مثّلت أحداث العنف القبلي التي أندلعت بمدينة واو بولاية شمال بحر الغزال فى دولة جنوب السودان الشهر الماضي، أحدث فصول دورات العنف التي تعصف بإستقرار تلك الدولة الوليدة. ففي الرابع من ديسمبر الماضي قامت مجموعة من شباب قبيلة الفرتيت بإغلاق الطرق داخل مدينة واو، إحتجاجاً على قرار حاكم الولاية بنقل عاصمة الولاية من واو، إلى مدينة (باقاري). وبحسب تقرير لبعثة الأمم في دولة جنوب السودان (يوناماس) صدر في 21 ديسمبر، فإن الوالي أصدر إنذاراً في 8/12 للمتظاهرين بالتفرق في غضون 24 ساعة، في الوقت الذي دعت فيه البعثة السلطات إلى ضبط النفس، وعدم إستخدام القوة. وبناء على طلب من حاكم ولاية شمال بحر الغزال، قامت بعثة (اليوناماس) ،في الفترة ما بين 6-8 ديسمبر ،بإجراءات للتوسط مع مجموعة الشباب الثائرين ،للحيلولة دون وقوع مواجهات دامية. ولكن على ما يبدو لم تلتزم السلطات بالولاية بتعهداتها ونصائح البعثة الأممية لضبط النفس وعدم استخدام القوة المفرطة في التعامل إلى المحتجين؛ وفي 8 ديسمبر قامت قوات الأمن بفتح طريق الرابط بين مدينتي "واو" و "بوسير" بالقوة، مما أسفر عن مقتل (10) أشخاص . وعلى إثر ذلك، وفي اليوم التالي لتلك الحادثة ، نظّمت فعاليات المجتمع المدني ،مظاهرةً سلمية ،في إطار مناهضة قرار نقل عاصمة الولاية للإحتجاج على طريقة تعامل السلطات العنيف مع المتظاهرين ،وكذلك حوادث القتل المروعة التي وقعت بين الشباب المحتجين سلمياً. ومثلما حدث عند محاولات فتح الطرق وفض التظاهرات السلمية ،أستخدمت سلطات الولاية القوة المفرطة في التعامل مع مظاهرة منظمات المجتمع المدني ،مما أدى إلى مقتل (6) أشخاص وجرح حوالي (28) آخرين. وذكر تقريربعثة (اليوناماس) أن فريقاً من البعثة عقد سلسلة إجتماعات لإدارة الأزمة في 9 ديسمبر من أجل التحقق من المعلومات على الأرض،ومناشدات السلطات بضبط النفس ،وينقل التقرير "أن الوالي أدعى أن المظاهرت ضمت عناصر مسلحة حاولت إطلاق سراح نزلاء بالسجن ونهب فرع البنك المركزي بالمدينة" ؛وذكرت تقارير أخرى أنه تم إضرام النار في عد من العربات ،وعلى إثر ذلك أصدر الوالي قراراً بإعفا ء مدير شرطة مقاطعة "واو" لعدم تعامله الحكيم مع الموقف. وتصاعدت حدة المواقف والعنف، حيث أصدرت بعثة الأممالمتحدة بياناً صحفياً في 12/12 عبرت من خلاله عن أسفها عن أحداث العنف ووقوع ضحايا ،كما أجرت "وحدة حقوق الإنسان" بالبعثة تحقيقاً حول الأحداث ،بعد أن سافر وفد من البعثة لمقابلة حاكم الولاية والشركاء الآخرين ،ومقابلة عدد من المواطنين الذين تأثروا بأحداث العنف. على أن وتيرة العنف أزدادت حدة في السابع عشر من ديسمبر، عندما تحولت أحداث العنف لتغدو ذات طابع قبلي – عرقي أكثر بروزاً بين الفرتيت والدينكا ،وأشتعلت أحداث العنف المتبادل بين الطرفين عندما تحدثت تقارير عن مقتل مزارعين من قبيلة الدينكا على أيدي أفراد من الفرتيت. ورغم الإتصالات التي تمت بين مسؤولي بعثة