الصدفة وحدها التى جمعتنى به أنها المرة فى حياتى ان ألتقيه وكم تمنيت لقائه. كان ذلك فى لندن العاصمة البريطانية يوم السبت حوالى الساعة العاشرة صباحاً فى الحادى والثلاثون من أكتوبر عام 1995 فى الهايد بارك. كنت أنا وصديقى وأخى احمد رحال الذى كنت فى ضيافته كنت قادماً من اليونان فى زيارة الى لندن. ولكن لن تكن المرة الاولى التى أزور فيها بريطانيا قبل ان أعود للمرة الثالثة وأستقر بها الى الان. فكان الهدف من حضورنا فى صباح ذلك اليوم الى الهايد بارك هو ان هناك مسيرة تظاهرية ضد النظام الحاكم فى الخرطوم الى الان. فكان مطلوب من جميع السودانيين الحضور الى الهايد بارك عبارة عن حديقة كبيرة أمتدادها حوالى سبعة كيلو مترات حتى قصر الملكة ألزابيث الثانية التى فى العرش الان. جهزوها للناس لكى ترتاح خاصة فى الصيف حيث الاشجار الظليلة والنجيلة الخضراء الجميلة. ولكن فيها ركن مهم جداً يسمى (كورنا أسباكا) يعنى الانسان حراً طليقاً يقول ما يشاء فى السياسة وفى كل شى أنشاء الله يتكلم عن الملكة وأفراد أسرتها. وكذلك ريئس الوزاء قل ما شاءت عنه كما تريد والبوليس موجود لحراسة الناس والمتحدثين وليس لمنع الناس عن الكلام بحرية مطلقة. كل الحريات موجودة فى بريطانيا كحرية التعبير وحرية الرأى وحرية النشر وحريات الاديان وحريات المعتقدات و حقوق الانسان الاساسية وحقوق المواطنة من أهم الحقوق فالقانون مسؤول من حمايتها.الفارق هو انه فى الهايد بارك الحريات مفتوحة بلا حدود. لذلك كان التجمع فى الهايد بارك لانها معروفة لكل أنسان. قبل ان تخرج المسيرة وتطوف بعض شوارع لندن ثم تنتهى بالمدرسة السودانية. فلما دخلنا الهايد بارك فكان فى أعتقادنا أنا وصديقى أننا نحن اول الواصلين. فاذا بالاستاذ المؤسيقار الكبير محمد عثمان وردى أول الواصلين وكان وحده واقفاً فذهبت اليه وسلمت عليه وقلت له نورت بريطانيا كلها أيها المناضل والثورى الجسور فابتسم وشكرنى على ذلك. ثم قلت له كيف حالك باللهجة الحلفاوية فقال لى أنت من جبال النوبة قلت له نعم أنا من جبال النوبة. فكان هذا ذو واقع حسن فى نفسه بل رحب بى بود معلن. بصراحة اللهجات مشتركة بين نوبة الشمال كالمحس والدناقلة والبرابرة والحلفاوين ونوبة الجبال.ولكن ليس كل قبائل جبال النوبة التسعة وتسعون قبيلة لهجاتهم مشتركة مع نوبة الشمال بل مجموعة قليلة لا أعراف أسماءها ولاعددها.ولكننى أتذكر جيداً عندما كنت فى السودان كثيراً ما جمعتنا الصدفة مع نوبة الشمال فى بصات الحلفاية أو الكلاكلة او الصحافة ظلط فكنا تنحدث مع بعض بطريقة عادية جدا لاننا نفهم بعض لا مشكلة فى ذلك . المهم أنا والاستاذ محمد وردى تحدثنا عن الوضع السياسى الاجتماعى والاقتصادى فى السودان وكذلك الحرب المشتعلة فى الجنوب وجبال النوبة . لان المسيرة هدفها شجب وادانة النظام الذى أشعل الحرب والدمار والخراب وقتله للأبرياء. كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان والتجمع الديقراطى الوطنى المنظمين لهذه المسيرة فى تلك الفترة من الزمن. ثم بدات تصل أعداد كبيرة من السودانيين رجال ونساء وأطفال بعد ذلك تحركت المسيرة من الهايد بارك مروراً بشارع( أدورج رود) واحد من ضمن الشوارع المشهورة فى لندن والمعروف بشارع العرب الخليجين واللبنانين والمصرين و أخرين هذا الشارع مقرون أيضا بأشهر شارع فى بريطانيا وهو (أكسفورت أستريد) شارع يضم أرقى متاجر الازياء و الموضات فى العالم و كذلك أرقى ما توصلت اليه التكنولوجيا فى العالم فى تلك المتاجر أيضا. ثم أنتهت المسيرة بالمدرسة السودانية. ولكن للأسف الشديد كنت مسافر فى نفس اليوم أعاداً الى اليونان بعد ان قضيت أسبوعين بلندن. لان موعد أقلع طائرتى الساعة السادسة والنصف مساء . كم تمنيت حضور فعليات تلك الامسية التى ضمت ليس فقط السودانين داخل العاصمة لندن أنما ضمت أيضا السودانين من كل المحافظات البريطانية الاخرى. كان يوم الاحتفال بذكرى أكتوبر المجيد. فكانت المسيرة تتويجاً لتلك الذكرى المجيدة. ولكن الاستاذ محمد عثمان وردى كان هو الذى توجها بل كان الشعلة التى أنارت الحفلة و أبقت السودانيين رجال ونساء وأطفال ساهرين على ضوءها. السودان فقد أكبر كنز من كنوزه الوطنية من الصعب أيجاد بديلاً له. فلن يبكيه وطنه السودان وحده بل بكته أيضا أفريقية والعالم أجمع. كان علم على راسه نار. هو الذى أشعل التاريخ ناراً وأشتعل. كان وطنياً و مناضلاً وثورياً فذاً منذ نعومة أظافره. ناضل ضد الاستعمار حتى رفع رأية الاستقلال. فلن يقف عند ذلك الحد بل أستمر فى نضاله ضد الاستبداد والطغيان وضد حكم العسكر فى القرن الماضى حتى كاد ان يفقد روحه . أنه رمز من رموز دعاة الحرية الكرامة. كرس جهده ووقته مدافعا عن القييم والمبادى بأغانيه وأناشده الوطنية الحماسية. محمد عثمان وردى حفيد أولئك العظماء فى كوش ومروى فى دمه شجاعة وأقدام الاجداد. فى أكتوبر لن ترهبه الرصاصة و فى مايو لن تثنى السجون عزيمته. قاتل بفنه فاذا بكل مدينة سودانية تلد عشرات الفنانين والشعراء مثل حفيد كوش ومروى جاهزين ان يكونوا قرابين على سلخانات الحرية. لا أستغراب ولا دهشة ان يتسابق الاحفاد فى جبال النوبة الى الحرية والكرامة. الاجداد كانوا السباقين فى ارساء دعائم الحرية والكرامة والديمقراطية والقانون فى الارض. قاتلوا بشجاعة وبسالة فائقة الروم و الترتر والفرس والمغول وغيرهم وفروا الغزاة صاغرين أذلا. ان الحفيد وقف منتصباً بكل كبرياء وشموخ و تغنى للحرية والكرامة. لم تكن مجرد صدفة أنما أمتداداً الى أجداده فى كوش ومروى. رحل محمد عثمان وردى الحفيد مرفوع الراس. لأنه أنتصر فى معركة التاريخ. صدقوا الاجداد عندما قالوا ان التاريخ هو دائما المنتصر. تركت أرث كبير وعظيم ايها الحفيد العظيم سيبقى ما تركته مابقيت الحياة عبر الدهور والاجيال. وان التاريخ سيحفظ لك أسماً وذكرى.