كتب في عينيها، بيتا واحدا من الشعر، وأجهش بالبكاء. تلك أطول وأصدق قصيدة، في العيون، في كتاب الشعر العربي، على الاطلاق! العجز عن الإدراك، إدراك. ذلك من العلم العرفاني.. وهو من علم الشعر، والشعر ليس قبض يقين. إنه الحيرة، والعجز، والاستحالة. مايتراءى لنا، ليس هو.. وماليس هو، ليس قبض يقين.. ولو كنا نقبض، على ما يتراءى لنا، في تخوم الذات، قبض يقين، ماكان بدر شاكر السياب، قد أدخل نفسه، في تلك " الأوأوة" حين أخذته تلكما العينان العراقيتان أخذا، فراح يقول" أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر" بعد أن قال عنهما" عيناك غابتا نخيل ساعة السحر"! قال صديقي، بيته اليتيم، وأجهش. هكذا يغمرنا البكاء- دائما- في حالة الحيرة،والعجز، والاستحالة.. ولو أنه انصرع- لاقدر الله- لكان بذلك البيت اليتيم وحده، والبكاء، قد قال أطول وأصدق قصيدة، في ديوان الشعر الانساني، كله! أنا، ما اقتربت من عينيها. فررتُ، لكن عينيها أبكتني! من أشعر من؟ هو.. الذي كتب بيتا يتيما، وبكى.. أم أنا الذي ماكتبتُ فيهما بيتا، وأبكياني؟ من. هو الذي أدركته الحيرة، أم أنا الذي أدركت الحيرة.. وأدركت العجز.. وأدركت الاستحالة، فلذتُ بذلك الإدراك بالفرار، وبكيتُ.. بكيتُ من فراري، وبكيتُ ثانيا من صمتي، بكيتُ؟! في أم درمان، قصة خرافية:: قيل للشاعر الغنائي البديع، اسماعيل حسن، هناللك معلمة في مدرسة أمدرمان الثانوية، تمتلك عينين، ولا أروع، ولا أجمل، ولا، ولا، ولا.. قال له أحدهم:" أنا قلت فيهما كذا، وكذا" وقال الثاني:" وأنا قلت كذا، وكذا" وقال الثالث:" وأنا قلت كذا" وقال الرابع:" أها ياسماعيل.. انت ح تقول فيها إيه، لو شفتها؟! قال لهم: " لمن نشوفا، نشوف!" و... مشوا به، ذات يوم، إلي المدرسة. نادوا عليها. أول ماتراءت عيناها لاسماعيل، خطف رجليه الاثنتين معا، وراح يجري، ويجري، ويجري.. وأصحابه وراءه، يحاولون إمساكه، حتى إذا ماكان بالقرب من جسر النيل الأبيض، وقف. سمعوه يقول مع طلوع ونزول أنفاسه اللاهثة، وهو يرتجف: أمسكي عليك، عيونك ديل.. أمسكيهن، خليني، أروح إنفك.. من شبكة عيونك ديل. دا شيتن أصلو ما شُفنا.. لا في الناس، ولا في الريل، دا ما قدر الله.. جانا عديل. أمسكي عليك عيونك ديل، عليك ذاتك، أمسكيهن..
عيونك ديل، يتاوقن لىْ، زى شباك، منور في ظلام الليل، يشابن لىْ. أنا الغرقان.. أنا الضهبان، أنا الخايف.. زى القشة في مهاوي السيل.. أمسكيهن.. أمسكي عليك عيونك ديل! مرة أخرى، من هو الذي أشعر:: صديقي: ذلك الذي كتب بيتا، وبكى.. أم اسماعيل ود حسن، ذلك الذي، لولا رجليه، وأبياته الغنائية تلك، لكان قد أهلكته تيانك العينان، أم.. أم أنا الذي أهلكتني عيناها، يوم فررتُ،ماقلت شيئا، بكيتُ من صمتي، ولا زلتُ أبكي؟ يااااه. ماالذي أغراني، للكتابة عن العيون، وأنا الذي يشغلني عن العيون، هذا الرمد، في عينى، وكل هذا التعب في الشوف، في هذا العمر المتأخر؟ ما الذي أغراني، غير كل هذه الدموع التي أغرق فيها الآن، وتغرقني.. وغير كل هؤلاء الأساتيذ الذين مازالوا، يحشون أدمغة صغارنا، ببيتين من الشعر القديم، اعتبروهما هما، أفضل بيتين، قيلا في وصف العيون.. البيتان:" إن العيون التي في طرفها حور.. قتلننا... ثم لم يحيين قتلانا " يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به.. وهن أضعف خلق الله أركانا" آه، من هؤلاء الأقدمين. لو كانوا قد سمعوا شاعرا غنائيا سودانيا، يتغني في عينين، بقوله:"" حلوة عينيك زي صحابي.. عنيدة كيف، بتشبه شريحتين من شبابي.. وسمحة زى ماتقول ضيوفا، دقوا بابي.. فرحي بيهم، سال.. ملا حتى الكبابي!" لو كانوا، قد سمعوا، ماكانوا قد قالوا ما قالوا.. وماكان الأساتيذ، قد تمسكوا بهاتين البيتين من الشعر، في أيامنا هذي.. الأيام التي أصبحت فيها عيون الحبيبة، صحاب.. وفتوة شباب.. وضيوفا يدقوا الباب نصايص الليل.. وفرحا بيهم، يسيل يملا " التُكل" ويملا حتى السراير، والأباريق، والكبابي! لقد أوصف صاحبي بشرى الفاضل، وعينا حبيبته تأخذانه أخذا، بأكثر مما أوصف، سماعيل ود حد الريد، وأكثر مما أوصف السياب.. وامتدح نفسه كريما، وكشف عن كرم فيه، دونه كرم حاتم الطائي.. لكن صاحبي- ود الفاضل- ليس أشعر مني، بأية حال من الأحوال. كيف له، وأنا الذي لا زلت أعاني من عينيها ما أعاني.. منذ أن فررتُ منهما يوم فررتُ أبكي.. وأبكي من فراري.. وأبكي- ثالثا- من صمتي.. أبكيييييييييييي!