محمد جمال عرفة* هو نمط جديد من الحصار الذي تفرضه القوى الاستعمارية الغربية المتحالفة مع الدولة العبرية، هدفه تفكيك وتفتيت المقاومة في العالم العربي والإسلامي المناوئة للهيمنة الغربية والصهيونية، سواء كانت "حركات مقاومة" مثل حماس، أو دول مثل السودان وسوريا وإيران والتي تتمرد على هذه الهيمنة الأمريكيةوالغربية عموما وتعرقل مصالحهم في المنطقة العربية والإسلامية. هذا النموذج – الذي يستهدف بناء ما يسمى "شرق أوسط معتدل" خال من "المقاومة" و"الإسلاميين" على السواء – تم تطبيقه في غزة في صورة الحصار الناعم، ثم القوة العسكرية القاسية لوأد المقاومة الفلسطينية التي قادتها عدة فصائل مقاومة على رأسها حماس، وساهمت في نجاحه ظروف الاحتلال والطبيعة الجغرافية المتعلقة بحدود غزة التي تقع في حضن الاحتلال، وليس لها سوى منفذ وحيد على مصر (معبر رفح) مقيد باتفاقية دولية، وربما سيصبح الوضع فيه أكثر تقييدا بعد اتفاقية "رايس- ليفني" الأمنية التي جعلت كل الدول الأوروبية وحلف الناتو تشارك فيه، وتحاصر منطقة محتلة أصلا لتضفي بذلك شرعية قانونية على الاحتلال الإسرائيلي. هذا النموذج طبق في وقت من الأوقات تدريجيا أيضا على العراق حتى انتهى بغزوه واحتلاله بموافقة أممية وأوروبية، وطبقت على السودان مراحل منه، وكذلك على إيران، ولكنه كان محكمًا على غزة ومرشحًا لمزيد من الإحكام في صورة حصار خانق بموافقة دولية بل وعربية هذه المرة. لماذا السودان؟ وقد فتح العدوان الإسرائيلي على غزة – باعتباره قمة هذا الحصار ومرحلته الأخيرة الحاسمة– الباب لإثارة تساؤلات حول إمكانية تطبيق هذا النموذج على السودان والانتقال من الحصار الناعم لاستعمال القوة، خصوصا أن هناك حديثا متصاعدا في الغرب حول سيناريو حصار وتدخل غربي – بحجة دارفور – بعدما أوشكت الحرب النفسية والإعلامية ضد السودان –كما حدث في غزة – أن تكتمل، وتتهيأ لها أيضا الظروف السياسية المناسبة كنقطة وثوب لتنفيذ الفكرة، مع اقتراب صدور قرار من المحكمة الجنائية الدولية بشأن إيقاف ومحاكمة الرئيس البشير. وهيأ لهذا أيضا، تولي إدارة أمريكية جديدة مشحونة بالعداء للخرطوم، تضم عصبة من الصقور الداعين للتدخل بالقوة في السودان وليس حصاره فقط، وفرض منطقة حظر طيران على غربه، كما حدث في شمال وجنوب العراق قبل غزوه، وهو ما ظهر في أول تصريح لوزيرة الخارجية "هيلاري كلينتون" ومندوبة أمريكا في الأممالمتحدة "سوزان رايس" والتي كانت من كبار مستشاري إدارة كلينتون لشئون إفريقيا خلال الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، وخلال ضرب "مصنع الشفاء" في السودان عام 1998. فقد طالبت كلينتون بتطبيق منطقة حظر طيران في دارفور يضطلع بها الناتو، أما سوزان رايس، فحثت على توجيه "ضربات عسكرية" مباشرة تقوم بها الولاياتالمتحدة أو الناتو، وفرض حظر بحري على مواني السودان الرئيسية لمنع صادرات النفط. ولأن السؤال المنطقي هو: "لماذا السودان" الذي تثار من حوله فكرة تنفيذ حصار على غرار غزة يكون مشمولا برعاية دولية من البر والبحر والجو؟. الإجابة لن تخرج عن حقيقة أن حالة السودان تبدو حالة أكثر إلحاحا لشهية الغرب الذي يرغب في ابتلاع موارده النفطية والمعدنية الثمينة (يورانيوم وكوبالت... إلخ)، فضلا عن أهمية الموقع الجغرافي الإستراتيجي الممتاز للسودان، وكونه بوابة بين العالمين العربي والإفريقي، والعالمين الإسلامي والمسيحي في القارة السمراء، دون الحديث عن الإرث العدائي الحضاري والتاريخي. كما أن هناك توافق مصالح غربية – إسرائيلية تجاه السودان، ظهر في اللوبي الصهيوني الأمريكي الذي شكل "تحالف إنقاذ دارفور"، وروج لفكرة وجود "هولوكوست في دارفور"، للتغطية على الجرائم الصهيونية المختلفة وآخرها محرقة غزة، فضلا عن وجود مخطط إستراتيجي إسرائيلي قديم لتفتيت السودان، تحدث عنه بصراحة غير معهودة وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي (آفي ديختر) في محاضرة نشرتها الصحف العبرية يوم 10 أكتوبر الماضي 2008، تحت عنوان "الهدف هو تفتيت السودان وشغله بالحروب الأهلية"؛ لأنه كما قال: "السودان بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكانه يمكن أن يصبح دولة إقليمية قوية وقوة مضافة إلى العالم العربي". حظوظ النجاح وفي صدد تشريح إمكانية نجاح أو فشل خطة الحصار والغزو الغربية هذه وتشديدها على الخرطوم وصولا لاحتمالات العمل العسكري، يمكن الحديث عن عدة عقبات وعن أن قدرات السودان على تحدي هذا الحصار أكبر بكثير للأسباب الآتية: 1 تختلف حدود غزة عن حدود السودان، فالسودان محاط بسبعة دول حدودها مفتوحة ومتعددة الاتجاهات وصعب التحكم فيها، حيث يحده مصر وليبيا شمالا، وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى غربا، وزائير وأوغندا جنوبا، وأثيوبيا والبحر الأحمر شرقا، مما يجعل أي حصار بري صعب وبلا فائدة. 