الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    مصطفى بركات: 3 ساعات على تيك توك تعادل مرتب أستاذ جامعي في 6 سنوات    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    تايسون يصنف أعظم 5 ملاكمين في التاريخ    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    دبابيس ودالشريف    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موكب بطولة

لم أكن حينها قد عرفت طريقي إلى المدرسة بعد، بسبب حداثة سِنّي, رغم كوني كنت شديد اللهفة عليها, أستبطيء مرّ الأيام التي تبعدني وتفصلني عنها, وأحلم باليوم الذي أرى فيه نفسي غادياً ورائحاً منها, وحقيبتي المدرسية الممتلئة بالكتب والدفاتر تتدلّى خلفي على ظهري وتكاد تُطْبق على أنفاسي. ولأنّني أُحب دائماً أن أظهر كما أنا, دون أن أُخْفي حقيقتي خلف نفثات البخور ومساحيق الزينة والتجمُّل, فإنَّني لن أخجل من أن أذكر أنّ تعلُّقي الشديد ولهفتي المتّقدة العارمة تجاه المدرسة, لم يكن لهما أيّ صلة لا من قريب ولا من بعيد بأيّ شغف فطري غريزي أو ميول مبكرة نحو العلم والمعرفة. فالحقيقة التي لا أماري فيها أنّ شيئاً من هذا ما كان ليجرؤ بتاتاً على إقتحام خواطري وتشويش أفكاري, لأنّ عوالمي الطفولية التي كنت أعيش في ظلالها كانت مهمومة ومنشغلة بأشياء ومواضيع أخرى لا تمت بأيّ وشيجة تربطها بالعلم والمعرفة. وحقيقة أخرى كثيراً ما حاولت كتمانها أفشيها هنا وأكشف تفاصيلها لأول مرّة, وهي أنّي ما حسدت إنساناً قط حينها كحسدي لأخي الأكبر الذي حظي بشرف دخول المدرسة قبلي, وطبعاً هذا بحكم فارق السن الذي كان بيننا. لكن منشأ هذا الحسد وأصله, أنّ أخي هذا كان بارعاً جدّاً وله مهارة فائقة, لا يستطيع أن ينافسه فيها أحد, في إستفزازي وإغاظتي وإثارة كل كوامن الشرّ في نفسي. وله في ذلك تفنّن وإبداعات, لا ينضب معينها على كثرة ما يغرف ويدلق على رأسي. وأكبر الظن أنّه كان هو من يعود إليه الفضل في إندفاعي العنيف ورغبتي الجارفة تجاه المدرسة. وذلك لظنّي الذي يرقى الى درجة اليقين, أنّه في نفس اليوم الذي سألتحق فيه بها, سيضّطر هو الى إبتلاع لسانه الطويل اللّاذع, إذ لن يجد شيئاً آخر يختال به عليّ. وإن أنسى فلن أنسى ما حييت تلك الجلسات الثقيلة على قلبي, التي كان يحلو له أن يجلسها الى أمي, حين يعود آخر النهار، فيحكي لها ويسرد بالتفصيل الممل المقيت يومياته في المدرسة. ولا تسل عن النظرة الحانية المشحونة بالإعجاب والإكبار التي كانت تهديها إليه أمي, في حضوري ودون مراعاة لمشاعري. كانت تلك النظرة تقتلني وتسفك دمي غيظاً وحنقاً, ولا أجد سوى الفرار بعيداً لأُنفِّس عن لواعجي المكبوتة, بكاءاً ونحيباً وربما أيضاً تكسيراً في الأشياء من حولي. وأَدْرَكتْ أمي لاحقاً بما تميّزت به من حسٍّ عالٍ وذكاءٍ مرهف, ما كنت أعانيه وأكابده. فأعلنت كشئٍ من التعويض, وبسبب