دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السياسة ونزق التكفير.. بقلم

!-- /* Font Definitions */ @font-face {font-family:Arial; panose-1:2 11 6 4 2 2 2 2 2 4; mso-font-charset:0; mso-generic-font-family:auto; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:-536859905 -1073711037 9 0 511 0;} @font-face {font-family:"Cambria Math"; panose-1:2 4 5 3 5 4 6 3 2 4; mso-font-charset:0; mso-generic-font-family:auto; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:3 0 0 0 1 0;} @font-face {font-family:Calibri; panose-1:2 15 5 2 2 2 4 3 2 4; mso-font-charset:0; mso-generic-font-family:auto; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:-520092929 1073786111 9 0 415 0;} /* Style Definitions */ p.MsoNormal, li.MsoNormal, div.MsoNormal {mso-style-unhide:no; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; margin-top:0cm; margin-right:0cm; margin-bottom:10.0pt; margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:Calibri; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:Calibri; mso-fareast-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} .MsoChpDefault {mso-style-type:export-only; mso-default-props:yes; font-size:11.0pt; mso-ansi-font-size:11.0pt; mso-bidi-font-size:11.0pt; font-family:Calibri; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:Calibri; mso-fareast-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} .MsoPapDefault {mso-style-type:export-only; margin-bottom:10.0pt; line-height:115%;} @page WordSection1 {size:612.0pt 792.0pt; margin:72.0pt 72.0pt 72.0pt 72.0pt; mso-header-margin:36.0pt; mso-footer-margin:36.0pt; mso-paper-source:0;} div.WordSection1 {page:WordSection1;} --
بسم الله الرحمن الرحيم
ما عادت الكتابة تنفس كرباً، أو تذهب حزناً ،فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف ، وكتب على أهل السودان الفشل والإحباط، وأرتنا الأيام ما كان خافياً، في بلد تزيد مآسيها كل يومٍ ضغثاً على إبالة ، فالإقتصاد تراجع على نحو أخاف العقلاء، وأجفل النوم عن عيون الناصحين، والحرب مع إخوان الأمس تنذر بشرر، بعد أن كتب الله علينا الشقاق والإفتراق بما كسبت أيدينا لا بما كسبت أيدي بني أسرائيل كما نزعم، والمأساة الأكبر أنك أينما حللت أو ذهبت وتجاذبت طرفاً من الحديث في هذه الأيام وجدت أن القاسم المشترك بين أهل السودان جميعهم همٌ وإحباط، وشعورٌ بعدم السكينة والأمان، بل حتى عضوية المؤتمر الوطني الذين حسبناهم غلاظ الأكباد، جفاة الطباع، ها قد عرف الخوف إلى قلوبهم سبيلاً، بعد أن شح الضرع ،ونكد الزرع، وقبع الزيت في جوف الأرض بأمر سيادة دولة الجنوب، فالحزن – على قياس قصيدة مظفر النواب - ما عاد في هذه الأيام يستثني أحداً،( في كل عواصم هذا البلد قتلتم فرحي .. في كل زقاقٍ أجد الآلام أمامي .. أصبحت أحاذر..حتى الهاتف ..حتى الحيطان .. أعترف الآن أمام الصحراء بأني مبتذلٌ وحزين.. كهزيمتكم يا شرفاء مهزومين .. ويا حكاماً مهزومين .. ويا جمهوراً مهزوماً)، نعم نعترف الآن بالهزيمة أمام صحرائنا اليباب،إذ ما عادت هنالك غابة. (فلماذا أدخلتم كل السيلانات إلى غرفتها ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب).
في هذا الوضع الغائم الملبد بالكوراث، ما كنت أعتقد أن بين أهل السودان من يجرؤ على الإنصراف بنا عن قضايانا الحيوية ليزج بنا في سجالات شوفونية ذات أغراض نرجسية استعراضية، الغرض منها لفت الأنظار وعبادة الذات على نحوٍ يحاول إحتكار الحقيقة والتظاهر بالعلم والمعرفة بالخوض في أمورٍ نظرية، الأصل فيها الإجتهاد، وخلاصة ثمرتها تلخصها عبارة (أن كل فتاة بأبيها معجبة)، لكن للأسف بيننا شوفونيون يهمهم النظرإلى أنفسهم في المرآة ولا يلفت ناظريهم أبداً أن الدولار كسر حاجز الخمسة جنيهات وأن أهل السودان يجأرون بالشكوى من طاحون غلاء ينذرهم بشح البلغة ونضوب المعين، أو كما يحلو لأهل التزييف أن يصفوها (بفجوة الغذاء ) لا المجاعة.
