الخارجية ترحب بالبيان الصحفي لجامعة الدول العربية    ألمانيا تدعو لتحرك عاجل: السودان يعيش أسوأ أزمة إنسانية    ميليشيا الدعم السريع ترتكب جريمة جديدة    بعثة الرابطة تودع ابوحمد في طريقها الى السليم    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وردي: فنان الهضبة والساحل كلمات في التاريخ وللمستقبل


[email protected]
(1)
وردي: هو محمد عثمان حسن وردي، ولد في عام 1932 في بلدة (صواردة) بمنطقة السكوت والمحس في أقصى شمال السودان، والذين مع مجموعات الدناقلة والحلفاويين يشكّلون المجموعة النوبية التي إنتمت إليها الأسر السودانية الحاكمة إبان فترة الفراعنة وحكم الممالك النوبية من قبل خمسة آلاف سنة. أشهر ملوك النوبة هو تهراقا، والذي حكم مصر وحتى بلاد الشام شرقاً بالإضافة لمملكة النوبة التي شملت مملكة أكسوم في الهضبة الإثيوبية في الشمال الشرقي، وجنوباً حتى تخوم يوغندا وغرباً حتى دارفور (حيث أن كثيرين من أهل دارفور ينتمون بأصولهم إلى النوبة مثل الميدوب) بالإضافة لسكان جبال النوبة (النوبة). كان وردي كثيراً ما يمزح وسط أصحابه بإنتمائه لتهراقا .. ذلك الملك النوبي العظيم، وكثيراً ما لقبه أصحابه ب "الفرعون" والأمبراطور أحياناً.
توفيت والدة محمد وردي وهو مازال رضيعاً (وقيل دون الثالثة)، ومات والده وهو في سن العاشرة، فنشأ يتيماً ليتولى عمه تربيته. تلقى تعليمه بشمالي السودان في قرية صورادة والمناطق المجاورة، وعمل معلماً للغة العربية في المدارس الإبتدائية ثم إنتقل للعمل بمدينة شندي التي تبعد حوالي 150 كيلومتراً شمال الخرطوم ومنها توجه إلى العاصمة الخرطوم في عام 1957 ليبدأ مسيرته مع الفن، والتي دامت لأكثر من 50 عاماً من الإبداع المتفرّد. وقد تخطت سيرته وسمعته حدود السودان حتى أصبح محمد وردي فنان السودان الأول وهرماً فنياً شامخاً في إفريقيا المقربين منه يقولون أن وردي قد ورث جمال الصوت عن أمه.
(2)
تحكي الروايات أنه وعند قدومه لإذاعة أمدرمان في العام (1957) لتسجيل أُولى أغنياته باللغة النوبية، طلب منه مسؤولي الإذاعة السودانية حينها البقاء في العاصمة وأولوا رعايته لأحد عازفي الكمان المشهورين. وقد إلتقي في ذلك الوقت أيضاً بالفنان الراحل إبراهيم عوض والذي سأل وردي عن مهنته الأساسية، فرد عليه بأنه يعمل معلماً للغة العربية، فنصحه الفنان الراحل إبراهيم عوض بأن يعود لممارسة التدريس ويترك الفن(!)، وأغلب الظن كان ذلك من باب الإشفاق على وردي الشاب من المجازفة وترك وظيفة مضمونة العائد تؤهل صاحبها في ذلك الوقت للإنتماء للطبقة الوسطى والعيش السهل الرغد. لكن كانت نفس وردي أكبر: "إذ كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام"، فآثر أن يشق طريق المعاناة منتصراً لروحه المغمورة في بحر الفن.
(3)
الفنان العبقري محمد وردي هو فنان تجاوز إبداعه حدود السودان الجغرافية وإن إنحدر هو من أقصى الشمال السوداني (كما ذكرت). فقد إمتدت شهرته إلى كل أطراف أفريقيا حتى توّج فنان إفريقيا الأول. ووردي هو فنان الهضبة والساحل ومن أكثر الفانين شهرة في القرن الإفريقي (أثيوبيا، إرتريا الصومال)، الساحل (نيجيريا، الكاميرون، تشاد، مورتيانيا). الجدير بالذكر أن أغنية 19 سنة والتي تقول كلماتها:
"خلاص كبرت وليك 19 سنة...