الأممالمتحدة والمسؤولين بدولة جنوب السودان، بحسب تقرير البعثة الأممية ،وشملت تلك الإتصالات وزراء الداخلية والأمن الوطني ورئيس هيئة الأركان بالجيش الشعبي ،حيث حملوا رسائل بضرورة العمل على ضبط النفس والإسراع في التوصل إلى حلول سلمية للصراع في واو. وأبدى التقرير أسفه لتسارع العنف حيث وردت أنباء بأن مجموعة مسلحة من شباب الدينكا قاموا بإحراق الممتلكات ،في التاسع عشر من ديسمبر ،أدت إلى مقتل وجرح (50) من المدنيين في القتال الدامي بين الطرفين. وفي مساء نفس اليوم لجأ حوالي (5) آلاف من المدنيين فراراً من أحداث العنف والإنتقام والإستهداف المتبادل،إلى مقر البعثة الأممية بغرض إلتماس الحماية ؛وظل المدنيون حول مقر البعثة الأممية، عند مدخلها الرئيسي ،قبل أن تنخفض أعدادهم الطالبين للحماية بشكل تدريجي، ورجعت أعداد منهم إلى ديارهم. وقال تقرير بعثة الأممالمتحدة بدولة جنوب السودان (يوناماس) في تقرير المشار إليه ،أن البعثة وخلال أيام الأزمة ،ظلت تقوم بالتنسيق بين مكوناتها ورصائفها على المستويين القومي والولائي، وتطلق الإنذارات المبكرة للمطالبة بعدم الإفراط في إستخدام القوة ضد المدنيين ،وضرورة انتهاج الحوار السلمي، كما أنها – أي البعثة – تعمل على نشر مزيداً من القوات الإضافية للحيلولة دون تفاقم الأوضاع والعمل على استعادة الوضع في مدينة "واو" إلى طبيعته. ويرى مراقبون أن وتيرة العنف القبلي في إتساع مستمر داخل دولة جنوب السودان،مع أن العنف كان قد سجّلت حوادثه المروعة ،في ولايات أعالي النيل والوحدة وجونقلي ،وتفاوت مسبباته بين النزاعات القبلية ،وبين حركات التمرد المسلح ،إلا أن أحداث العنف التي شهدتها مدينة "واو" طوال شهر ديسمبر ،والتي وثقتها بعثة الأممالمتحدة في تقرير رسمي، يعتبر مؤشراً جديداً على خريطة وأنماط العنف التي تعصف بالإستقرار بدولة جنوب السودان الوليدة. وحمّل العنف الذي وقع بين "الدينكا" و"الفرتيت" دلالة على أن نطاق الصراعات القبلية بين الدينكا كونها القبيلة الأكبر عدداً والأكثر هيمنة على مقاليد الأمور داخل الدولة الوليدة ،خاصة في الجيش الشعبي وبين قبائل الفرتيت وتعتبر الأخيرة أكثر قبائل جنوب السودان نزوعاً إلى السلم ،حيث لم تشهد مناطق تلك القبيلة أي توترات سواءً مع قبائل الجنوب أو قبائل التماس ،على حدود ولايات جنوب دارفور وجنوب كردفان. ويبدو من تقرير الأممالمتحدة أن السلطات بدولة جنوب السودان قد تقاعست عن السيطرة على أحداث العنف،وتوفير الحماية للمواطني بمدينة "واو" على خلفية النزاع بين الدينكا والفرتيت ،مما أدى سقوط عدد من الضحايا ،وجرح أعداد أخرى منهم، كما لم تتعامل السلطات في مدينة "واو" مع الإنذارات المبكرة والنصائح،التي بعثت بها البعثة إلى كافة المسؤولين على مستوى الولاية والحكومة الاتحادية ،لاحتواء شرارة العنف في مهدها، قبل أن تتوسع لتشمل أبعاداً أخرى ،مما نتج عنه من أحداث دامية سقط على إثرها ضحايا مدنيون.