أقول قولي هذا وقد استفزني حوارٌعلى قناة النيل الأزرق ضم واحداً من المنتسبين للرابطة الشرعية، لم يفتح الله عليه بكلمة في مأساة أهل السودان الحقيقية- المأساة السياسية التي ولدت كل مشكلاتنا - لكنه شغل الناس بأمورٍ لو وقف مع نفسه قليلاً لخجل من الخوض فيها، فالرجل طيلة زمن الحلقة لم يسع لهدف سوى تجريم الإمام الصادق المهدي، وضرب الوصايا على الناس بسبب إجتهادات تقبل الخطأ والصواب، وتتحمل الأخذ والرد، والحق أقول ما كنت لأتجشم عناء الكتابة في هذا الموضوع الانصرافي لولا أني رأيت أن وهم المعرفة واحتكار الحقيقة وتصنيم الفكرة قد سيطرت على عقول البعض منا على نحو مزعج، أيضاً طالعت على موقع الراكوبة قبل الشروع في كتابة هذا المقال، أن منتسباً آخر من أهل الرابطة الشرعية أبت عليه نفسه إلا أن يوزع على الناس ما أسماه الزندقة والتحريض على القتل مواربةً تحت مصطلح تكفير الأقوال لا الأعيان والذاوات، مع أن تكفير الأقوال يقود ضرورةً إلى تكفير القائل بها، ثم إني علمت أيضاً أن هناك عراكاً جرى بين مجموعة سلفية وجماعات من المتصوفة في ساحة المولد بأم درمان، ولو تواضع هؤلاء جميعهم لاستحوا على أنفسهم من الغلو الذي تورطوا فيه بمقارفة هذه الدعوات الضارة، ولو أنهم كانت بهم أثارة من علمٍ كما يزعمون لغشيهم من تواضع العلماء ولو نزرٌ يسير، فالإمام الشوكاني على سعة علمه لم يغتر مثل هذا الغرور، فهو القائل ( إن الحق بين المقصر والمغالي والصواب في التوسط بين الإفراط والتفريط)، وعلى نحوٍ من هذا التواضع العلمي يقول الإمام الشافعي، الذي شهد له أهل الفضل بالألمعية والفطنة، يقول عليه رضوان الله ( منهجي صوابٌ يحتمل الخطأ ومنهج غيري خطأٌ يحتمل الصواب)، هكذا كان سلف هذه الأمة وبهذا الإعتدال سادت دعواتهم وبفضل الله ثم بفضلهم عرف الناس أمر دينهم، فإذا جاء هؤلاء ليحيوا بيننا بدع الخوارج فليعلموا أن الخوارج ماتت طريقتهم وبارت تجارتهم قبل 1400سنة، فبالله عليكم كيف تريدون لها الترويج في زمنٍ اتسم بسيولة المعلومة وصارت فيه حرية الضمير والتفكير ميثاقاً تحترمه جميع الأمم، الخوارج هؤلاء لم يتردد شاعرهم ابن حطان لحظةً في مدح ابن ملجم قاتل من قال عنه المعصوم صلى الله عليه وسلم ( أنا مدينة العلم وعليٌ بابها)، اسمعه يقول في مدح ابن ملجم : ( "يا ضربةً من تقيٍ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش قربانا **إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية ميزانا)، فبالله عليك ماذا تقول فيمن يتقرب إلى الله بهذه الشنائع وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، لا شك أن المنهج واحد ولو تطاول بنا الزمان، فإن كان هؤلاء لم يتورعوا عن إمام العادلين أبي تراب، فهل تريد من خَلَفِهم أن يتورع عن الإمام الصادق المهدي، أو الشيخ يوسف الكودة أو الشيخ حسن الترابي أو غيرهم ممن أبوا على أنفسهم سواءة التقليد، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) هود 118 ، فما دام أن الإختلاف واقعٌ بين الناس حتماً فالأولى بهم ألا يكلوا الفصل فيه لرأي بشر كائناً من كان ، وإنما يكون أمره إلى الله إن شاء أثاب وإن شاء عذب (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين اشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيءً شهيد )الحج 17، فما بال البعض منا يريد أن يقيم من نفسه حكماً وفيصلاً بين الناس يصدر الأحكام و يوزع الأوصاف على الناس وأقوالهم كيف يشاء، وهو الضعيف القاصر المشدود إلى حظوظ نفسه وهواها.
