شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالفيديو.. بشريات عودة الحياة لطبيعتها في أم درمان.. افتتاح مسجد جديد بأحد أحياء أم در العريقة والمئات من المواطنين يصلون فيه صلاة الجمعة    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضَرُورَةُ الخِتَانِ و مِحْنَةُ الخِفَاضِ بقلم د.عبدالسلام موسى

((لم يُبْصِرِ الهُدهدُ في بلادنا منطوياً في ريشه السجين
الحبُ حرمانٌ ولذَّةُ الضَعْفِ هي اليقين))
محمد المهدي المجذوب
هذه الورقة هي مُحْصَلة بحث كان قد دار موضوعه حول ممارسة عادة خفاض الفِتْيَات والتي مازالت مستشرية بشكل رائج واسع بين كثير من مجتمعات دول شمال أفِريقيا ووسطها بما فيها بعضُ الدول العربية والإسلامية، أقدمه طرحاً علمياً ينطوي على مادة موضوعية مستوفية لشروط البحث، بنيت عناصرها على حقائق ومصادر دينية وتاريخية بيِّنة شديدة الوثوق، أرْتكزت نتائج وقائِعها على مجموعة بيانات وإفرازات تولدت عن تجارب وممارسات عملية مثبتة، كما تَميَّزت أغراضها برؤية عصرية واعية، نأمل أن يكون لها دورٌ مؤثرٌ في المساهمة الفعلية للقضاء على مأساةٍ حقيقية راهنة وواقعة، ذات أبعاد إجتماعية ونفسية وإنسانية، ظل يُعَانِي منها وتحت وطأتها على مدى حقب وأجيالٍ متعاقبة الكثيرُ من الأطفال الأبرياء والنسوة المغلوب على أمرهن في المجتمعات المحافظة في عديد من دول ومجتمعات شمال ووسط أفريقيا من شرقها الأدنى حتى غربها الأقصى.
وقد دفع التَعنُّت المتعصب في إستمرارية ممارسة هذه العادة المستقبحة رغم تبعاتها الوخيمة حتى اصبحت في ذاتها محنة إنسانية معاصرة، إلي إثارة كثير من الجدل حولها والهب حواراً جاداً بين أوساط المتعلمين والمثقفين في تلك المجتمعات المعنية، خاصة في الآونة الأخيرة بل الوقت الراهن، كما لفت إهتمام الرأى العام الأقليمي والعالمي وأيقظ فضول المهتمين والباحثين في محافل المجتمع الدولي بكل فصائله وإنتماءاته المتعددة، الشىء الذي ساق إلي تَنْشِئة وتحريك تيارات حيوية ناشطة في كل الأوساط والمجتمعات الواعية على الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية، والتي تنادي مجتمعة ومتضامنة بفورية منعها، كما تطالب بإتخاذ إجراءاتٍ قانونية رادعة ضد مواصلة مزاولتها.
ومن واقع إنتمائي العضوي والروحي لتلكم المجتمعات المعنية والمتحفظة، وبطبيعة ممارستي وخبرتي في المجال الطبي على مدى سنين عددا، أيقنت أن هناك واجباً إنسانياً وإلتزاماً مهنيأ يُلقيان على عاتِقَيَّ فرضاً لازماً ويدفعاني بجرأةً كاسرةَ لهدم حاجز الصمت المذل والإنعتاق من القيود الجائرة المُضرة، والإنطلاق الهادف المتحرر، متجاوزاً الأعراف السقيمة المتوارثة والتقاليد الهمجية البالية التي سلبتنا هوية النفس بفطرتها الكريمة وأطفأت نور العقل وحجة المنطق، مساهمة منا بالرأى الصواب والمنطق اليقين والبَيِّنَة القاطعة للوصول معاً إلى إتخاذ قرارات فورية نافذة، وإجراءت (ملزمة) صارمة ضد هذه الممارسات غير الإنسانية والبربرية حتى يتم وقف نزيف الدم والمذابح العرفية في حق النسوة والأطفال.
فما كان إذن أمراً عارضاً الذى حملني على البحث ثم الكتابة حول مسألة ممارسة خفاض النساء وأضرارها في مجتمعنا ومآسيها التي ظلت تلازم حياتنا منذَ أمدٍ بعيد وتلقي بظلالها القاتمة على كل مظاهره، خاصةً ما يتعلق منها بالجوانب الإنسانية والنفسية والإجتماعية من آثار، بل دفعت بي رغبةٌ ملحةٌ ظلت على مدار السنين جاثمةً على النفس بِحَمْلِها الثقيل، تقلق الفكر وتؤنب الضمير. فمن منا لم يسمع مرةً أو يقرأ عن عادة خفاض النساء أو لم يعترضه الحديث يوما عنها ويأسره الجدل والحوار مع الأهل والأصحاب حول تبعاتها المدمرة. ومن منا آلى على نفسه الخروج عن صمته الطويل والسعي مع من سعى للتصدي ضد ممارسة هذه العادة الذميمة وإجتثاث شأفتها، ومن منا دفعته الشَجَاعة الإجتماعية ان يَصْرَخ عاليا ضد مزاولتها دون ان يخشى فى ذلك لومة لائم، ولا احسب نفسى خارجاً عن هذه الزمرة بل أُدْرِجُها مع العاجزين الذين وصفهم أبو الطيب بقوله:
فلم أر في عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين على التمام(1)
ولا أظنني انسى هذا الموقف أبداً، والذي كِدْتُ أن أدَّعِي بسببه اليوم غير الذى ذكرته عن نفسي ضمن من عناهم أبوالطيب. كنت حديث التخرج من كلية الطب فى اوائل الثمانين وقد عدت توا إلي السودان بعد دراستي في مصر، مفعماً بروح الشباب، يدفعني الحماس ويَحْذُونِي الأمل للعمل في هذا المجال الإنساني الجليل لبذل كل طاقتي وجُهدي لشفاء المرضى ورفع المعاناة والألم عنهم وتطيِّب خواطرهم. عُدت يومها إلى دارنا صباحا بعد مناوبتي الليلية في مستشفى الخرطوم المركزي حيث باشرت عملي هناك، وقد عمّ الحى هرج ومرج، وعلته جَلبةٌ وضوضاء، وحين سؤالي عن دواعي ذلك أُخْبِرتُ أنها بمناسبة خفاض وأُشِيرَ إلى منزل ابنة عمي والتي كانت تجمعني بها ولمَّا تزل صداقة وطيدة وود حميم، وكانت تهيئ وتَعُدُّ لحفل خفاض إِبنتها الوحيدة، هالني ما سمعت فدفعت نفسي دفعاً نحو منزلها مهرولا لا ألوي على شئ، فلما رأتني مسرعاً نحوها، إستمهلت عواجل خطاها عبر عرصة الدار، ثُمَّ تبادلنا حديثاً مُفَصَّلاُ وحواراً مكثفاً قصدتُ به إثناءَها عن ما هي عازمةً عليه وترجيتُها أن تروىِّ العقل وتُحَكِّمْ المنطق وأن تتوخى الحكمة والأناةَ، محذراً ومنذراً إيَّاها وخيم عواقب ذلك الخفاض. وحين إطمأنت لحديثي وأذعنت لرأيي عرضت علىَّ أن أستشير زوجَها وربَ أسرتها، صاحبَ الرأي والشأن في مثل هذه القضايا العصيَّة، فقبلتُ وقصدتهُ بقلبٍ مطمئنٍ فَرِحٍ وظننتُ أنِّي محرزٌ إِرَبِي لا مَحَالةَ، فقد كان (سعادته) من صفوة المتعلمين بين جيله وأترابه وأحد القضاة الذين تربعوا على مراقي العدالة والقضاء. وعندما أُحيط علماً بمغزى زيارتي وألمَّ بغايتي وكان ساعتها يتأهب لإستقبال ضيوفه و(مُهَنِّئِيه)، فأبتدرته مُتَلَطِّفاً، إلاَّ أنه حَمْلَقَ وشذر، ثُمَّ زمجر وزأر، وأبى مُسْتَعْصِياً وآثر مُسْتَكْبِراً تَمَسُكَه بالعادات والتقاليد والأعراف والقيم أو الموت دونها، ساعتئذٍ أحسست بنفسي أتقهقر منهزما وكأني أجابه نمروداً صارماً عنيداً، وطاغوتاً يمضغ أدمغة البعض ويهرس جماجمهم بأنياب العادات وبراثن التقاليد الباليه، فعدت أدراجي أجرجر أذيال الخيبة والإحِباط، منقبض النفس منكسر الخاطر. وهكذا تم القَضاءُ بِحُكم القُضاة. ولا أزالُ كلما التقيت هذه البُنَيَّة التعيسة عند عودتي إلي البلدِ بعد نُجْعِي الطويل يملأُنِي إحساسٌ بالسُخط والقنوط وهي تحدثني كُلَّ مرة وتبوح لي عن معاناتها الصحيَّة والنفسيَّة وعذابها الذي لاينقطع.
