن تتسبب في تأجيل استفتاء جنوب السودان بأكمله وهذا ما لا يقبله أهل الجنوب ممن اعتبر التاسع من يناير 2010م موعداً مقدساً لإجراء الاستفتاء. لذلك ظهر جلياً حجم التوتر الذي يعانيه الوفد المفاوض للحركة الشعبية بينه وبين الوفد الأهلي للدينكا نقوك الموجود بموازاة وفد المسيرية ووصل التوتر وعدم التناغم من وفد الحركة الرسمي والأهلي إلى حد مغادرة الوفد الأهلي أديس أبابا إلى جوبا قبل صدور البيان الختامي لجولة المفاوضات .. وواضح كذلك رغبة الحركة في إفشال المفاوضات من أول يوم – وهذا يؤكد عدم جاهزيتها وإحساسها بالورطة التي أوقعها فيها باقان أموم – حيث عملت الحركة على رفض كل المقترحات التي تقدم بها الوسيط الأمريكي بلا استثناء وظلت باستمرار تقوم ببعض التسريبات الإعلامية بانهيار المفاوضات إلى حد الحديث عن توجه الوفدين للمطار ورجعوهما دون أن يكون لذلك أي درجة من الصدقية في الحقيقة. المسيرية من جوبا .. لا تفريط في أبيي أشرنا إلى اتجاه الحركة الشعبية لإستراتيجية التشويش الإعلامي على المفاوضات بإدعاء انهيارها تارة وبالالتفاف على المسيرية تارة أخرى باستنطاق بعض المحسوبين عليها من أبناء المسيرية وحدثهم على التصريحات بأن الوفد الأهلي الذي يضم أكثر من ثلاثين عضو من بين ناظر وعمدة وشيخ لا يمثل المسيرية، وأن هناك الآلاف من المسيرية انضموا للجيش الشعبي – هذه التصريحات أثارت استياء القيادات الأهلية وجعل بعضهم يخرج عن صمته ويقدم معلومات خطيرة حول بعض أبناء المسيرية الذين انضموا للحركة الشعبية – قال محدثي: إنا من الذين انضموا للحركة الشعبية ثم عدت لأهلي بسبب أن الحركة لا تملك رؤية واضحة في أي قضية بل تقوم بكل ما تقوم به نكاية في المؤتمر الوطني وتستغل بعض أبناء المسيرية وغيرهم في ذلك، وأضاف أنه لم يحدث أن جاء وفد من المسيرية شامل بهذه الصورة ومفوض من جميع القواعد كما يحدث الآن بأديس أبابا وكل الحلول والمفاوضات السابقة كنا مغيبين منها – وأكد أنه لم ينضم للحركة الشعبية أي من المسيرية بالأعداد التي ذكرت وأشارت بعض الأرقام إلى ثلاثة عشر ألف عنصر، (نعم صحيح لدينا بعض الأبناء وهم ضباط الآن بالجيش الشعبي يقيمون بجوبا بسبب خلافات شخصية وسياسية وهذا رأيهم ولكن فيما يتصل بقضية أرض أبيي فأؤكد لك أنهم متفقين مع القبيلة 100% ولا رأي لهم غير ذلك وعلى الحركة الشعبية ألا تراهن عليهم في هذا الأمر، وإلا لماذا لم يدفعوا بواحد منهم للمفاوضات هنا كما فعلنا نحن بضم ثلاثة من قيادات دينكا نقوك ضمن وفدنا الأهلي). السفارة السودانية .. نموذج الوحدة السفارة السودانية بقيادة السفير محي الدين سالم وطاقمه كانوا حضوراً أنيقاً خلال المفاوضات منذ استقبال الوفدين المفاوضين الرسمي والأهلي، ولعل دور السفارة وفاعلية طاقمها تتمثل في التنسيق الكبير مع السلطات الأثيوبية في منح الوفد الأهلي تأشيرات الدخول لأثيوبيا من داخل أديس أبابا في حرص أكيد من السلطات الأثيوبية على إنجاح التفاوض. شهد الوفدين الأهليين للمسيرية والدينكا نقوك أثناء وجودهما بأديس أبابا حفل وداع أقامته السفارة على شرف وداع العقيد شرطة ميندانق دينق مجوك مدير إدارة الجوازات وهو أحد أبناء نقوك من الذين تربطهم أواصر مودة وصداقة مع كثير من قيادات المسيرية أبان فترة عمله الشرطي في الفولة وبابنوسة ولعل أبلغ تجليات التمازج الوطني ظهرت في تكريم ميندانق بواسطة الناظر مختار بابو نمر ممثلاً للمسيرية وبجانبه السلطان كوال دينق مثلاً للدينكا نقوك وأبلغ تعبير قاله ميندانق في كلمته التي قالها والدموع تذرف من عينيه (أتمنى ألا أشاهد تسجيل هذا الحفل مرة أخرى وقد إنقسم السودان، لأن ذلك سيكون نقطة سوداء في حياتي) – الحفل تخللته فقرات غنائية وكلمة من السفير اكواي بونا ملوال السفير بالإنابة وذلك لمشاركة السفير محي الدين سالم في القمة العربية الأفريقية بليبيا في ذات الفترة – ومن اللافت للنظر هنا التناغم في أداء المهام بين السفير سالم ونائبه أكواي حتى في تمثيل اكواي لسالم في دعوة الغداء التي أقامها الأخير في منزله للوفدين الرسمي والأهلي الحكومي في أثناء غيابه ووجوده بليبيا. (smc) في قبضة (غرايشون) لما كان الوسيط الأمريكي قد ألزم الشريكين بسياسة التكتم