أقول: إن الأحكام الفقهية العملية مهما كان الرأي فيها غالياً فإنه لا ينبغي الزج به في باب التكفير، ذلك أن الرأي في المسائل الفقهية العملية الفرعية لا يعدو أن يكون عملاً تأويلياً يتأثر بدلالات اللغة عند المخاطب، ويتأثر بالزمان والمكان، وبرهان ذلك، الخلافات المذهبية التي وقعت بين السلف الصالح رضوان الله عليهم، وتولدت عنها المذاهب الإسلامية، ما كان منها مشهوراً وما هو غير ذلك، أنظر إلى نجم الدين الطوفي الحنبلي، كيف خصص النص بالمصلحة المرسلة، لكن لم نسمع بأن أحداً من أهل زمانه قال بكفره، وعلى هذا النحو خالف بعض الظاهرية كافة المذاهب الإسلامية وقالوا بجواز نكاح الربيبة من غير ذاوت الأحجار (أي التي لم تساكن زوج أمها في بيتٍ واحد)، ومع غرابة هذا الرأي وشذوذه لم نسمع أن أحداً من المسلمين قال بكفره أو بتكفير معتقده، وخذ على هذا النحو الشيعة الإمامية الذين لا يقولون بتوريث العصبات مع البنات المنفردات، ومع ذلك عد الشيخ محمود شلتوت عليه رحمة الله مذهبهم في الأحكام العملية الفرعية مذهباً معتبراً وإن لم يقرهم على الأصول (العقائد)، وإذا ذهبت تعدد الأراء الفقهية الشاذة على هذا النحو فهي أكثر من أن تحصى، لذلك فإن من حق الناس أن يتفقوا مع السيد الصادق المهدي أو حسن الترابي وغيرهم أو يختلفوا معهم في أرائهم الفقهية – فهذا وسعهم – لكن لا يجوز أبداً إتهامهم في دينهم لأن ذلك سيكون شره على البلاد مستطيرا، ذلك أن التطرف في الموقف والتعصب إلى الفكرة ثمرته من جنسه ومن يغرس الحنظل لن يجني العنب، وفي الحديث (هلك المتنطعون) رواه مسلم ، قال النووي في شرحه (أي المتعمقون العادون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم)- شرح النووي على صحيح مسلم، وفي أعلام الموقعين الجزء الرابع ص150 ورد القول منسوباً إلى عبد الله بن مسعود ( أياكم والتبدع، وإياكم والتنطع..إلخ قوله)، ولو ذهبنا نعدد مثل هذه الآثار فإنها لا تحصى، لذلك ينبغي على الذين يتشددون في مواقفهم الفكرية أن يتواضعوا قليللاً ويلتمسوا للناس الأعذار مثلما التمسوها لأنفسهم عند تخاذلهم في كثير من المواقف الوطنية ذات الثمن الباهظ، لكن للأسف بدلاً من ذلك نادى أحدهم بتطبيق حدة الردة على الشيخ حسن الترابي بسبب آراء فقهية وكلامية تناولها الناس بالنقد سلباً وإيجاباً وأخذت حظها من لفت النظر بما يكفي، وهذا هو الواجب أن يرد على الكلمة بكلمة مثلها، فلو أن القتل يبيد الأفكار ويفنيها لماتت بيننا الفكرة الجمهورية بموت صاحبها، لكن العكس حدث تماماً فقد غيض الله تقنيةً حديثة توصل إليك الأفكار قبل أن تقوم من مقامك الذي أنت فيه، فقط بنقرة على زرٍ صغير، فما بال هؤلاء القوم يريدون لأنفسهم العيش خارج العصر، مع أنهم لا يتأففون عن التنعم بمقتنياته ولذاذاته جميعها، إنها بالحق الشيزوفرينيا الفكرية ضربت بأطنابها على بعض أهل السودان.