الحاجة الماسّة الى توازن القوى الضروري داخل البيت, أنّني سأختلف الى دار الحضانة ابتداءاً من الأسبوع القادم. وكم كانت فرحتي بالغة وسعادتي لا توصف بهذا الخبر, مع أنّه لم يكن سرّاً خافياً على أحد بإستثنائي أنا حينها, أنّها أي أمي كانت صاحبة المصلحة الكبرى في ذلك. لرغبتها الشديدة في التخلّص منّي ومن أوجاعي لبعض الوقت, تستردّ فيه صفاءها وراحة بالها المنتهكة بسبب شكاوي الجيران الكثيرة منّي, التي كانت لا تكفّ تنهال على رأسها طيلة اليوم كالحمم والشظايا الملتهبة. ومسكين باب دارنا قد تعب وناله ما ناله من الإرهاق, من كثرة الطرق عليه. فهو لا يكاد يسكت ويهدأ قليلاً حتّى تعاوده حُمَّى الطَرْق مجدّداً كأشدّ ما كانت, بسبب أيدي الشاكين الغليظة. أمّا القشّة التي قصمت الظهر وأغرقت السفينة, فكانت ما فعلتُه بذلك الصبي المعتوه, الذي خطف على حين غفلة منّي لعبتي الأثيرة لديّ, ثم أطلق ساقيه للريح, ظانّاً أنّه بهذا سيفلت من قبضتي. ولكن لسوء حظه وسواد يومه لحقت به. ولأنّه كان شديد التفلّت يصعب الإمساك به, فقد إعترضت سبيله بقدمي، فتعثّر عليها, وصار كأنّه الطائرة قد أقلعت لتوّها من مدرّجها من شدّة سرعته. ثم كان هبوطه الإضطراري السريع على أُمِّ رأسه, منغمساً كالوتد في الترعة النتنة, الفائرة والزاخرة بشتّى أنواع الجيف المتحلِّلة والطحالب الخضراء. وأكاد أجزم أنّه قد شرب من مائها القذر المقزِّز قدراً لا بأس به، جزاءاً وفاقا, يخفِّف من حدَّة حقدي, ويهدِّيء من ثائرتي عليه. لذا لم يمض وقت طويل حتى كانت أمُّه على بابنا, تصيح وتولول, وترعد وتزبد, مطلقة من الشتائم والتهديدات ألواناً ليس لي بها سابق عهد, أثْرَت قاموسي منها, في صراخ جنوني كأنّما أصابها مسّ شيطاني طاش بعقلها. وأنا أثناء ذلك كله خانس في ركن قصيّ من البيت, بعيداً عن الأنظار. أترقّب وأهيئ نفسي لإستقبال العلقة الساخنة والعاصفة الهوجاء التي ستهبّ قريباً. وما هي إلّا لحظات قلائل حتى تحقّقت توقّعاتي كأسوأ ما توقّعت وأكثر. لذلك مثّلت الحضانة في نظر أمّي المنقذ والمخلّص, ريثما أتعقّل قليلاً وأخفّف من حدَّتي وغلوائي, لا سيّما ومعلمة الحضانة التي سأذهب إليها جديرة بتحقيق هذا الهدف النبيل, لأنّها كما وصفوها لي وحذّروني منها, شرسة للغاية وقاسية الى أبعد الحدود, لا يعرف قلبها لين ولا رحمة, وبالأخص سوطها الذي لا يسكت من الولولة والصياح طيلة اليوم, يسمعه حتى العابرون بالقرب من الحضانة. ولا أدري لماذا كل هذا الحقد الأسود علينا، نحن الصغار؟. ولأنّني قد سبق لي أن مررت كثيراً ولعبت كثيراً بالقرب منها, فإنّني لا أذكر على الإطلاق أنّه قد تناهى الى مسامعي هذا الصوت الرهيب المرعب. لذلك رغم هذه الأوصاف المخيفة والمفزعة للحضانة ولمعلمتها، إلّا أنّها لم تجد طريقاً الي قلبي , لتثنيني أو تمنعني من إستقبال هذا الخبر بفرح وسرور. كيف لا