ما أن خرجت الحركة الشعبية على الرأي العام بقضية أبيي من مسارات الحل الموضوعة إلى أروقة مجلس الأمن الدولي في محاولة لدعم مواقفها، حتى كشفت وسائل الإعلام مضمون المذكرة التي دفع بها د. رياك مشار الرجل الثاني في حكومة الجنوب إلى الفريق سلفاكير ميارديت، متهماً فيها قيادة قطاع الشمال المحسوب على الحركة بالعمل على تفجير الأزمات بين الشمال والجنوب، والإعداد لمخطط يهدف لإشعال التوتر العرقي. وراحت المذكرة تعبر عن حقيقة الأوضاع في الحركة بالإشارة إلى أن تلك الممارسات تمثل أجندة سياسية تؤثر سلباً على مصالح الجنوب، مما يحتم الوقوف بحزم ضدها، بل والتحقيق مع المسؤولين عنها. وإذا كانت مذكرة مشار جاءت بدافع الشفقة على مصلحة الجنوب التي جعلته يسدي النصح صراحة لرئيسه، فإن فصلاً آخر من الممارسات السلبية غير محمودة العواقب بدأت تبرز على السطح. فما معنى أن يقوم باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية بحشد ما يسمى بالمنظمات الشعبية في الولاياتالمتحدة معروفة الاتجاهات؛ لتطلب إلى مجلس الأمن الدولي عقد اجتماع غير رسمي اعتبرته وزارة الخارجية السودانية تصعيداً غير مبرر يخالف روح الحوار والإتفاق الذي تم بين الرئيس عمر البشير ونائبه الأول سلفاكير، بشأن استئناف المفاوضات والوصول لاتفاق نهائي حول أبيي نهاية مارس الجاري. وجدد الناطق الرسمي باسم الخارجية خالد موسى تمسك الحكومة بالحل السلمي للقضية عن طريق التفاوض. وبعيداً عن ما يمثله عقد جلسة مجلس الأمن التي تشارك فيها الحكومة السودانية، فإن هناك إشارات وضحت من خلال تحرك مجموعة باقان التي عناها رياك مشار، تبرز أن الأول الذي يحاول استثمار علاقاته بالمنظمات الغربية بينما القيادة قد تكون مغيبة أو متوجسة مما يجري، وفي كلا الحالتين تظهر بمظهر المغلوبة على أمرها. سلفاكير قد يضحي بصورته وقوة شخصيته إذا سمح للآخرين في الحركة أن يوجهوا كروت اللعبة بعيداً عنه، فالرجل يحمل تركة من القضايا العالقة من بينها أبيي لا مجال لحسمها إلا بالجلوس إلى طاولة الحوار مع الشريك وليس أروقة مجلس الأمن مهما كانت النقاشات معقدة. ولعل سلفاكير يدرك هذه الحقيقة لذلك سارع بإرسال مبعوث خاص متزامناً مع زيارة باقان لنيويورك للقاء الرئيس باراك أوباما، وكأنه أراد تقديم نفسه من جديد لأمريكا حتى لا يقلل الظهور القوي لباقان أموم هناك من صورته التي تتناوشها التحليلات، فباقان يمكن أن يكون وجهاً مناسباً لدى الغرب أكثر من سلفاكير، وقد يكون الأحق بقيادة الجنوب مستقبلاً، وهذا أمر لا يحتاج إلى كثير فهم أو عميق نظر. وتشير بعض التسريبات أن سلفاكير أراد إبلاغ أوباما بنيته زيارة الولاياتالمتحدة ربما بعد تاريخ قيام دولة الجنوب في التاسع من يوليو المقبل. وتثار علامات الاستفهام حول حماس رئيس مكتب الحركة بواشنطن أزكيل جاد كوث لتوجهات باقان والوقوف معه بينما تجاهل مندوب حكومته الذي أرسله رئيسها شخصياً. وقد لا تفارق لحظات زيارة سلفاكير من قبل للولايات المتحدة مخيلة رجل الجنوب الاول، الذي لم يوفق في مقابلة الرئيس الأمريكي باراك أوباما رغم أن رؤساء أمريكا قابلوا من هم أقل قامة من سلفاكير بحكومة الجنوب في أوقات سابقة، مثل ربيكا قرنق التي اجتمعت مع الرئيس جورج بوش. وفي هذا إشارات مهمة كان لابد أن يلتقطها سلفاكير الذي يعلم كيف يفكر الأمريكيين ببعد نظر قد لا يعبرون عنه صراحة. وإن كان لرئيس حكومة الجنوب أوراق يرمي بها في سباق اللهث نحو مسارات لحل قضية الجنوب، فهو يدرك أن ذلك يكون بالداخل وليس الخارج الذي له طريقة تفكيره بل وأجندته التي قد لا تتوافق مع ما هو مطلوب لاستقرار الجنوب بالدرجة الأولى. فأبيي وحدها لا تمثل المعضلة في الوقت الراهن وقد بدأت بنادق الجيش الشعبي ترتد نحوه، دافعها الولاء للقبلية أكثر من الدولة الجديدة التي تغذيها المرارات والظلم الذي لحق بالكثير من المنشقين، إذ يرون أنه لا مجال لغسله إلا بالدماء. هذا الوضع قد يتحمل عواقبه رجل الجنوب الأول وليس باقان و أبناء قرنق، لذلك ليس أقل من أن يولي وجهه تجاه الشمال لحسم ما بينه وبين الجنوب، فيضع أسس راسخة يبني عليها الدولة المرتقبة، وإلا فإن قيامها على كل ما هو معلق قد يفتح عليه جبهات أخرى الجنوب في غنى عنها. في ظل هذا الوضع قد لا يجد سلفاكير ما يسليه في غربته النفسية إلا مثل مذكرة نائبه رياك مشار، وكأن مشار يثبت له ما يكتمه في صدره، ويؤكد صحة هواجسه التي لابد أن تتحول إلى يقين يتطلب منه أن يتحرك باتجاه ايجابي، ولا يترك الحبل على غارب الآخرين الذين يسبحون بالجنوب شرقاً وغرباً، غير عابئين بالعواقب، فنتيجتها على كل حال يتضرر منها من يرجع له الأمر، وأي فشل يتحمل مسؤوليته هو، بينما يصبح إخفاقه لهم نجاحاً في طريق مشروعهم الذي ورثوه عن قرنق ويأبون إلا فرضه رغم فشلهم في بقاء أقوى ركائز وجوده، وهي الوحدة بين الشمال والجنوب.