أما الباعِث الثاني: الذي دفعني للجلوس إلى مكتبي الآن لِفَضِّ أوراقَ هذه القضية المأسوية من جديد وطرحها بشكل حيوي جاد أمران:
أولهما: دفعت به المصادفة وأنا اشاهد بِرْنَامِجاً كانت تَبُثُّهُ قناةُ النيل الأزرق الفضائية(2) السودانية والتي اميل إلى متابعتها في إغترابي الطويل كلما سانحتني الظروفُ وتمهلني بعضٌ من وقت، وقد إستضافت القناة فيه أحد أقطاب الزعامات الحزبية الدينية السودانية، وهو مفكرٌ عصري الرؤى لبق الحديث، حيثُ عرض إلى بعض القضايا العصرية الهامة متناولا منها مشكلة الخفاض والحجاب، وعلى الرُغْمِ من أنني لست من محبي السياسة أو ممَّن يلين ويُذْعِنُ لرأى دعاتها إلاّ أني أُعجبت بالقدرة الفذة لهذا الرجل في تصريفه الحوار وتمكنه مع إلمام بمادة الحديث المُثَار، وقد إستهواني منطقه النافذ الشجاع فى معالجة رأيه وجوابه الحصيف على أسئلة وإستفسار الكثيرين من مُتَابَعي سير البرنامج عبر الشبكات الهوائية من مختلف أنحاء العالم. فنحن بحق في أشدِّ الإحتياج لأمثال هذه المواقف الجرئية الصريحة، خاصةً في ما يتعلق منها بقضايا الممارسات الخاطئة وتبعاتها المدمرة، كعادةِ الخفاضِ وشَرْطِ الشلوخ وسَفِّ الشفاه ورسمِ الوشم، تلك التي ظلت متسرطنة ضاربةً بأطنابها البالية في كيان تركيباتنا الحيوية والإجتماعية على آماد الدهور، كاحتياجنا ايضاً لنفوذ مثل هذه القيادات السياسية الواعية والزعامات الروحية النيِّرة، في تبصير العامة وتوجيه الخاصة، بجانب من حزم سياسيٍ هادف وردع قانونيٍ نافذ مع التوعية الصحية والإجتماعية والدينية الشاملة خاصة في أطراف الريف وأقاصي البدو، حتى نأمن إجتثاث مثل هذه العِلَلْ المزمنة والمعضلات المتغلغلة في تكويننا الإجتماعي والنفسي وإستئصال إصولها الفاسدة. ولو كان دعاة الشرع والدين وأصحاب الزعامات والشأن في مجتمعاتنا المدثرة الخجول بمثل هذا الوضوح والموضوعية والصراحة في معالجة القضايا الأساسية التى تَهُمُّنا في حياتنا وتُعْمِلُ فيها، لكنت من طليعة المهللين لِرَفَعَةِ راياتها بالمؤآزرة والسند.
وثانيهما: أنني قد شاهدت قبل فترةٍ وجيزةٍ مع إبنتي وأهل بيتي فلماً سينمائيا باسم (زهرة الصحراء Desert flower)، كَتَبَتْ قصتهُ (Waris Dirie)(3) والذي يجري عرضهُ حالياً في العديد من دور العرض الأوربية، يحكي هذا الفيلم مأساة كَاتِبَة قِصَّتِه، وهي فتاةٌ صوماليهٌ حسناء وإحدى ضحايا عملية الخفاض الفرعوني والتي أُجْرِيتْ عليها تحت ظروف من القَسوة والبربرية تنفطر لها أفئدة الرجال وترتجف لها أوصال الشجعان، ولم تَكُ آنذاك سِوى طفلةً قد جاوزت الثالثة من ربيعها، فآثرتْ بعد ان إشتد عُوُدُها وصحَّ عزمُها الهَرَبَ عبر صحراء قاحلة جرداء لتلتجئ إلى جدتها في عاصمة البلاد مقديشو حيث تمكنت من هناك مواصلة الهُرُوب بِما تبقى لها من جِلْدٍ وجَلَدِ الى إنجلترا. وقد كانت هذه الفتاة الأفريقية السمراء ذات جمال أخَّاذ وسحرٍ آسر لفتت به انظارَ العامة والمعجبين، ولم يدم ذلك طويلا حتى ذاع صيتُها واصبحت حديث الصحافة المتخصصة وأهتمام دُور عرض الأزياء العالمية الشهيرة، فَهُرِعَتْ إليها لتضعَ العالم تحت قدميها. غير أن هذا النجاحُ الباهر والصيت الذائع والكسب الوفير لم يعوضُوا هذه الحسناء ما فقدته من سعادة في طفولتها وحياتها بفعل ماسأة وحشية نهشت لحمها وسلبتها أعز ما تملكه إمرأةٌ من جسدها مُخَلِّفةً بين أحشائها دماراً ومحنة ومعاناة وأسى. إلاَّ أن حبها لبنات جنسها وشعورها بمعاناتهن الصامتة تحت وطأة قدرهن المحتوم قد دفعها ان تَبْذُلَ كلَّ جَهْدِها لافتةً أنظار العالم المتحضر إلى محنة أقدارهن ومعاناتهن المأسوية مستعينة بذكائها الفطري وشهرتها العالمية، فجاهدت طريقها لتقف أمام الجمعية العمومية للامم المتحدة مخاطبةً المجتمع الدُولي بكل شجاعة وأعتزاز مستنفرة فيه ضرورةَ التآزر والعمل الجاهد الجاد يداً بيد لإستئصال جذور هذه البشاعة الدموية والبربرية في حق النسوة والطفولة، مما كان له وقعه وصداه عالمياً بحيث ترتب عليه إجماع أعضاء الجمعية العمومية الممثلين لبلادهم بالموافقة الفورية المطلقة والإدانة القوية غير المتحفظة لممارسة عملية خفاض الفتيات وعَدِّها نوعا من أبشع أنواع التعذيب الجسدي والوحشي في حق البشر، كما حَفَّز منظمة العفو الدولية أن تَعُدُها إنتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان. وإني لأدعو متضرعا بكل توسلات الرحمة والإنسانية وُلاةَ الأمرِ منا والمتربعين منهم على مواقع المسئولية أن يعملوا على تيسير فرصةَ مشاهدة هذا الفلم الوثائقي الهادف وتوفير إمكانية الإطلاع على هذا الكتاب الذى دار حوله موضوع هذا الفلم للمشاهد والقارئ والمواطن السودانى الممحون دون أيِّ تحفظ رقابي. وهنا وجب علينا أن نشيد ونذكر مترحمين الشهيد الأستاذ المفكِّر والعالم الجليل المرحوم محمود محمد طه(4) أول من جهر من المثقفين بصوته وأعتلى منابر التظاهر، فأُودع السجن بأسباب متعلقةٍ بخفاض البنات وقوانينه الجزائية الجائرة إبَّان عهد الإستعمار، وأمَّا ما كان من سعي آل بدرى(5) فى هذه المسألة فمعروف وبَيَّنْ.
وقد ورد فى تعريف الختان أنه من الختن وهو ما قررهُ الإمام الشافعي(6) وأورده لسان العرب بأنه موضع القطع من الذكر وموضع القطع من نواة الجارية، أي حديثةُ السن، والخفض هو المطمئن من الأرض غير المرتفع، وخَفَضَ الشئ: أي قلل من إرتفاعه وسَوِّاه مع غيره وبذلك يكون الختن لغةً هو الخفض ولكن جرى العرف على استعمال لفظ الختان للذكور والخفاض للإناث. وقال الشافعي: ( الأعْرَفُ أن الختان للذكور والخفض للإناث)، هذا في الأعراف والعادات، ويتجه الفهمُ السليم ومنطق المعنى أن خفاض البنات عرفٌ لا شرعٌ في كلام الشافعي، وللشافعي مذهبان قديمٌ وجديدٌ، والجديدُ تنقيحٌ للقديم بعد أن أسس مقاييسه وأدلة إستنباطه، وكان لهذا أثرٌ كبيرٌ في تقليب الرأى وإثرائه بين المذهبين الحنفي والشافعي.