وقد وجدت شيئاً أفاخر به أخي وأسكته. أمّا ما يخصّ المعلمة وسوطها الجبّار المرعب فليكن شعاري : مَنْ أراد الشهد لابدّ له من الصبر على لسع النحل. وأغرب هواياتي على الإطلاق حينها, هواية كانت قد تربّعت على عرش قلبي, وملكت علىَّ نفسي, واستحوذت على كامل تفكيري, لأنّها ربطتني بحبٍّ جارف عنيف نحو جدار بيتنا. نعم جدار بيتنا، وليست جارة بيتنا، كيلا تذهب الظنون بعيداً. فأصل الحكاية ومبتدؤها وخبرها أنّ أسرتنا كانت تسكن في بيت مبني على طراز قديم, وأغلب الظن أنّ الإنجليز هم مَنْ بنوه على أيّام الإستعمار، لأنّه يشبه طريقتهمم في البناء حينها. وكان من أبهر وأروع مكتشفاتي في هذا البيت أنّني إكتشفت عندما علوت جداره لأوّل مرّة, أنّه عريض جدّاً بحيث أستطيع أن أركض وأجري عليه دع عنك مجرّد المشي بحريّة تامّة وراحة وطمأنينة دون أن أخشى السقوط. وبمرور الوقت وبكثرة تكرار التجربة صار تسلّقه والجري عليه هوايتي التي لا تضاهيها هواية, ولعبتي المفضّلة الأثيرة لديّ, رغم خطورتها البالغة التي لا تخفى على أحد، حيث كنت أجد في ممارستها متعة لا تعدلها عندي أيّ متعة أخرى، طبعاً بإستثناء الشيكولاته اللذيذة التي كنت ضعيفاً جدّاً إزاءها, وليس لي ثمة قوّة على مغالبة اغرائها وسحر مذاقها. ورغم الإرتفاع الشاهق للجدار كنت أقضي سحابة النهار كلّه جرياً عليه بين كرّ وفرّ وذهاب إياب. وبالتأكيد يتم هذا في غفلة من أمّي وحين إنصرافها عنّي لبعض شئونها الأخرى. لكن الذي كان يحيّرني أثناء لعبي هذا الخطر ويعكّر مزاجي فيه, أنّ الكبار من الجيران رجالاً ونساءاً لا فرق, كانوا يعبرون الشارع من تحتي, ويشاهدون بأمّ أعينهم ما أفعل, دون أن يفتح الله عليهم ولو بكلمة واحدة, وكأنّه أمر إعتيادي هذا الذي أقوم به. كان الذي يغيظني جدّاً ويحنقني من موقفهم هذا الذي حيّرني في ذلك الوقت, أنّهم رغم هذه البطولات الرائعة والشجاعة الفائقة التي كنت أبديها, لم يُظهروا أيّ نوع من الدهشة, ولم يبرق في نظراتهم أيّ إعجاب, فقط برود شديد ولامبالاة مستفزّة. ما الذي يا تُرى دهى هؤلاء؟، ألهذا الحد شغلت الحياة وهمومها الناس لدرجة ألّا يُعيروا أيّ إلتفات للبطولة والشجاعة؟. لكن هذا الموقف السلبي منهم رغم كونه قد حزّ في نفسي وآلمني جداً إلّا أنّه لم يعقني أبداً ويثبّط من همّتي, بل على العكس تماماً أشعرتني هذه الهواية بالتميّز والتفوّق على أقراني وأندادي, إذ لم أجد بينهم من ينافسني ويجرؤ أن يخاطر بنفسه فيلعب معي. كم كان هذا الشعور رائعاً وممتعاً, وبالأخص حين أرى علائم الفزع والرعب مرتسمة على وجوههم لمّا أضعهم على محكّ التحدّي. فكان طبيعياً أن أخلص من ذلك بإستنتاج باهر ومذهل وهو أنّني بلا منازع الرجل الوحيد بين كل أشباه النساء هؤلاء. ومن جرّاء ذلك لبستني حالة من الزهوّ والإعجاب والإعتداد بالنفس والثقة المبالغ فيها. حتى كان اليوم الذي