عندما قدم الاستعمار الإيطالي إلى ليبيا لأول مرة هب الكثير من الليبيين للجهاد والدفاع على الوطن وبذل الغالي والنفيس في سبيله، وفي ذات الوقت وعلى الجانب الآخر السلبي علينا أن نتحرى الصدق مع التاريخ إذ أن الكثير من الليبيين كانوا خير عون لهذا المستعمر، ولازلت في الذاكرة تلك الصور التي تظهر الليبيين في ميناء طرابلس وهم يقومون بمساعدة الغزاة في إنزال البضائع والمعدات، وبمقابل الأموال سرعان ما انخرط آلاف المواطنين في خدمة الجيش الإيطالي والقتال ببسالة إلى جانب الفاشيست، وبحنكة المستعمر ودهائه كان الليبيين يقاتلون بعضهم البعض في أحيان كثيرة وفي معارك عدة، ويقال بأن بعض سرايا الإيطاليين في معار الجهاد كانت بأكملها جنود ليبيون باستثناء الأمر الذي كان إيطالي الجنسية وربما احتوت السرية على بعض الأحباش الأفارقة. نحن في ليبيا عندما نتحدث عن التاريخ يروقنا أن نتفاخر بما فعله الأجداد ولا نكاد نجانب الحقيقة حيث أننا نعتبر أن ماضينا كله ناصع البياض، ونعتبر بأن الليبي على مر العصور كان مثالا للفخر والرجولة والشهامة، وننسى أو نتناسى تلك المظاهر المخزية التي كان عليها بعض أجدادنا من الذين باعوا دينهم ووطنهم فقط من أجل بعض الفتات الذي كان يرميه لهم أسيادهم، وللعلم نقول بأن بعض من مواطنينا كانوا مثالا للعار وعنوانا للرذيلة، وهؤلاء بدون شك كانوا أجدادنا أو بتعبير أدق هم بعض من أجدادنا، ولو سألت أي منا اليوم لأخبرك كل ليبي بأن جده كان مجاهدا بامتياز وأن قبيلته كانت مثالا تحتذي به باقي القبائل، ويظل يحيرك السؤال حين تحاول تصديقهم جميعا، وتسأل نفسك عن مكان وجود أحفاد أولئك الخونة السابقين الذين بفضلهم ظل المستعمر يحكم ليبيا لفترة من الزمن ليست بقصيرة. وليبيا الماضي هي ذاتها الحاضر، والليبيين الذين عاصروا القذافي هم ذاتهم أحفاد من عاصروا المختار، فمنهم الشرفاء الذين يرون أن مصلحة الوطن فوق الجميع، ومنهم أيضا الخونة أشباه الرجال بائعي الضمير الذين يبنون لهم المجد ويسعدون بشقاء الآخرين، وحينما ارتفعت صيحات الحرية والكرامة في الشرق الليبي واستجابت لها مثيلاتها في الغرب وقد دوى صداها في شتى الأرجاء بطولها وعرضها، لم يكن كل الليبيين طالبين للحرية، ولم يكن كلهم شرفاء وهذه حقيقة علينا أن لا نتهرب منها، فكثير منا حقراء بامتياز كما وصفهم القذافي في دولته التي أراد لها أن تحيى، وما يعزينا ويجعل نفوسنا تهدأ حين نجد أن أخيار ليبيا أكثر بكثير من أشرارها، ولو كان العكس لعمت بلادنا الفوضى إلى الأبد. ولعلنا لاحظنا عندما كانت تلوح بوادر الانتصار بدخول الثوار طرابلس وتحريرها من شر كان يفتك بها أن أفضل الأشياء حدثت عندما تم احترام الممتلكات الخاصة من محال تجارية وعقارات ومزارع ومصانع، وحين كنا نتابع الأخبار كان آلاف من الثوار الحقيقيين على مشارف بني وليد وسرت وسبها يرفعون راية الجهاد ضد الظلم والشر يحملون الشرف والكرامة في قلوبهم، وأرواحهم على أكفهم، وفي جانب الشر كان مئات من المارقين والخارجين عن القانون ممن يروقهم الفساد يقومون بالنهب والسرقة والعبث بمقدرات الدولة التي هي بالتالي ملك لمواطنيها، وهؤلاء بما فعلوه أعطوا مثالا سيئا للثورة التي طالما اتهمت بعدم شرعيتها إذ تم نعتها في أحيان كثيرة بأنها ثورة لاستبدال الطغاة بطغاة غيرهم وقد انتصرت تحت أجنحة طائرات الغرب الذي طالما راقته روائح البترول. إنه قدرنا كليبيين أن نظل نعاني مرارا وعلى أمد الدهر، إنه قدرنا أن نكون من أغنى الدول ومن أفقر الشعوب دائما وأبدا، إنه الجهل والجشع ولا شيء آخر يعبر عما يحدث اليوم في خفايا الدولة الجديدة التي حلمنا بها كثيرا وانتظرناها كثيرا ودفعنا لأجلها الأرواح وقدمنا لأجلها آلاف من الشهداء ومثيلا لهم من الجرحى والمفقودين، ومئات من الحكايات الكئيبة والحزينة، وعشرات من الأسر التي ستظل تعاني إلى الأبد بسبب حرمان من الغوالي والأحبة، وبسبب فقدان للشرف والكرامة. وبالمقابل نعيش اليوم واقعا أليما فالدولة لا تكاد تنهض إلا لتقع، وأصدقاء الشر يعيثون فيها الفساد يتقاسمون ذات الجينات مع الطاغية الذي رحل ليترك لنا تركة ثقيلة من التخلف والرذيلة، فهنا جبروت التعصب والقبيلة لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، وهناك مسئول مرتشي قد ظهر في ثوب جديد، وأولئك يتقلدونها ذات المناصب من كانوا أزلام العقيد، وفي عمان وغيرها من العواصم عشرات من الآلاف قد تسللوا في جناح الليل، يفاخرون كونهم من الجرحى ومن ذوي الشهداء، لكن أغلبهم أصدقاء للكذب وزملاء للفساد والفاسدين، وقد خانوا الأمانة في دم الشهيد، فتلك الأم التي كانت تزغرد وهي تودع كبدها، كانت تقابلها زوجة لمسئول بغيض تحجز موعدها الدني مع الطبيب لإجراء جراحات للتجميل وشفط الدهون الزائدة، تعنون الفاتورة المكلفة باسم ملف الجرحى الليبيين. كم هو صغير الوطن في نظرهم، كم الندم يعترينا في هذه اللحظات، كم كانت رخيصة دمائنا، يا للعار يا ثوار، ويا للفضيحة يا ليبيا، ويا لهذه الكلمات التي كتبت ولا تجد صدى لها عند أحد؛ لأننا أمة إقراء، ونحن أبدا لا نقرأ، وأنا من التشاؤم بحيث أني أرى أن من يحاول إنقاذ ليبيا كمن يحاول كتابة اسمه بقطعة من الثلج على جدار الشمس، ويظل بعض من الأمل إذ أنه من ليبيا دائما يأتي الجديد.