وقد إختلف المؤرخون والباحثون حول أصل ونشأة عادة الإختتان، أي إزالة جلدة الغَلْفَة أو الغُرْلَة عن عضو الذكورة لعدم توفر أسانيدَ موثوقٍ بها يُرْكَنُ إليها للتدليل على ذلك غير القليلٍ الذى رُوِى فى الأخبار وجاءت به القصص في كتب العهد القديم والإنجيل، وهي ضعيفة السند مع إضطراب وتضارب في رواياتِها بحيث لا يعوَّل عليها. ولكن تُجْمِعُ معظم الآراء بأن الختان قد عُرِفَ وتمت ممارسته في العهود السحيقة، وقد جاء في إنجيل برنابا (7) قال يسوع: (أنه لما أكل آدم الإنسان الأول الطعام الذي نهاه الله عنه في الفردوس مخدوعاً من الشيطان عصى جَسَدَهُ الرُّوحَ فأقسم قائلاً: تالله لأ قْطَعَنَّك، فكسر شظيةً من صخر وأمسك جسده ليقطعه بحد الشظية فوبخه الملاك جبريل على ذلك فأجاب: لقد أقسمت بالله أن أقطعه فلا أكون حانثاً، حينئذ أراه الملاك زائدة جسده فقطعها. وحافظ آدم على فعل ذلك في أولاده فتسلسلت سنةُ الختان من جيل إلى جيل.) ويذهب البعض أنها فرعونية الأصل عرفها المصريون القدماء قبل اليهود وتدل على ذلك الرسومات القديمة والآثار والنقوش التى يعود بعضها إلى عهد امتحتب في القرن الخامس عشر ق.م.(8) إذ كانوا يعُدُّونها ضرورةً صحية لتطهير الأعضاء التناسلية وتَلْزَمُ من يتولى منصب الكهانة ودخول المعبد المقدس. ويميلُ الترجيحُ بأن اليهود قد أخذتها عن الفراعنة ثم أخذها العرب عن اليهود في جاهليتهم الأولى. ومن المعروف أيضاً أن اليهود لا يُزَوِّجُون بناتهم لغير مختون، كما كانت العرب في وثنيتها تختتن في الجاهلية وتسمى من لم يُخْتَتَنْ بالأغلف والأغرل ويُعَيِّبُونُه بذلك ويَعُدُّونَهُ ناقصاً. وفي ذلك قال أمرؤ القيس وقد دخل مع قيصر الروم الحمام فرآه أغلفاً على ما يزعمه أهل الأخبار:
إني حلفتُ يمينا غير كاذبةٍ لأنت أقلفُ إلاَّ ما جنى القمر(9)
وقد عرف الفراعنة ختان الذكور وخفاض النساء معا وربما مارسته اليهود أيضاً بجانب خِتان الذكور، وتُشيرُ المصادرُ العربيةُ والأدبيةُ والتاريخيةُ أن بعض قبائل العرب في جاهليتهم الأولى كانوا يخفضون بناتَهم يتفاخرون بذلك ولكن ليس كشعيرةٍ دينية بل من باب الغَيْرَةِ على النساء، فهذا شاعرهم الفرزدق وقد كان إسلامياً عُرِفَ عنه الهَجَاء اللاذع والتباهي بالمجد العربي الأثيل يهجو قبيلة الأزد العربية التي إستوطنت عُمان وكانت متاخمة للعجم، يُعَيِّبُ نساءَها كَونَهُنَّ غُلفَاً ويفخر عليهم بذلك فخراً جاهلياً:
ولًمّا رأيْتُ الأزْدَ تَهْفُو لحاهُمُ حَوَالَيْ مَزَوْنِيٍّ لَئِيمِ المُرَكَّبِ(10)
فكَيْفَ وَلمْ يَأْتُوا بمَكّةَ مَنْسِكاً، وَلَمْ يَعبُدوا الأوْثَانَ عِنْدَ المُحَصَّبِ
ومَا وُجِعَتْ أزْدِيَّةٌ مِنْ خِتَانَةٍ، ولَا شَرِبَتْ في جِلدِ حَوْبٍ مُعَلَّبِ
وَلا أوْقَدَتْ ناراً لِيَعْشُوَ مُدْلِجٌ إليهَا، ولَمْ يُسْمَعْ لهَا صَوْتُ أكْلُبِ
قال السُدىِّ وإبن يَسَّارُ وغيرهما من أهل الأخبار:(11) (لما سبق إسماعيلُ أخذه إبراهيم وأجلسه في حجره، وأجلس إسحاق إلى جنبه وسارة تنظر إليه، فغضبت وقالت: عمدت إلى إبن الأمة فأجلسته في حجرك، وعمدت إلى إبني فأجلسته إلى جنبك وقد حلفت أن لا تضرني ولا تسؤني، وأخذها ما يأخذ النساء من الغَيرة، فحلفت لتقطعنَّ بضعة منها ولتغيرنَّ خلقها، ثم ثاب إليها عقلها فبقيت متحيرة في ذلك، فقال لها إبراهيم عليه السلام: أخفضيها وأثقبى أُذنيها، ففعلت ذلك فصارت سُنَّةٌ في النساء.)
وأورد الثَعْلَبِي في كتابه قصص الأنبياء(12) قال مجاهد: (لقد بلغني أن فرعون موسى كان يأمرُ بالقَصَبِ فَيُشَقُّ ثم يُجْعَلُ أمثال الشِّفَارِ ثُم يُصَفُّ بعضه إلى بعضٍ، ثم يُؤتَى بالحُبَالى من بني إسرائيل فَيُوَقَفْنَ عليه فَتَجْرَحُ أقدامَهُنَّ حتى أن المرأة منهُنَّ لتَضَعُ ولدها فيقعُ بين رجليها، فتظلُّ تَطؤهُ وتتقى به حدَّ القصبِ عن رجليها لِمَا بَلَغ من جُهْدِهَا، وكان يقتلُ الغلمان الذين فى وقته ويقتُلُ من يولدُ بعدهم، ويُعَذَّبُ الحُبَالى حتى يضعنُ ما في بطونهُنَّ ليتم له بهذه الحيلة تقليل إحتمال ميلاد الذكور والنجاة من شرهم.) هذا ما يُفهم من التوراة وجاء في القرآن الكريم في إسلوبٍ أدقَّ وافٍ لمعناه . (وإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِه أذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُون نِسَاءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.) سورة إبراهيم 6.
وربما كان هذا مصدر تسميتَها بالطُهَارة الفرعونية إستناداً إلى ما تقدم. ومن هنا يتبين لنا أن ممارسة خفاض النساء كان يهدِفُ إلى عقوبة إنتقامية رادعة قُصِدَ بها الجزاء والإذلال والإضطهاد وهو ما لم يُقرَّه أويبرره أي شرع سماوي ولم تحض عليه ضرورة إجتماعية ويتبادرُ إلى الذهن أنه من فعل ذلك الفِرعون وهو ما جاء في الآية (وَيَسْتَحْيُون نِسَاءَكُمْ)، ومعنى الإستحياء واسع. وقد تأيَّد عندي هذا الإتجاه في حديثٍ لِي مع الصديق الدكتور علاء الدين سيد أحمد أغا عن أصل التسمية الفرعونية للخفاض أفادني قائلاً: أنَّ المقريزي صاحب الخطط المقريزية أورد عند حديثه عَن البِجَه: ( أمَّا النساءُ فمَقْطُوعٌ أشفار فروجِهُنَّ وأنه يلتحِمُ حتى يُشَقُّ عنه للمتزوج بمقدار ذكر الرجل ثُمَّ قَلَّ هذا الفعل.)، وأضاف قائلاً: وبالفهم المتأمِل لكلام المقريزى وقرائنه يُعْلَمُ أن الخفاض على هذا الوجه فرعوني، إذا لم تُغْفَلُ قِدمُ الصلات التجارية عبر الموانى والثغور وطريق الحاج والحروب القديمة التي كانت بين مصر والبجاة. وتروي أساطير وقصص البجاة أن ملكاً غزاهم وعاقبهم بذلك، وكون الملك مجهول الإسم فَمِن المرْجُوحِ أنه أحد ملوك مصر الفرعونية في حقبةٍ من الحِقَبِ وذلك لقيام الأدلة التاريخية والبينات، ويذهب جمعٌ كثيرٌ من علماء الأنثروبولوجي والسلالات أن البجاة مِنْ أصل مصري أو بين ذلك لقوَّة الشبه والتداخل بين الشعبين بالمعيار السُلالي.