نلفت النظر إلى أن الردة، هذه الأداة التي يريد بعضنا أن يصفي بها الخصومات الفكرية والسياسية اختلف أهل العلم حولها،هل هي حد أم جريمة تعزيرية؟ (الجريمة التعزيرية يحددها الحاكم ويحدد عقوبتها ويمكن له أن يلغيها ويلغي عقوبتها في أي وقتٍ شاء)، فقد جاء في كتاب أصول النظام الجنائي الإسلامي للشيخ الدكتور محمد سليم العوى أن آية سورة التوبة (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً شديدً في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من وليٍ ولا نصير )- التوبة 74- قال الدكتور العوى( إنها تتحدث عن كفر المنافقين بعد إسلامهم، ومعلوم أن المنافقين لا عقوبة دنيوية محددة لهم لأنهم لا يظهرون الكفر وإنما يخفونه..والأحكام القضائية في النظام الإسلامي تبنى على ما ظهر من الأقوال والأفعال)، وجاء في ص 163 من ذات الكتاب (أن الأحاديث التي ورد فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مرتداً أو مرتدة أو أمر بأيهما أن يقتل كلها لا تصح من حيث السند)، وأورد في ذات الصفحة المذكورة حديثا شريفاً نصه (أن إعرابياً بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الأعرابي وعكٌ بالمدينة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقلني بيعتي –أي أقبل تحللي من الإسلام – فأبى رسول الله صلى عليه وسلم ،ثم جاءه ثانية فقال : يا محمد أقلني بيعتي ، فأبى ،فخرج الأعرابي،فقال صلى الله عليه وسلم :إنما المدنية كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها) لكنه لم يأمر بقتله كما يريد لنا المنتصفون لأنفسهم لا لدين الله كما يزعمون، أيضاً انتهى الشيخ محمود شلتوت عليه رحمة الله إلى ذات الرأي حين قال في كتابه (الإسلام شريعة وعقيدة) بمناسبة مناقشة حديث (من بدل دينه فاقتلوه ) الذي رواه ابن عباس وصححه البخاري ، قال عليه رحمة الله ( وقد يتغير وجه النظر في المسألة إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرون أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد ،وأن الكفر نفسه ليس مبيحاً للدم ،وإنما المبيح محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم (بالقسر) وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير من الأحيان تأبى الإكراه على الدين)، فإذا كان ذلك كذلك، فما الذي يدعو البعض منا إلى المنادة بتكفير السيد الصادق أو أقواله (لا كبير فرق بين تكفير الأقوال والذوات كما يوحي لنا التبريريون) وهو الرجل المشهود له بالفضل والصلاح والعلم والكفاءة، إنها في وجهة نظري الثارات والمصالح والأهواء ، وإلا لما تجرأ ذلك الرجل ليقول إن الصادق المهدي أباح الربا، مع أن قضية السيد الصادق المهدي ذات العلاقة بموضوع الربا الذي أثاره شيخنا المخاصم كانت كلها تدور حول الورق النقدي "البنكنوت" وهل يجري فيه ربا النسئية أو لا ، إنها مسألة تكييف شرعي شأنها شأن اختلاف الناس على قضية التورق وعلى المرابحات التي تجريها البنوك في هذه الأيام وتزعم أنها إسلامية، وقس على ذلك كل الآراء الفقهية التي أدلى بها الصادق المهدي في الآونة الأخيرة، وقد سبق له أن طرح بعضا ًمنها في لقاءات علمية حافلة بأهل العلم والنظر الشرعي فلم يقل ولا واحد منهم بأن فيها مروقاً عن الدين، وهذا يدلك على أن الدافع لهذا التجريم دافع سياسي وليس ديني شأنه شأن الدافع النميري الذي ذهب بشيخ الفكرة الجمهورية إلى مقصلة كوبر.
وختاماً أقول إن الدين محفوظ بحفظ الله له (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ولا يحتاج إلى وصيٍ حادث سرعان ما تذهب به المنايا إلى مصير محتوم، هذا إن أحسنا الظن وافترضنا أن الغيرة التي شاهدناها كانت لله لا للمصالح والأهواء، وليتذكر الذين يخشون الاختلاف – ليس في الرأي فحسب ، بل في كل شيء- قول الله تعالى ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربي )، فالله هو الذي وزع الأرزاق ومن بين هذه الأرزاق العقول التي تفكر، وعلى رأي ديكارت "أعدل الأشياء قسمةً بين الناس هي العقل السليم ) حال كل إنسانٍ راضٍ بعقله والرأي الذي يقوده إليه ولو كان هذا الرأي في نظر الآخرين رأياً مأفونا، ولذلك يجب أن نتواضع ولا نغتر ببنات أفكارنا، فالغرور الفكري قد يقودنا إلى نتائج كارثية أدناها المشاحة والضغينة والبغضاء، هذا إن لم يزين لنا سفك الدم الحرام والتورط في هلكات سرعان ما ترتد سهامها إلى نحورنا، ولنا في التاريخ خير عظة، فالمعتزلة يوم أن اغتروا بأفكارهم وامتحنوا على عهد المامون الإمام أحمد ابن حنبل سرعان ما شربوا من زعاف ذات الكأس على أيام المنتصر ولم تبق منهم باقية، لذلك ينبغي على الذين يتبنون دعاوى التكفير منا أن يراجعوا أنفسهم ويتقوا الله في أهلهم وبلادهم قبل أن يقولوا أكلنا يوم أن أكل الثور الأبيض ولات حين ندم، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.