وجدت فيه نفسي أجوس متنقّلاً خلال الحضانة وبين جدرانها العالية. والحق أنّ منظرها من الداخل قد استهواني وأعجبني للغاية, وعلى الرغم من سماعي عنها كثيراً فإنّني ما تصوّرت أبداً أنّها ستجمع كل هذا العدد الهائل من الأولاد والبنات المزدانين بهذا المزيج الرائع المدهش من هذه الألوان الزاهية المشرقة الخلّابة, وما دار بخلدي يوماً أنّها ستشتمل على كل تلك الألعاب المتنوّعة التي انتظمت نواحيها وانبثّت في أرجائها على نحو مرتّب جميل. لقد كان المشهد بديعاً بهيّاً ساحراً, والجوّ صباحي منعش, باعث على النشاط ومثير للحركة والإضطراب واللعب. لكنّ الحق يقال أنّه لم تستهويني ولا واحدة من ألعاب الحضانة تلك. فماذا يعني أن تصعد ذلك السلّم ثم تنزلق عبر ذلك اللّوح الحديدي الأملس المائل وحتى تبلغ سطح الأرض؟, وماذا يعني أن تجلس على ذلك الكرسي المتدلّي والمعلّق بحبلين وتظل تتأرجح الى أمام والى وراء في حركة رتيبة مملّة ليس لها نهاية؟, هل في ذلك أيّ نوع من المغامرة أو المتعة؟ لا أعتقد, ففي نظري أنّ هذه مجرّد سخافات ليست إلّا. وأثناء استغراقي في تأمّلاتي تلك العميقة, كانت عيناي تفرّان الى هناك, حيث جدار الحضانة يقف في شموخ وكبرياء, فتحطّان عليه وتحدّقان فيه مليّاً. لكن كيف لي أن أذهب وأتسلّق وألعب وأمارس هوايتي دون أن يلتفت إليّ أحد؟، لا يمكن أن يحدث ذلك, لأنّ من أخصّ خصائص هوايتي هذه أنّها لا يكون لها طعم ولا لون ولا رائحة إذا لم تمتزج المغامرة فيها مع دهشة النظّارة وانبهارهم, وخالطت المخاطرة خوفهم وإشفاقهم. لذا سرعان ما دخلت في تحدّي ساخن مع صبيّ متأنّق ظريف، يبدو من سمته ومظهره أنّه من أسرة ميسورة الحال, كنت قد تعرّفت عليه للتوّ, وأطلعته على مقدراتي ومواهبي الخارقة. لكنّه لم يصدّق وجعل يرمقني بعين حادّة, ثم لم يكتف بذلك إنّما انطلق يتحدّث عنّي الى الآخرين بسخرية لاذعة مؤلمة, ويشيع فيهم ما جعل أعينهم تنهال عليّ تقريعاً ولسعاً وتجريحاً, فيبتسمون في وجهي ابتسامات خبيثة تنطق دون ألفاظ بالسخريّة والإستهزاء. فما كان مني إزاء هذا الحال إلّا أن اندفعت فتسلّقت الحائط كأسرع ما يكون, ثم وقفت عليه منتصب القامة كالجندي الباسل أمام قائده وأنا أنظر إليهم, وما هي إلّا لحظات حتي تجمهر واحتشد أولاد الحضانة وبناتها عن آخرهم لم يغب منهم أحد, مجذوبين نحو هذا المشهد العجيب كيلا يفوتهم. أمّا أنا فقد أخذت كامل أهبتي واستعدادي للجري, كي أكسر حدّة هذه الأعين الهازئة, وأفرض سطوتي على كل أولئك المتربّصين المتشكّكين, وأجبرهم على الإذعان والإعتراف بحقيقة تفوّق مواهبي. ولكن كانت المفاجأة الكبرى التي لم أحسب لها حساباً ولم أضع لها إعتبار، بل فاقت كافّة توقّعاتي وحتى أكثرها سوءاً وتشاؤماً, عندما ركّزت قليلاً وحدّقت جاحظاً في عرض الحائط إذ رأيته نحيلاً كالخيط الرفيع المشدود. ما هذا؟، ماذا دهى هذا الحائط حتى صار هكذا؟