وعلماً أن سيدنا المسيح أُخْتُتِنَ وعمره ثمانية أيام كما جرت عليه شريعة اليهود قبل تَبْشِيرِه بالدين المسيحي، إلاَّ أن المجتمعات النصرانية بطوائفها المختلفة لم تتأثر بالختان، كما لم تتخذ عملية خفاض البنات بديلاً لظاهرة حزام العِفَّه الذى شاع استخدامه في دول أوربا أثناء العصور الوسطى المظلمة، وهو ضربٌ آخر من ضروب الإيغال في الغَيْرَةِ على النساء وكبح شهواتهِنَّ وحَدِّهِنَّ وضبطهِنَّ، ولم يَكُ في بشاعته بأقل بداوة أو خطورة من ظاهرة خفاض النساء. ولم يتعرض القرآن لِشِرعَة خفاض النساء أو طهارتهن كما هو الشأنُ في دماء الحيض وغيرها من النجاسات التي هي ليست بطاهرةٍ ومبطلة للشعائر المفروضة ولكن وردت في احاديثَ مشكوكٍ فيها لما في سند رواتها من ضعف وتجريح كما هو مُسَلَّمٌ به في علم الرجال.
ختان الذكور:
أما عملية خِتان الذكور(Circumcision) فتختلف في دواعيها وأغراضها عن خفاض الأناث (Excision/Infibulation)، وما تزال ممارستها مُتَّبعة منذ الآف السنين بين الكثير من شعوب العالم والأُمم المتحضرة اليوم، فصارت بذلك حتى يومِنَا هذا عرفاً تقليدياً كما كانت عند عند قدماء المصريين واليهود، أوكما كان الحال عند الشعوب العربية والمجتمعات المسلمة، والعديد من الأجناس الأُخرى ودول شمال أمريكا والأقباط الشرقيين وبعض الجماعات المسيحية في دول أفريقيا. وهي عملية بسيطة في إجرائها وغير معقَّدة في ممارستها، إذ تتم فيها إلإزالة الجزئية أو الكلية للغلافِ الجلدي (Perpuce) الذي يغَلِّف الحشفة ويقوم بحمايتها أثناء فترة الطفولة المبكرة، ويباشر مزاولتها في العادة نفرٌ من الناس تعلموا ذلك ممَّن سبقهم بإجرائها وأتقنوه بالعادة والمراس. وختان الذكور مستحسن عند الناس ومقبول لدى الصغار كما لا يعرض حياتهم للخطر ولا تعقبه أية مضاعفات أو تبعات مضرة إذا رُوعيت قواعد الجراحة والنظافة في ذلك. وبجانب الدواعي العرفية والتقليدية التي تعلل ضرورتها بدعوى الطهارة والنظافة فهناك دوافع صحيَّة تجعل من إجرائها ضرورة جراحية لازمة إن لم تكن قصوى وذلك حينما تكون فتحةُ الغُرْلةِ ضيقةً خِلقيَّاً أو بسبب إلتهابات في هذا الموضع مما يودي إلى الآمِ غير محتملة عند محاولة إنزال البول أو في حالة إنتصاب العضو.
ويشير عددٌ من الدراسات العلمية الحديثة إلى أهمية الختان في تقليل خطر الإصابة بالعديد من الأمراض التي تنتقل بالإتصال الجنسي كالزهري والسيلان وكذلك مرض الايدز(AIDS) القاتل، وقد أقرت منظمة الصحة العالمية رسمياً على ضوءِ هذه الدراسات في مارس 2007 الختان وسيلة للوقاية من مرض الايدز. كما أثبتت دراسات أُخرى أن نسبة الإصابة بسرطان عضو الذكورة لدى المختونين من الرجال أقل نسبةً بالمقارنة مع أمثالهم من غير المختونين، كما استخلصت دراسات أخرى إلى نتائج تبين إنخفاض معدلات الإصابة بسرطان عنق الرحم عند نساء اليهود والعرب والأمريكان لزواجهم أو معاشرتهم لرجال مختونين.
ومهما تعددت وجهات النظر وأختلفت الآراء حول أصل الختان والخفاض ونشأتهما أو دوافعهما، فلا يزال خفاض الإناث ممارساً منذ أمد بعيد في الكثير من بلاد شمال ووسط وغرب إفريقيا خاصة مناطق الريف الجنوبي من أرض مصر المتاخمة لحدود السودان الشمالية كما في معظم بلاد السودان خاصة شماله ووسطه وغربه فيما عدا بعضٍ من مناطق جبال النوبة الوثنية وأكثر مديريات جنوبه حيث للختان مدلول آخر يُعَبِّروا به عادةً في نزع الأسنان الأمامية وليس متعلقاً بأعضاء الذكورة أو الأنوثة، وتشمل ممارسة الخفاض أيضاً عدداً كبيراً من الدول الإفريقية المتاخمة للسودان والمنتشرة حوله حتى أقاصي غرب أفريقيا كالصومال وأريتريا والحبشة وكينيا وتشاد والسنغال ومالي وموريتانيا وأرض النيجر وشمال نيجريا وتوجو وبوركينيا فاسو وغينيا وغانا وقامبيا وسيراليون، ولم تعرف هذه العادة في بلاد شمال إفريقيا المسلمة مثل ليبيا وتونس والجزائر والمغرب العربي وكذلك أكثرُ الدول العربية والأسلامية من دول آسيا، غير أن هنالك بعض التقارير تُظْهِرُ مزاولتها في العراق وسوريا والأردن وجنوب اليمن كما في بيرو بجنوب أمريكا واستراليا، ولعل هذا الأستقصاء الإحصائي فى بعض البلاد المذكورة أخيراً لا يسلم من غرض سياسي مُتَعَنِّتْ.
ولاَ يَطَّردُ الخفاض على طريقةٍ واحدةٍ متعارفٍ عليها لعملية قطع الأعضاء التناسليه للمرأة أو بترها بل تعددت الطُرق في ذلك وتنوعت المهارات قسوة وبشاعة، فالبعض يكتفي ببتر جزءٍ من البظر أو كُلِّه والبظرُ: عضوٌ يتطور عن نفس النسيج المكون لعضو الذكورة وتحكم تطوره تحورات عضوية أثناء مرحلة التطور الجنيني ونشأته لتميز ما بين العضوين عند الذكر والأنثى حسب الإرادة الألهية عند الخالق وقد يُشْكِل بين الإثنين في المولود الواحد (الخُنس المُشْكِل) ويتكون البظرُ من نسيج اسفنجي قابلاً للإمتلاء بالدم والإنتصاب ودوره الاساسي مضاعفة الشعور الجنسي والبلوغ به مرحلة الشبق عند النساء، وللبظر رأس وحشفة وجلد كما عند الذكر وهذا النوع من الخفاض هو المعروف زعماً بخفاض السُنَّه (Excision) تكريما له وترغيبا فيه ويكثر إنتشاره في المدن وبين الحضر، وتقوم بعض الخاتنات ببتر البظر وإستئصاله كليةً مع الإزالة التامة لما جاوره من الشُفْرَين الصغيرين، وهما أعضاء الحس الجنسي ومَكْمَنُ اللذَّة لدى المرأة، تلك الفطرة التي غرزها الله في المرأة لدوام النسل وحفظِه، أما ما تبقى من ذلك بعد إزالته فيتم شد حوافه إلى وِجْعَانِها وضمها غرزاً إلى بعضها البعض مستعينين في ذلك بالإبرة والخيط المستخدمين طبياً أو بعض الآلات البدائية كشوك النخل الجاف وبعض العيدان الخشبية المحددة التي يتم تشذيبها وإعدادها بطريقة خاصة لهذا الغرض مع إحكام تثبيتها حول ما تبقى من الأعضاء المبتورة وذلك ببعض الأربطة اللازمة للشد، الشئ الذى يؤدي عمداً إلى تضييق الفتحة الطبيعية للمهبل وإلى صعوبة الولوج إليه، وهذا النوع هو المعروف بالطهارة الفرعونية (Infibulation) وهي الأشدُّ بشاعة والأوسع إنتشار وشيوعاً في المناطق النائية والبعيدة عن المدن والحضر وعن أعين الرقباء.