الإعلامي حول المفاوضات وجد المركز صعوبة بالغة في استنطاق أي من الوفدين الرسميين حول مجريات التفاوض ولكن بحكم شبكة علاقات المركز مع الجميع استطعنا التقاط بعض التصريحات والتغطيات الحصرية ولكن الفضول الصحفي جعلنا نطلب المزيد حيث تيسر لمندوب المركز دخول إحدى الجلسات التي ترأسها الوسيط غرايشون وبعد إنتهاء الجلسة خرج الموفد مع الوفد الأهلي للمسيرية من أمام بهو فندق هيلتون وتصادف وجود وفد الحركة الشعبية ومن بينهم د. لوكا بيونق والذي أشار لطاقم غرايشون بأن من بين المسيرية صحفي يتبع ل(smc) – فوجد موفدنا نفسه محاصراً باثنين من الأمريكان الغلاظ لا يعصون غرايشن ما أمرهم – وبعد جولة مفاوضات معهم، اكتفى بنفي التسجيل لأي من المداولات في الجلسة والالتزام بعدم التغطية من داخل الجلسات. تعليق المفاوضات كما ذكرنا كان واضحاً عدم رغبة للحركة الشعبية في التفاوض من خلال التسريب الإعلامي المتكرر بانهيار المفاوضات – ومن داخل قاعات التفاوضي برفض المقترحات التي يقدمها الوسيط الأمريكي دون إبداء أي مرونة تفاوضية .. وكان آخر المقترحات المطروحة للتفاوض حولها رسمياً هي أن تتبع منطقة أبيي للجنوب كلياً وهذا ما رفضه الوفد الحكومي والمقترح الآخر أن يتم تقسيم المنطقة إلى جزئين شمالي وجنوبي وهذا المقترح رفضته الحركة الشعبية، وإلى هنا وصل الطرفان إلى طريق مسدود أخطر الوسيط غرايشون إلى الاتصال بالرئيس الأمريكي أوباما لعرض الموقف – حيث طلب من أوباما إمهال الطرفين مزيد من الوقت للتفاوض بجانب لقاءات جمعت كل وفد على حدة مع رئيس الوزراء الأثيوبي ملس زيناوي أكد فيها الأخير ضرورة التوصل إلى حل للقضية. أعقب ذلك يوم كامل من التفاوض انتهى بتعليق الجولة وأصدر بيان ختامي مشترك جاء فيه.. البيان المشترك على مدى تسعة أيام اجتمع وفد المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في أديس أبابا للتفاوض حول مسألة أبيي التي هي إحدى استحقاقات اتفاقية السلام الشامل. وبالرغم من الجهود المخلصة التي بذلت والروح الإيجابية إلا أن الطرفين لم يتمكنا من التوصل لاتفاق حول مسألة الأهلية للمشاركة في استفتاء أبيي. وقد اتفق الطرفان على التباحث حول أبيي في السياق الأشمل لإجراءات الاستفتائين وترتيبات ما بعد استفتاء جنوب السودان وهذا حتى تتاح للطرفين الفرصة للتوصل لوضح نهائي لأبيي فحسب، بل للتوصل لإطار يعالج كل المسائل العالقة سواء منها الخاصة باتفاقية السلام الشامل أو ما بعدها. ويؤكد الطرفان أنهما سيلتقيان مجدداً في أثيوبيا في نهاية أكتوبر الجاري ليواصلا محادثاتهما بذات الروح البناءة، ويؤكد الطرفان التزامهما بهدفهما المشترك في تعزيز السلام والاستقرار وتجنب العودة للنزاع. نظرة أمريكية جديدة يبدو أن الإدارة الأمريكية تتعاطى مع كل قضايا السودان لا سيما قضايا الجنوب عبر منظور الحركة الشعبية الذي كثيراً ما يخلط الحقائق بالتمنيات، بل يتعدى الأمر أحياناً إلى جرأة بعض قياديي الحركة بالتحدث نيابة عن أمريكا وبصوت المجتمع الدولي لذلك جاؤوا للتفاوض بدون رؤية للحل بل في اعتقادهم أنه بمجرد انهيار المفاوضات أي كان الطرف المتسبب في ذلك سيتم ضرب الخرطوم وفرض عقوبات عليها، لذلك كان حديث غرايشون بعد جلسات الاستماع التي جمعته مع وفد المسيرية بعيداً الوفد الرسمي جاء حديثه وفهمه أكثر موضوعية وأعمق للمشكلة حيث قال للحركة: المسيرية ليسوا مواطنين من الدرجة الثانية وأنتم ترغبون في جعلهم مواطنين درجة ثانية وأنه إذا حدثت حرب في المنطقة فأنتم كحركة شعبية تتحملون مسؤوليتها لتعنتكم وتغير مواقفكم باستمرار بدون مبررات – ولا تحاولوا خداعي بمعلومات وأمور أنا أعرفها كما أعرف تماماً رأي وأهداف المسيرية. ووضح حرص أمريكا على الوصول لتسوية قضية أبيي قبل إجراء استفتاء جنوب السودان حيث أكد غرايشون على أنهم يريدون استفتاء يؤدي إلى سلام وليس إلى حرب. وبات في حكم المؤكد أن تستأنف الجولة القادمة برئاسة الأستاذ علي عثمان مترئساً للوفد الحكومي والفريق سلفاكير ميارديت مترئساً لوفد الحركة الشعبية وأن يبدأ التفاوض من مقترح تقسيم المنطقة إلى شمالية وجنوبية حسب المعايير والأسس التي يتفق عليها الطرفان بما يحقق الاستقرار ويحفظ الحقوق للجميع.