، ما الذي أصابه؟. أسئلة كثيرة ازدحمت سريعاً في رأسي لأنّ عهدي وحدود علمي بالحيطان ألّا تكون على هذا القدر من النحافة والضئالة. لكن المقام هنا ليس مقام استكشاف حقائق علميّة جديدة واستقصاء معلومات كانت غائبة, إنّما هو مقام تحدّي وصمود وموت أو حياة. وكان درساً بليغاً قاسياً تعلّمته تحت القصف والضغط والنيران, لن أنساه ما حييت وما بقي في صدري نَفَس يتردّد, أن ليس كل الحيطان سواسية, فهي متنوّعة ومتباينة, منها ماهو الغليظ العريض المتخم كما سبق لي أن خبرت ولمست من حائط بيتنا الحنون, ومنها كذلك النحيف النحيل الهزيل كما أرى وأشاهد هذه الكارثة التي تتمدّد أمامي. لكن كيف لي أن أخرج من هذه الورطة وأنسلّ من هذا المأزق الكبير الذي انحشرت فيه بتهوّري وشدّة إندفاعي؟, وكبريائي الجريحة لا تسمح لي أبداً بالإنسحاب وأن أبدو خذلان منكسراً مهزوماً أمام جموع الناس هولاء, فيشيعوا عنّي بعد ذلك الجبن والخوف، ويكثر الشامتون الذين سيجدون مادّة دسمة
لموضوعهم يعكفون عليها الى ما شاء الله، وأنا الذي كافحت وناضلت لفترة من الزمن ليست بالقصيرة كي أرسّخ في الأذهان بطولاتي وإقدامي وجرأتي وشجاعتي. هل يعقل بعد كل ذلك أن آتي الآن وفي لحظة ضعف أنسف كل ما تعبت في بنائه وتشييده؟، وإن فعلت فأين أذهب من هذه العيون المتربّصة الحاقدة، والمترقّبة لسانحة تسنح وفرصة تلمع في الأفق كي تنقضّ عليّ وتنتف ريشي؟. إذن للأسف الشديد ليس من سبيل الى التقهقر أو الإنسحاب, ولابدّ ممّا ليس منه بُدّ, وإن لم يكن من الموت مفرّ فمن العيب أن أموت جباناً. لذا توكّلت على الحيّ القيوم الذي لا ينام, ثم شرعت منطلقاً في الجري, والأنفاس محبوسة, والعيون من تحتي جاحظة. وماهو إلّا أن حدث ما كان متوقّعاً, إذ اختفى من تحت أقدامي الحائط الملعون, وعبثاً كانت محاولاتي في البحث عنه، حيث غاب تماماً والى الأبد وضعت أنا في اللاشئ. وإذا بي أجد نفسي مقذوفاً في الهواء الطلق, وبين أحضان النسيم العليل. ثم خيّمت عليّ العتمة المدلهّمة، وغبت تماماً عن الوعي، فلا أعرف ما الذي جرى بعد ذلك. لكن آخر ما أتذكّره من هذه النكبة الدامية الدامعة شهقة عالية ملأت وهزّت أرجاء المكان. هل انطلقت منّي أم من الجمهور الجاحظ تحتي؟، لست أدري. ثمّ تنقضي فترة غيبوبتي, وإذا بي أجد عند إفاقتي الحضانة عن بكرة أبيها ملتفّة حولي, وفي اللحظة التي فتحت فيها عينيّ محدّقاً في ذهول تعالت صيحاتهم وارتسمت الإبتسامات على وجوههم. ثم لم يمهلني أحد فرصة, فقبل أن أستجمع بقايا قواي المنهكة وأستعيد كامل وعيي لفهم ما حدث وجدت نفسي أعود مجدّداً الى الهواء, ولكن هذه المرّة محمولاً على أكتاف أهل المروءة والنجدة في موكب عظيم بهيج تتقدّمه المعلمة, حاثّاً خطاه الى أمّي .
المُعَز عوض احمدانه
الرياض / السعوديّة

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.