وهناك جماعةٌ من المتشددين المناصرين لعملية خفاض الفتيات ومنهم من أسماها بالطُهارة، أي التَطهُّر من أدران النفس وعوالق الجسد، بل ذهب بعضهم في تشدده أبعد من ذلك إذ عمدوا نسبتها إلى الدين وإدعاء سُنَّة فرضيتها، وأوردوا في ذلك الأحاديث النبوية المشكوك في صحتها كالحديث الذي أخرجه أبو داود عن أم عطيَّة (نسيبة بنت الحارث الأنصارية)(13) رضى الله عنها أن امرأة كانت تُخْفِضْ بالمدينة، فقال لها النبي (ص) " لا تنهكي فأن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل " أو في رواية أخرى فى زعم روآة الحديث إذ يرشدها إن إضطُرّت أن تَنْهَك وإن لم تُضْطر أن تَشِمْ، وهذا الحديث لم يرد مطلقاً في كتب الحديث الصحيحة إلاَّ ما أورده أبو داود وقال فيه: (ليس هو بالقوي)، وكذلك الحديث: (الفِطْرةُ خمسٌ أو خَمْسٌ من الفِطْرَةِ، الختان، والإستحداد، ونتفُ ألإبط، وتقليم الأظافر، وقصُّ الشارب)(14) ومثله أيضاً الحديث: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)(15).
أمَّا الختانان فقد أسهب الإمام الشافعي بيانهما في لسان العرب، مادة خًتًنً، جاء فيه عَنْ الشافعي يُفَسِّرُ الحديث: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل): (ومعنى التقائهما غيوب الحشفة فى فرج المرأة حتى يصير ختانُهُ بحذاء ختَانَها، وذلك أن مدخل الذكر من المرأة سَافِلٌ عَن خِتانها لأن ختانها مُسْتَعْلٍ، وليس معناه أن يَمَسَ خِتانهُ خِتانَها).
وعَلَّقَ صاحبُ اللسانِ نقلاً عن أبى منصور الأزهري صاحبُ تهذيبُ اللغة ما نصه: ( هكذا حكاه الشافعي في كتابه) ويُفْهَمُ من هذا التعليق أن الأزهري وإبن منصور يُخْليان أنفسهما من تبعة هذا التفسير ولكنهما أورداه فى المسألة.
والأقرب عندنا في منطق الفهم هو ما قاله الفيومي في المِصباح المُنير، مادة (خَتَنَ) الحديث (إذا التقى الختانان): (هو كنايةٌ لطيفةٌ عَنْ تَغَيُّبِ الحَشَفةِ). وعلى هذا يكون كلام الشافعي فيه إسراف وتطويل للإستدلال، ينتصر لرأيه في هذه المسألة (وجوب ختان الذكور والإناث) من باب الجدل والمناظرة وهو بيان المعنى بالعبارة لحمل المخاطب على الإقرار بما تَعْرِفَهُ وإلجائهِ إليه.
وكلام الفيومي في مِصْباحه الذي تقدم وإسْتَصْحبنَاُه حديث إلتقاء الختانين : (هو كنايةٌ لطيفةٌ عَنْ تَغَيُّبِ الحشفة). وبهذا الفهم الحاذق اللمَّاح من الفيومي، يكون ورود الحديث في باب الحيض وباب الغسل وباب الطهارة عند كُلِّ من مسلم والبخاري وإبن ماجة على الترتيب صحيحاً، ولا وجه للحديث يُسْتَدَلُّ به في مسألة خِفاض الإناث البته، ليستقيم معناه تاماً في الطهارات المائية المترتبة عَنْ دم الحيض الشهري المعتاد والجماع المتمكن التام، أي (غياب الحشفة في الفرج)، وهوما كَنَّى به الصادق الأمين (ص) بأعف لفظٍ وأجملِ بيان.
ومما لا جدال فيه أن ما يحيط بهذه الأحاديث وموضوعها من شكٍ وحِذْرٍ لغياب الأدلة البينة القاطعة بصحتها في الكتب الصحاح، وعدم ثبوت ممارسة الخفاض في أكثر الدول العربية والإسلامية بما في ذلك المملكة العربية السعودية مهد النبوة ومهبط الوحى يجعل كل ما يَدُورُ أو يُدَارُ حول مسألة خفاض الإناث بكل أشكاله الممارسة، خاصة في بلاد السودان وأرض مصر: (وادى النيل) المسلم، محض تدليس وتلبيس وتلفيق بُغْيَةِ إقحام سُنَّيَتَها على الناس. وهذه إدعاءاتٌ ضعيفة وجائرةٌ لحشر السُنَّة الكريمة في أمرٍ غير كريم.
ومن الجدير بالذكر أن الشرع قد جعل من الرَتَقِ(16) ، وهو شدة إلتصاق الشُفْرَين وضيق مَدْخَلْ الفرج بينهما خِلقياً كان أو بفعل فاعل، سببا في رخصة الطلاق ما لم يتم علاجه، لما في ذلك من تعسر الوطء واستحالة المعاشرة الزوجية الطبيعية. وقد وصف الطبيب الزهراوي المتوفى عام 404 هجرية الرتَقَ في كتابه التصريف في الطب قال: ( يكون على ضربين إمَّا طبيعياً وإمَّا عَرَضِيّاً، فالطبيعي هو أن تُولَدُ المرأةُ ورحمها غير مثقوب والعرض يكون عَنْ جُرْحٍ قد تقَدَّمَ أو قُرْحُة ويكون ذلك إمَّا في عنق الرحمِ أو في أعلاه أو فيما بين ذلك من المواضع ويكون إمَّا بإلتصاقٍ أو بِسَد).
فكيف إذن يدَّعي البعض على الرسول الكريم مثل هذا الزعم بأحاديث مُلَفَّقةٍ عن رواةٍ مثل زائده بن أبى الرقاد، أحد المذكورين في كتب الضعفاء(17) وقد عُرف عنه رواية الإفرادات والمناكير. ومِثلُ هذا الظن لا يصلحُ إلاَّ ان يكون حيلةً وضيعةً لجأ إليها دعاة الخفاضِ لاقحامِ الأديانِ وإحراجِ الشَّرعِ وإستغلال الواعز الديني في نفوس البسطاء من الناس، بُغْيَةِ تجذير مزاعمهم الخاصة في تركيبَةِ المجتمعات المحافظةِ فطرةً، وإشباع رغباتهم المتطرفة ولأرضاءِ ضعاف النفوس بأسم الديانات والشرائع التي تدعيها. وهذا اسلوبٌ دأبوا عليه على مدى الأجيال وفي كل المجتمعات لنصرة مزاعمهم وفرض ارائهم العُنْجِهِيَّة المُتَسلَّطة وتزيينها بدعاوى الدين وأحكام الشرع بقصد لَفِّهَا بوشاح قدسي يحجبُ عنها كُلَّ حوارٍ وفهمٍ منطقي أوعقلاني، دون مراعاةٍ للحريات الشخصية ولا إحترام للشعور الإنساني على أقلِ قدر. وذاك اسلوب قد مارسته اليهود من قبلهم وسبقتهم إليه قبل الآف السنين حين اسبغوا على الطهارة كما كانوا يدّعونها صبغة دينية وجعلوها عهداً بينهم وبين الله كما جاء ذكره في سفر التكوين (18). ومن غرائب الامور أن يكونَ اللهُ ذو الرحمة والعدل قد أمَرَ بقطع وإزالة ما أحسن إبداعه وأتقن صنعه في جميلِ خلقه على يد عبادٍ آخرين ويجعل ذلك شريعةً وعهداً بينه وبينهم.