عمر الزهور .. عمر الغرام .. عمر المُنى ..
أتمنى يوم تجمعنا جنات حبنا".
قد لُحنت بمدينة كرن الإرترية، وقدمت لأول مرة في مسرح سينماء أوديون وسط أسمرا في عام 1963 وكان وردي حينها في زيارة لإرتريا، وهناك روايات شفاهية تؤكد أنه قد أحيي حفلاً ساهراً أثناء تلك الزيارة بمدينة بارنتو في العام 1963 ومن ثم توجه إلى مدينة كرن التي غنى بها تلك الأغنية وكان السفر وقتها باللواري.. هناك رأي آخر يقول أن الأغنية (19 سنة) قدمت لأول مرة بأديس أبابا، وهذا غير صحيح.
وردي هو نبض الإحساس الفني في السودان النيلي الذي جسّد العلاقة بين الغابة والصحراء وبين السافنا والنهر، وبين تلال البحر الأحمر والبطانة مع الجزيرة الخضراء في وسط السودان. وبذات القدر لقد ربط وردي شرق أفريقيا وهضبتها بالساحل الغربي لأفريقيا، ولا غرابة إذ أن وردي هو سليل الحضارة النوبية التي سادت في شمال السودان وإمتدت لتغطي مصر شمالاً ومملكة أكسوم (الحبشة) قبل آلاف السنين (قبل الميلاد). فهل يا تري: يكون وردي هو الرابط الشفيف بين النوبة وأكسوم في عصرنا الحديث؟.
(4)
إن الجوار السوداني لعب دوراً كبيراً في تطورات قضيتي الهوية والوعي القومي السوداني، فتأرجحت هذه الإتجاهات في بداياتها بين الهوية العربية الإسلامية تأثراً بنداءات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والجامعة الإسلامية، وتأثيرات دولة الخلافة الإسلامية التي كان على رأسها الأتراك العثمانيون، والتي إنهارت بنهاية الحرب الكونية الأولى (1919). تبع ذلك بدايات الوعي واليقظة العربية، فإستجابت لها بعض حركات الوعي القومي السوداني التي نادت بعروبة السودان وبإسلاميته بقيادة عبدالرحمن الضرير (كتاب الأدب السوداني وما ينبغي أن يكون عليه) ثم بعد ذلك بدأ ظهور البعد الإفريقي خاصة في الأدب بقيادة حمزة الملك طمبل وروّاد مدرسة الفجر بقيادة محمد أحمد محجوب ومحمد المهدي المجذوب، إلى أن تبلور ذلك الوعي بالإفريقية في المكون الثقافي السوداني لاحقاً في مدرسة الغابة والصحراء وصولاً لمحطة السودانوية التي ترى كل المكونات العربية والأفريقية في الشخصية الثقافية السودانية دون غلبة لواحدة على الأخرى.
كان وعي وإدراك وردي الفني الذي تألق نجمه في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات قد تفتق في أحضان مدرسة الغابة والصحراء والوعي بإفريقية السودان وعلاوبته وخصوصيته (السودانوية) وقد إنعكس ذلك في أغاني وردي الراسخة والباقية في الوجدان السوداني:
"هام ذاك النهر يستلهم حسنه... فإذا ما عبر بلادي ما تمنى..
طرب النيل لديها وتثني .. أروي يا تاريخ عنا
نحن في الشدة بأس يتجلي .. وعلى الود نمد السهلا أهلا
ليس في شرعتنا عبد ومولي
... حين (.. ) في الأرض دروبه .. عزم تهراقا وإيمان العروبة... عرباً نحن حملناها ونوبة.
ولا عجب في ذلك إذ أن وردي نوبيٌ إنتماءاً وعربيٌ الثقافة (حتى النخاع)، حيث درَّسها في مدارس السودان وغني لفحول شعرائها في تأكيد بأن العربية ليست عرق بقدرما هي ثقافة كما يقول الحديث النبوي الشريف "كل من تحدث العربية فهو عربي".
