لا يختلف اثنان على أن الحكومة اخطأت خطئا جسيماً ، عندما وقّعت على اتفاقية نفياشا قبل أن تحسم الكثير من الأمور الأساسية ، البالغة الأهمية ، والتي من أهمها مسالة الحدود ، وابيي ، واستخدام أنابيب النفط ، فوقتها كانت الحكومة في مركز القوة وكانت كل كروت الضغط في يدها . ولان لكل خطأ نتيجة حتمية ، يتحملها المخطئ ، شاء أم أبى ، فعلى الحكومة الآن أن تكون أكثر مرونة ، في التعاطي مع كل ما يتعلق بالمسائل العالقة ، مع الإخوة في الجنوب. إن تعنت الطرف الشمالي في المطالبة بمبلغ كبير لقاء انتقال البترول الجنوبي في الأنابيب الشمالية ، هو أمر غير محسوب بدقة ، وما التصعيد العسكري في جنوب النيل الأزرق ، إلا نتيجة لذلك التعنت الذي سيؤدي - إن استمر - إلى المزيد من التناحر، وربما يعود بالطرفين إلى السبب الذي من اجله قامت اتفاقية نيفاشا ، الجيدة في إطارها العام ، والسيئة في بعض تفاصيلها ، وعناوينها الداخلية ، وبذلك نكون قد خسرنا كل شيء ، من دون مقابل ، لأننا سنكون وقتها وكأننا ( لا رحنا ولا جينا ) . إن حكومة الشمال التي قدمت أكثر مما كان مطلوباً ، وأكثر كثيراً مما كان متوقعاً منها أن تقدمه ، حتى تُوقِف الحرب ، مُطالبة الآن بتقديم المزيد من التنازلات ، مثلما هي مطالبة بالعودة للحلول السياسية ، بدلاً عن المجاهرة ، ورفع الصوت ، بنية الذهاب إلى نهاية الشوط إن أصرّ الإخوة في الجنوب ، على الاعتداء على الأراضي السودانية في جنوب النيل الأزرق ، وغيرها ، لان شعار كل يائس هو علي ، وعلى أعدائي ، ولان ذلك أمر يفرضه الواقع ، وتفرضه كل المعطيات الموجودة ، ولو كانت الحكومة الشمالية تنظر إلى الأمور من ناحية استراتيجة ، لكانت مارست أقصى ما يمكنها من مرونة ، ولما غادر مُمثليها مائدة التفاوض ، من دون اتفاق مُرضي للإخوة الجنوبيين بخصوص نقل نفطهم عبر أنابيب الدولة السودانية في الشمال ، حتى تُبقي باب المصالح المشتركة مفتوحاً ، بل ولقدمت الكثير من الدعم في كل المجالات الأخرى ، لتستقر الدولة الجنوبية ، وتنطلق ، فذلك وحده ما سيضمن جواً سياسياً ، هادئاً ، ويثبت حسن نية ، تؤدي في النهاية إلى حل المسائل الأخرى المتبقية ، والتي هي أهم كثيراً من مسالة نقل النفط ، كما أنها جميعا من النوع الذي يؤدي إلى اشتعال الصراعات إن لم يحسن المعنيين بها التخطيط لحلها ، وان لم يستغلوا الفرص المتاحة للتمهيد لذلك . إن للجنوبيين - أخلاقياً - كل الحق في انتقال نفطهم عبر الأنابيب السودانية بأقل التكاليف ، بل وربما يكون لهم الحق – أخلاقياً – أيضا في انتقاله بدون مقابل ، لأنهم - تاريخياً – جُزءً لا تجزأ منا ، ولأنهم عاشوا في هذا البلد ، ولو أرجعت الحكومة بصرها مرة واحدة ، وليس مرتين ، ونظرت للأمر من هذه الزاوية ، لرأت ذلك بوضوح ، ولقبلت به ، ولما تميزت من الغيظ وهي تشتكي لمجلس الأمن، الذي لا يرجى من الاشتكاء إليه أي منفعة ، ولسمحت للإخوة في الجنوب بانتقال النفط عبر أنابيبها من دون مقابل - على الأقل لفترة من الزمن - حتى تغلق الأبواب في وجه المخططات القادمة من خلف البحار ، وحتى يتجاوز الجنوبيين ، ويتخطوا ، المشاكل المتراكمة ، التي تواجه استقرار دولتهم ، والتي تدفعهم بالتالي للاستعانة بأي طرف يمكن الاستعانة به ، وغني عن القول أن الاستقرار الأمني ، والسياسي ، للدولتين مرتبط ببعضه البعض .
إن اليد البيضاءتوتي أكلها ولو بعد حين ، والذي يزرع الجميل لا بد أن يحصده ، فكما قال الشاعر لا يضيع جميل أينما زرعا ، وكلنا يعرف أن مشروعاً بسيطاً ، قد يؤسس لعلاقات متينة ، وقوية ، وراسخة بين الدول ، وما قاعة الصداقة ، وأخواتها إلا مثال على ذلك ، وكلنا يدرك ايضاً أن مساعدة بسيطة ، قليلة ، قد يكون لها من الأثر في نفوس الشعوب ، ما لا يمكن تقديره بثمن ، وما قمح ( ريجان ) منا ببعيد ، ولا شك أن الشعب الجنوبي – بغض النظر عن مواقف حكومته - هو أحق الشعوب بأيادينا البيضاء ، التي نمدها الآن إلى مصر شمالاً ، والى تشاد غرباً ، والى أثيوبيا جنوباً والى غيرها من الدول . إن التعامل بردود الأفعال ، والمُراهنة على أزمات دولة الجنوب ، يقوي عناصرا في تلك الحكومة ، تعترف حكومة السودان الشمالي أنها تريد تعقيد الأمور، وسيدفع دون شك بالبقية المعتدلة ، إن جازت التسمية للسير في ذات الاتجاه ، حتى ولو كانت مكرهة على ذلك ، أي أن الحكومة في الشمال بإصرارها على مواقفها المتشددة ، تخدم الأطراف ذات النوايا السيئة في حكومة الجنوب ، وتخذل أصحاب النوايا الحسنة ، ولاشك أن النتيجة الحتمية لإغلاق بوابة المصالح ، ستكون هي تعنت الطرف الجنوبي في المستقبل في حل المسائل الأخرى التي لم تحل ، وانتهاز كل الفرص التي ستتاح بل والمتاحة أصلاً ، لزعزعة الأمور في الشمال ، الذي يواجه أيضاً الكثير من المشاكل التي تجعله في غنى عن الدخول في أي صراعات جديدة ، فمن نافلة القول أن أي صراع ينشا في المستقبل – لا سمح الله - لن يكون شبيهاً بالصراعات السابقة ، فحكومة السودان الشمالي تعرف جيدا ، أن هناك أطرافاً إقليمية ، ودولية تريد حدوث ذلك ، وان تلك الأطراف ستدعم حكومة الجنوب بكل ما تملك من اجل إسقاط النظام في الشمال، لتنفيذ العديد من الأجندات القديمة ، والجديدة ، ولنيل الكثير من المكاسب . اخيراً ، ليس مهماً أن لا تكون الرابح اليوم ، ولكن المهم جدا أن لا تكون الخاسر في الغد.