ومهما تواترت المزاعم حول عملية خفاض البنات وحُشِدَت المبررات لدواعيها وأغراضها فليس هناك اي شريعةٍ سماويةٍ أو ضرورةٍ إجتماعيةِ تُبررُ ممارسة هذه العادة المستقبحة والكريهة، بل أن هناك الكثير من الدلائل الثابتة والمعروفة بين الناس حول مضارها الصحية وتبعاتها الجسدية والإجتماعية المؤذية، مما يجعل مزاولتها في مجتمعاتنا العصرية المتحضرة اليوم جريمةً مُكْتَمِلة الأركان في حق النسوة والأطفال، لا يمكن السكوت عليها بأي حال من الأحوال، بل من الواجب علينا جميعاً وفي كل المواقع والمحافل أن نجتهد بكل السبل والوسائل لإبطال هذه العادة ووقف نزيف الدم بين الضحايا من القوارير. وفي كُتُبِ الفقه الإسلامي كلامٌ بالغ القيمة عن دِيَّة الإِسْكَتَّيْنِ (الشفرين) وعن غُرْم الضامن إذا أتْلَفَ الخَاتِنُ عضواً للمَخْتُون تُعَدُّ في ذاتها سبقاً لقرارات منظمة الصحة العالمية أو المجالس الطبية في البلاد العربية، وواضحٌ أن الفقه الإسلامي قد تعامل مع هذه المسألة كجريمة تامة الأركان وشرع لها عقوبتها إستصحاباً للقاعدة الشرعية: إيلامُ الحَىِّ لا يجوز إلاَّ لفائدة تعود عليه.
ومع التسليم بأن هناك قوانين مدنية ووضعية تحرِّم هذه الممارسة البربرية وتعاقب عليها إلا أن ذلك لم يتعد كونه شكلا صوريا لا وجود لتطبيقه مطلقاً ولم يُسمع قط أن أحداً تمت عقوبته لتلبسه بها. وتشير الدلائل والأحصائيات المحلية والدولية بأنها ما زالت تُمارس وبشكل واسع، ليس فقط في المناطق النائية والبعيدة عن رقابة القانون والحساب بل حتى في قلب المدن وصُرَّةِ الحضر.
ولا شك أن الدعوة الملحة لمنع عملية الخفاض بل تحريمها يقودنا بلا حرج إلى أن نُبَيِّن أضرارها ونُنذر بعواقبها، وهي كثيرة متعددة. لأنها تقود في جملتها إلى تحطيم النفس وتشويه الجسد وإضعاف المجتمع، فنساؤنا نصف مجتمعنا، إن سلمن سَلِمْ و(النِّسَاءُ شقائقُ الرجال) كقول رسول الله (ص). وهذه المضاعفات والأضرار يكون بعضها وقتيا أو ملازماً، وآخَرُها يكون ملازما أو لاحقا، سأوردها هنا تفصيلا كما يلى:
﴿1﴾ الوضع النفسي للبنات ودواعى خوفهن:
تسبق وتصاحب عملية الخفاض معاناة نفسية قاسية كما يلازمها خوف وتوتر شديدين، إذ تُجْرَي هذه العمليات في معظم حالاتها خاصة في المجتمعات الريفية النائية والفقيرة بشكل قهري مبيتٍ ومباغت دون إعداد نفسي أو جسدي، تكون تبعته آلامٌ جسدية مُبَرِّحة وإحباط نفسي مُدَمِّر لا يسع مداهما خيال إنسان عاقل.
﴿2﴾ آلام الجروح وما يعقبها من إلتهابات ونزيف:
تصاحب عملية الخفاض وتعقبها بعد ذلك الآم ممزقة والتهابات حادة، كما ينجم عنها نزيف من الدم دافق مباشر أو لاحق، والذى قد تشتد حدة خطورته مما يؤدي بحياة الصغيرات، وهناك حالات متكررة لأعراض ومضاعفات خطيرة تنتج عن إستعمال الآت غير معقمة أو عن تلوث الجروح نفسها ببعض الميكروبات كمرض التيتانوس الفتاك، إذ تتم هذه العمليات عادة على أيدى نسوة متطوعات او عوانس لم يعرفن الولاد من قبل أو يَحُزنَ على اقل قدر من مبادئ علم التشريح، ناهيك عن توفر أية دراية أو خبرة لهن في هذا الشأن، كما يتم فيها السماح باستعمال كل ما يُمَكِّنُ من القطع والبتر دون اعتبارٍ لحدة الآلة المستعملة أو إستيفائها لأبسط ضرورات النظافة والتعقيم الطبي، ولا تُلزم أية ضرورةً عند إجرائها باستعمال المسكنات الموضعية المتعارف عليها بإعتبارها ضربا من التبذير والترف أو لعدم توفرها وربما لجهل تام بها. ولعلنا نشيد بالإشارة والذكر هنا بفضل الإسلام ولطفه إذ أشترط في الذبيحة شحذ أداة الذبح مراعاةَ للرحمة والرأفة بالحيوان فما بالك بإلانسان.
﴿3﴾ إحتباس البول ومضاعفاته:
من أكثر مضاعفات الخفاض حدوثاً هو التعسر والحصر الملازم، وأكثر الأحيان اللاحق لإنزال البول وما ينتج عنه من الآم حادة بسبب الإلتهابات المصاحبة وشدة ضيق المخارج الطبيعية أو إنسدادها التام مما يؤدي لإحتقان البول وحصره بشكل حاد أو مزمن يقود في معظم حالاته لإلتهابات ومضاعفات أخرى لاحقه أو ربما إلى تلفٍ يعقبه فشل تام في وظائف الكُلَى ممَّا لا يحمد عقباه.
﴿4﴾ ألم المحيض:
إنَّ تعسر خروج دم الحيض بسبب ضيق أو إنسداد فتحة المهبل الناجم عن الخفاض يسبب آلاماً موجعة تؤدي إلى تخوف الفتيات من دنو المحيض وتوجسهن من ذلك وذاك هاجس نفسي آخر لا يخلو من عواقب وتبعات غير حميدة كالخوف المستمر أوالتوتر والإنقباض النفسي الضار.
﴿5﴾ آلام الجماع وتبعاتها النفسية والإجتماعية:
من أمرِّ مضاعفات الخفاض واعقدها تبعةً هو الم الجماع أو فشله التام، وذلك عندما يتعذرُ الإيلاج الطبيعي لعضو الذكورة المنتصب في مهبل الفتاة المُضيِّق عمداً وما يرافق ذلك من معاناة جسديةٍ ونفسية مدمرة يكون ضحيتها كلا الطرفين. وهذا وضع عسير يتطلّب قدراً وافيا من الحكمة والتريث، وقد يُلْجِيء الزوجُ إذا كان رابط الجأش إلى طلب العون من خافضة أو قابِلة كي تعينه على محنته هذه وإنقاذ عرسه وفحولته معاً من الفشل، ويتم ذلك غالبا بوسيلة جراحية لا تقل قسوة وبشاعة عن سابقتها. أما إذا غلب عليه التهور وركبه الحمق فقد يلجأ إلى إجراء المحاولة بنفسه متستراً لكي لا يفضح نفسه أمام أقرانه وأسرته ويحفظ ماء وجهه أمام الجمع الغفير من أهل العروس، ومن قضى ليلة الفرح حول الدار في إنتظارٍ وقلق متوترٍ لرؤية دم العذرية والعفاف الطاهر على المناديل البيضاء، وبذلك يتم الإطمئنان على عفة العروس وحسن الإختيار لإبنتهم المصون. فيلجأ الزوج في حيرته ويأسه مستعيناً بما تقع عليه يده من آلة أو أداة، وربما جنح إلى إستعمال عضو الذكورة الأكثر متانة حَسْبَ ضَيِّقِ تفكيره و قصور مُخَيَّلته. وعلينا أن نتصور هنا مسرح هذه الدراما الدموية وما قد ينتج عنها من عواقب. أما إذا باءت كل هذه الخَيارات بالفشل وكُلِلَت بعدم التوفيق فلن يبق إلاَّ أحد أمرين كلاهما مُرٌ، إنفصال أحد الزوجين منكسر الخاطر أو اللجوء للطلاق بالتي هي (أخشن)، وهي مأساةُ تكون الفتاة فيها هي الخاسرة الوحيدة ولربما إلى أمد طويل.