2 لو حاولت الدول الغربية فرض أي حظر على السودان برا أو بحرا أو جوا سيكون هذا الحصار فاشلا، بسبب سهولة التغلب عليه من جانب دول الجوار الرافضة والصديقة خصوصا ليبيا، وبسبب الطبيعة الجغرافية الصعبة أيضا، كما أن توجيه أي ضربات جوية يعرض المصالح الغربية عموما في السودان للخطر والضياع ويجعل الخرطوم حلا من أي التزامات دولية. 3 سبق أن اقترح القاضي الجنوبي الإفريقي ريتشارد جولدستون -وهو مدعي سابق في محاكم جرائم الحرب- إنشاء برنامج "النفط مقابل الغذاء" كسبيل لحل أزمة إقليم دارفور، على غرار الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأممالمتحدة على العراق، وقال: "إن تطبيق نظام النفط مقابل الغذاء سيمكن الصين من الاستمرار في شراء النفط السوداني في الوقت الذي تدعم فيه أيضا الجهود الدولية لإنهاء أزمة دارفور، كما أنه بمقتضى البرنامج المقترح، يمكن إنفاق صادرات النفط السودانية على مشروعات التنمية والمشروعات الإنسانية فقط. والمشكلة هنا أن فرض هذا النظام أو حصار مواني السودان بهدف منعه من تصدير النفط، سيتضرر منه جنوب السودان الحليف المهم لواشنطن بسبب حصوله على نصف موارد هذا النفط، ولو قبل الجنوبيون ذلك الأمر، فسيعني هذا انهيار حكم الشريكين وانتهاء اتفاقية السلام (نيفاشا)، كما أن هذا الحظر أو الحصار سيتضرر منه الغرب نفسه وعلى رأسه أمريكا لحاجتهم لهذا النفط، وسيدفع حظر النفط الغرب عموما للدخول في عداء وصراع مصالح مع دول أسيوية عديدة أقلها الصين وماليزيا التي لها شركات في السودان، وتستفيد من هذا النفط. 4 قال لي مسئول سوداني رفيع عندما سألته عن الحظر الغربي -أي حظر – وهو ساخرا: "تفتكر لو مثلا وقعوا حظرا تجاريا علينا وقمنا من جانبنا بتخفيض سعر بيع النفط للنصف أو الحبوب للنصف.. هل ستظل دولة مثل أثيوبيا أو الدول المجاورة الفقيرة تشارك في الحصار والحظر أم ستبادر لخرقه والشراء منا". وكان المسئول يقصد بذلك أن هناك آلاف الوسائل لخرق الحظر أو الحصار لو فرض وسيكون أشبه بالغربال أو الجبن السويسري، ويكفي أن حماس مثلا حفرت 1200 نفقا لخرق الحصار المشدد على غزة، في حين تبلغ مساحة السودان سبعة آلاف مرة مساحة قطاع غزة. 5 لو فرض حظر جوي على دارفور كما يقترح صقور إدارة أوباما، فالمتضرر الأكبر من هذا هو هيئات الإغاثة الأجنبية التي يصعب عليها نقل الإغاثة والعتاد لعشرات الجمعيات الأوروبية هناك – لطول المسافة – بدون النقل الجوي، وهو أمر يمكن أن تمنعه الخرطوم وتحظر عمل المنظمات الأجنبية ككل هناك. 6 حكم المحكمة الجنائية الدولية المنتظر الخاص بالرئيس البشير أصبح صدوره أو تنفيذه الآن مستحيلا، ومحرجا للعالم الغربي، وسيزيد العداء للغرب بسبب ازدواجية المعايير مع جرائم غزة المثبتة بواسطة عشرات المنظمات الدولية. 7 سبق للخزانة الأمريكية أن قالت في تقرير شامل حول الخطط الأمريكية تجاه الخرطوم، إن حصار السودان يضر بأزمة دارفور نفسها، ودفع هذا واشنطن لرفع الحظر التجاري في التعامل مع جنوب السودان ومع دارفور، ولكنه لم يؤد إلى نتيجة فعلية مؤثرة على السودان بل على العكس أثر على مصالح أمريكية؛ فبدأت مرحلة أخرى من الاستثناءات مثل استثناء استيراد الصمغ العربي من السودان!. هناك بالتالي عقبات كثيرة أمام تطبيق نمط حصار غزة الشامل -الذي تشارك فيه أمريكا وكل الدول الأوروبية- على الحالة السودانية، خصوصا أن حصار غزة نفسه فشل حتى الآن برغم محدودية قدرات غزة على المناورة. ومع هذا فهناك توقعات سودانية أن يستمر السيناريو الغربي كما هو في الفترة المقبلة في صورة حصار اقتصادي وسياسي على غرار ذلك الذي فرض على الرئيس عرفات في رام الله، مع إطالة عمر فترة "الحصار الناعم" لدراسة آثاره في تغيير توجه السودان نحو طاعة المصالح الغربية اعتمادا على تكثيف حزمة الضغوط بقرارات الجنائية الدولية، وبالمقابل تحييد العمل العسكري المباشر (حظر جوي أو حصار مواني) على الأقل في الفترة المقبلة باعتبار أن استعمال القوة أثبت في حالات عديدة فشله وانقلب لعكس الأهداف المرجوة منه. * المحلل السياسي بشبكة إسلام أون لاين.نت