﴿6﴾ تأخر الطلق وتعسُّر الولاده:
إن أقصى مضاعفات الخفاض الصحية والجسدية وأعلاها خطورةً تكونُ في لحظات الطلق وتصاحب عملية الولادة، وذلك عند عدم إستجابة مخارج المهبل وعضلاته بالإرتخاء والتوسع الطبيعي اللازمين لتمكين نزول الجنين وذلك بسبب إلتئام جروح الخفاض بأنسجة ليفية عصيَّة التمدد، مما ينتج عنه حالة من الإنسداد الجزئي أو التام لمجرى قناة الولادة أمام تقلصات عضلات الرحم الموجعة والمتزايدة تتابعاً وشدة. وهذه الحالة تقود حتماً إلى تأخر الطلق وتزيد من آلامه كما يصاحبها إنهاك جسدي ومعنوي للأم مع تُعرِّضُ جنينها للخطر. وهي من حالت الطوارئ القصوى عند أطباء النساء والولادة التي تتطَلّب الإسراع بالتدخل الجراحي العاجل الخبير لضمان سلامة الأم وإنقاذ الجنين وتفادي تمزق أنسجة الحوض وربما بعض أعضائه أيضاَ بسبب ضعفها أمام تزايد إنقباضات عضلات الرحم القوية المتلاحقة. وهذه حالة مأسوية أخرى من الدمار الجسدي تقتضي عمليات جراحية عالية التخصص بل قد تكون مطولة ومعقدة لإعادة ترقيع ورتق الأنسجة التالفة وتأهيل أعضاء الحوض المصابة والتي قد تشمل مَخْرج وعضلات الشرج والمستقيم والمثانة البولية، فرادى كُنَّ أو مجتمعة. وهناك حالات قصوى من التعسر والإنسداد التام ينتج عنها إنفجار الرحم وتمزق عضلاته مما يؤدي إلى حالة من نزيف حاد داخل البطن تكون نتيجته موت الأم وإختناق جنينها وغرقه في دم أُمه. وليس هناك أمرُّ من أن يؤول الفرح بميلاد إنسان جديد إلى موت وفناء جماعي تزهق فيه الأرواح.
﴿7﴾ العَدُوُل:
وهذا وجه آخر للخفاض يكون عادة بين النسوة بعد عملية الولادة وإجتياز مضاعفاتها وبلوغهن فترة النقاهة لإعادة الإمور إلى سابقتها، وفي ذلك يتقبلن كما جرت عليه الأعراف في مجتمعنا السوداني عونا ماديا زهيداً تقوم بِدَسِّه الزائرات خِفْيَةٍ تحت وسائد مراقدهن وهو ما يسمى بِ (حَقَّ العَدُوُلْ)، تجمعه النُفْسَاءُ ثم تدفعة فيما بعد أجراً للخاتن أو القابله لِرَتْقِّ ما تمّ تًمَزُّقه أو تَمْزِيْقِهِ لتيسير عملية الولادة المتعسرة وإنقاذ الاُمَ وجنينها، ويتم بذلك إعادة تضييق مخارج المهبل ومداخله لحين حمل آخر كي لا يفقد السيد متعة الجماع وتجدد اللذة بهذه الحيلة الوضيعة.
وما زال الخفاض يتلثم دون حياءٍ بفرعونيته الرعناء ولعنتها علينا، ومهما حاول دعاته جهدهم الدؤوب في التمويه المستهتر عن خطورته ومضاعفاته وخيمةَ العواقب، وبالغوا في التلطف الساذج والمُداراة الواهية في مسمياتهم من خفاض أو مَكْرُمَةٍ أو سُنَّة، وأمعنوا في التعمية خلف دعاوي الديانات وفروض العقائد ومقتضيات الآداب كما زعموا دون علم وبصر، فسيظلُ الخفاض من ابشع وأقسى ما يمارسه البشر من جرائم حتى اليوم في حق صغار الأطفال وعذارى النساءِ في مجتمعاتنا العصرية المتحضرة، ولا أظُنُّ أحداً يدنيه التصورُ من الظروفِ النفسيةِ القاهرةِ التي تعتملُ في نفوسِ هؤلاءِ الأطفالِ قبل وبعدَ مزاولةِ هذهِ البشاعةِ البربرية على اجَسَادِهِنَّ المعافاةٍ بخلقها السليم. ومن منا معشر الرجال بات ليلة ختانه هانئ النفس حالما بإنتظار مقدم صباح صبوح يبشر بشُفْرَة الخاتن الباترة، مع مراعاة الفارق الكبير بين هاتين الحالتين: ضرورة الختانٌ ومحنةُ الخفاض. ومهما غُلِّفَت طقوس الخفاض بقداسة يحرق فيها البخور، وتواكبها بَهَرِجةَ واحتفاءاتٌ تُقْرَعُ فيها الطبول وتنحر لها الذبائح، فسيظل الخفاض بِكُلِّ أشكاله مأساة نفسية وجسدية واجتماعية، ليست قاصرة فقط على من كان ضحيتها، بل تتعدي ذلك كله متسللة إلى ادق واعمق كيانات مجتمعاتنا الإنسانية الراقية، مما يؤدي الى اهتزاز متواكب وتأرجح متلازم يهدد تماسكها وبنية نسجها المتناسق. وحتى لا يداوم المتعاركون جدالهم الملول حول عادتها أو شرعيتها ما بين سنَّةِ إبن أبى الرقاد أو مجازاة فرعون، وهم يتناطحون كوعول الجبال بآرائهم المتيبسة والخالية من كل منطق وفهم، يتلاسنون بالقول تارةً وتارةً أُخرى يتهاوشون، دون كلال أو ملال أو نفع، آثرت تناول هذه القضية من جهة المنطق والعلم بحيْدَةٍ تامةٍ، واستجليتها بقدرٍ وافر من التنوير والإيضاح حتى نتبين حقيقة أمرنا ويبقى الدين يومئذٍ لله، فغايةً ما نصبوا إليه ونطمح، أن نبلغ باليقين الباصر والتروى الرزين مجتمعاً سليماً معافىً، نأنس فيه بحياة إجتماعية وأسرية سعيدة متكافئة وعادلة.
والذي هو مسكُ الختام قول الشيخ الجليل محمود شلتوت، عضو جماعة كبار العلماء ومؤسس مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف: ( والذي أراه أن حكم الشرع في الختان لا يخضع لنص منقول وإنما يخضع في الذَكَرِ والأنثى لقاعدةٍ شرعيةٍ عامة وهي: أن إيلامُ الحَىِّ لا يجوز شرعاً إلاَّ لمصالح تعود عليه وتربو على الألم الذي يلحقه) وأردف قائلاً: (وقد خرجنا من إستعراض الروايات في مسألة الختان على أنه ليس فيها ما يًصْلُح أن يكون دليلاً على السُنَّةِ الفقهية فضلاً عن الوجود الفقهي وهى النتيجة التي وصل إليها بعض العلماء السابقين، وقال: ( ليس في الختان خبرٌ يُرْجَعُ إليه ولا سُنِّةٌ تُتَّبَعْ.) عن (عصام ناصف، الختانُ ضلالةٌ إسرائيلية).
ويتأيد كلام الشيخ شلتوت بقاعدةٍ شرعيةٍ أُخرى وهي: (أن الضرورات يُبِحْنَّ المحظُورات) وذلك بفرضية أن الختان محظورٌ تَرْكُهُ شرعاً على زعم القائلين بذلك، أمَّا وقد ظهرت أضراره في البنات عياناً فالإقلاعُ عنه يصبح ضرورةٌ لازمةٌ تُبيحُ تركه وهو محظورٌ شرعاً بتأويلهم.
أَمَّا وقد تقدم الكلام مفصَّلاً عن أضرار خفاض البنات، وبعد إطَّلاعنا وتحققنا متمحصين في كل ما وفّرته لنا المكتبة العربية والإسلامية من مصادر علم الحديث ومراجع إستخلاص الأحكام الشرعية (19) منه، لم نجد أي دليلاً ناهضاً يصلح في الأحكام الشرعية، لامن جهة الفهم ولا من حيث صحة الأحاديث النبوية المذكورة والجارية على الألسنة، لذلك نتوجه إلى السادة العلماء في مراكز البحوث والجامعات والدوائر الدينية أن يفيدونا علما بمالا علم لنا به عن هذه الأحاديث المتعلقة بالخفاض من جهة صحتها في سندها من عدمه، وعن صلاحيتها في ترتيب الأحكام الشرعية عليها.
خاتمةٌ
بعد الصلاة والسلام على نبينا محمدٍ الداعي إلى الهُدَى والرشاد، صلاةً وسلاماً دائمين.
أمَّا وقد هداني الله جَلَّ جلاله إلى النور والهدى، وأعانني بالفهم واليقين على إتمام هذا البحث وكتابة هذا المقال حوله، أودُ أن أتوجه بالشكر الجزيل للأخ الأثير والصديق الوفي والعالم الجليل الباحث والمحقق الدكتور علاء الدين سيد أحمد أغا، الذي رَبَّتَ على كتفي مشجعاً الكتابة حول مسألة الخفاض وأضراره، وأيَّدني بنفايس مكتبته العامرة مشيراً ومُنَبِّهاً إلى بطون أُمهات الكتب ومصادر علوم الحديث وفتاوى الشرائع ومراجع التاريخ وأعلام الرواة ودوائر المعارف ودُرَرِ المعاجم وكتب السير والتراجم، ووآلاني تبصيراً نابها وترشيداً حاذقاً، متابعاً ما يَطَلِعُ عليَّ من بحث وخبر ومحققاً لما أستنبطه من آراءٍ وعِبَرْ ومشاركاً فيما أًقَلِّبَهُ من مزاعمٍ وفِكَرْ ومعيناً لي على فهم ما أستعصى عليَّ فى إستيعاب شروح بعض الحكماء والفقهاء وتَفَهُّمِ آراء علماء الشرائع والسنن، حتى نَجَزَ هذا العمل بحثاً نضعه بين يدى القارئ الكريم عسى أن يكون عوناً نستجلي به ما ألتبس علينا فهمه وإستيعابه وتأويله من أمور ديننا وشرعنا، سائلين الله جَلَّ قدره أن يعيننا بالصبر والهدى على رفع الظُلْم والتعسُّف والعنت عن شقائقنا وأمهات أولادنا وبناتنا، فهُنَّ كما وصفهُنَّ رسولنا الصادق الأمين حُميرات هذه الأمة وشقائق الرجال، وما كُنَّ يوماً عورةً نتقيها بالستر والحجاب أو شراً نستعيذ به ونقهره ببتر الأعضاء وترويض الغرائز.
وفقنا الله وإياكم وأعاننا وأُمَّة المسلمين جمعا على حسن الفهم وجليل العمل وصالح القول.
د.عبدالسلام موسى محمد عبدالماجد
أخصائى الطب العمومى والعلاج بالإبر (Acupuncture)
أخصائى التشخيص بالموجات فوق الصوتية (Sonography, Ultrasound)
Hofheim, Germanyهوفهائم المانيا
[email protected]
قائمة المراجع والمصادر
1) العَرْف الطَيِّبْ في شرح ديوان أبَى الطَيَّب، ناصيف اليازجي، المطبعة الأدبية، بيروت، لبنان، 1887، ج2 ، ص 522.
2) لقاء في قناة النيل الأزرق التلفزيونية السودانية مع السيد الصادق المهدي.
3)Wüstenblume, Waris Dirie, (Frau des Jahres 1998, ZDF- Frauenmagazin "Mona Lisa") Deutsche Ausgabe by Schneekluth, ein Verlagsimprint der Weltbild Verlag GmbH Ausburg, 1998.
Desert Flower, Waris Dirie, William Morrow, Inc. New York (Original).
4) عن مسألة الأستاذ محمود محمد طه والخِفاض، راجع : الأستاذ محمود محمد طه، رائد التجديد الديني في السودان، جماعة، ط مركز الدراسات السُّودانية، 1992، ص 11، وأنظر رأياً مخالفاً، رواد الفكر السُّوداني، محجوب باشري، دار الفكر، الخرطوم، 1981، ص 369.
وفهم هذه المسألة بين باشري وبين الجماعة فيه نظر، عند الجماعة خطفٌ وعند باشري بسطٌ وتفصيل يوضح الأسباب ودواعيها من بعد تأمل.
5) بدري: جُملة سمينارات وكتب تُشَجِّبُ عملية الخفاض اصدرتها كلية الأحفاد الجامعية للبنات بإم درمان على مدى سنوات مختلفة.
6) لسان العرب، إبن منظور، مادة: (خَتن)، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ. لفظة: (الأعرف) في كلام الشافعي تُشعر بمعناها الإصطلاحي: (الأعراف والتقاليد) وفي سماح اللغة (الأعرف): الأشهر على ألسنة الناس.
7) إنجيل برنابا، تح سيف الله فاضل، دار القلم، بيروت عام 1973، ص 65، الفصل 32، الفقرة (أ)
8) معجم الحضارة المصرية القديمة، جورج بوزنر، ترجمة أمين سلامة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام 2001، مادة الختان ص 148.
9) ديوان إمرئ القيس، تح محمد أبوالفضل إبراهيم، دارالمعارف، مصر، 1958، والبيتُ معه آخر في زيادات الطوسي من المنحول الثاني: ويُقال للصبى إذا كان قصير الغُرلة: (قد ختنه القمر). ص 280عَنْ البطليوسي.
10) ديوان الفرزدق، تح الصاوى، مطبعة الصاوى، عام 1936، ص 12 رقم ق، ب.
11) قصص الأنبياء المُسمَّى عرائس المجالس، تأليف الثعلبي، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، بدون تاريخ، ص 81.
12) قصص الأنبياء، للثعلبي، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، بدون تاريخ، ص 167، وهذا الخبر رواه الثعلبي عن مُجاهِد.
13) وحديث أُم عطية في رواته مجهول قاله أبوداود في السُنن في باب الأدب، وابن أبى الرقاد (أبومعاذ) يروى المناكير والافرادات، راجع الكامل في ضعفاء الرجال، أبو أحمد عبدالله بن عَدي، ج 3 ص 1083، وفي الكُنى والأسماء لأبي بشر الدولابي، حيدر أباد الدَكَن، الهند، 1322 هجرية، ص 122، مادة: (أبومعاذ). وقال البخاري فيه: (منكر الحديث). وقال ابن حِبَّان: (روى المناكير عَنْ المشاهير، ولا يُحْتَجُ به ولا يُكتب الإَّ للإعتبار). مختصر سنن أبى داود للحافظ المنذري.
14) صحيح مسلم، شرح النووي ج 4، دار احياء التراث العربي، ص 146 إلى 147، بدون تاريخ. ومن رواة هذا الحديث الحجاج بن أرطاة وهو ليس بحجة، يروى الإفرادات قاله عنه أكثر رجال الجرح والتعديل وعلماء الحديث.
(15) (الختانان) : الحديث يُعْنَى بموجبات الغُسل رأساً وليس بالختان، وفي سنده ضعفٌ.
16) الرَتَقْ: عَدَّ الفقهاء مُجمعين أن الرَتَقَ، وهو عيبٌ خِلقِي، من مُوجبات الطلاق لإستحالة المعاشرة الزوجية (الطبيعية) فما بالك برَتَقٍ مستحدث بالخفاض. كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، الجزء الرابع، قسم الأحوال الشخصية، دار احياء التراث العربي، 1969. راجع أيضاً التصريف في الطب، أبو القاسم الزهراوي، الكويت، عام 2004، ص 903.
17) الكامل في ضعفاء الرجال، أبو أحمد عبدالله بن عَدي، ج3 ص 1083
18) سفر التكوين 17:10 12 ويوشع 7:22 وقد جعل هذا الطقس علامة عهد بين الله وإبراهيم الذي أُخْتُتِنَ وأهل بيته وعبيده الذكور) قاموس الكتاب المقدس صفحة 337 مادة ختان.
19) بلوغ المرام من إدلة الأحكام لإبن حجر العسقلاني، تحقيق رضوان محمود رضوان، دار الكتاب العربي، مصر، بدون تاريخ.
20) الصورة رقم (1) و(2) والخريطة: Female genital cutting - Wikipedia, the free encyclopedia - en.wikipedia.org . الصور من رقم (4) حتى رقم (7) بإذن من مجلة Medical Tribuneوهي ضمن مقال كتبه:
Prof. Dr. med. Alfons Huber, Innsbruck, Sexualmedizin 12, Page 336-340, August 1983.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.