(5)
من أشهر الأغاني الوطنية التي تغني بها الراحل محمد وردي، والتي ظلت عالقة في وجدان السودانيين على مدى الأجيال، أغنية "اليوم نرفع راية إستقلالنا"، وهو النشيد الذي ظل كل السودانيين يسمعونه صبيحة الأول من يناير من كل عام، وهو يوم الإحتفال بالإستقلال، على مدى أكثر من خمسة عقود، ، ويقول مطلع النشيد:
اليوم نرفع راية إستقلالنا.. ويسطّر التاريخ مولد شعبنا.
ياإخوتي غنوا لنا..
كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية
والنيل يطفح بالضحايا .. بالدماء القانية
ما لان فرسان لنا.. بل فرَّ جمع الطاغية
الفن هو الوجدان، والوجدان هو الإحساس الجمعي بالجمال والنبل والفضيلة .. بالحزن والمعاناة أحياناً. الفن هو عملية إجترار الماضي وجدانياً والإنفعال به، وفي ذات الوقت هو عملية إستشراف المستقبل والتطلع إليه والإنفعال معه. وبين الإنفعال بالماضي والتفاؤل بالمستقبل كان يتربع وردي في الوعي الوجداني وفي ذاكرة التاريخ وحاضر الحياة ومستقبل الأمة السودانية. ويبدو أن روح الفنان وردي الشفيفة قد تحسست هذه الخيوط الرفيعة وتبينتها من وقت باكر وعبّرت عنها شدواً قومياً يأخذ بلب القلوب. لقد كان محمد وردي مشروعاً قومياً متكاملاً لخلق الوحدة الوطنية في وطن كبير .. واعد.
كان وردي حاضراً معنا ونحن أطفالاً في مدرسة الدلنج الريفية عام 1967 ( في جنوب كردفان) وأذكر تماماً حينما كان يرقص جميع الأطفال وأغلبهم من النوبة الصغار (وجميعهم دون الخامسة عشر). كانوا يرقصون في أعياد إستقلال السودان على صوت الميكروفون وهو يردد رائعة وردي: اليوم نرفع راية إستقلالنا... وكان بعضنا يببكي بحرقة ونردد مع صوته: كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية .. وكل منا في تلك الأثناء يتذكر جده لأمه أو لأبيه ممن ماتوا في تلك المعركة بجوار النهر الذي أضحى قانياً في ذلك الصباح من 2/9/1899 كان الإحساس كما يقول لي الراحل عليوة (من أبناء البقارة) وكنا في الحادية عشرة من أعمارنا: "إن الله مد في العمر السودان ده لازم نبنيه.. السودان دا بلد زين... السودان ده بلد سمح بلحيل".. مات عليوة وعمره 35 عاماً، وهو ممسكاً بزناد رشاشه في حروب أهلية ما تخمد إلا لتشتعل في الوطن... مات وهو عاشقاً للسودان ولوردي. ومن أؤلئك الأطفال أيضاً كان عبدالعزيز آدم الحلو.
في راكوبة المهيدي الكبيرة في قريتنا بجنوب كردفان، إستمعنا إلي وردي ونحن أطفالاً قبل أكثر من أربعين عاماً وهو يردد: القمر بوبا عليك تقيل في المساء ونحن جلوس حول القدح الكبير (عصيدة الدخن بملاح الروب وزيت السمسم) .. وعندما يذهب أحدنا فجأة لإحضار المزيد من الملاح نجد النساء في البيت (بيت النسوان) وهن يرقصن على ضوء المسرجة على أنغام القمر بوبا بملابسهن المتسخة (من عمل البيت الشاق وإعداد الطعام)... لقد كان غناء وردي يمثل البرنامج (الإذاعي والتلفزيوني) الوحيد الذي يجمع وجدانيات وطن تقسم على أكثر من 600 قبيلة. كان على بعد كيلومتر واحد من قريتنا وعلى تل عالٍ قرية الدينكا الذين يعملون عمالاً زراعيين في مزارع أهل القرية وجلهم من شمال بحر الغزال. كان للدينكا في تلك القرية شيخ يسمى شيخ كوال وهو يمثل حلقة الوصل بين أهل الحاجز وأهل قريته وكذلك مع السلطات المحلية. كانت تربطنا علاقة صداقة مع شيخ كوال وأسرته.
كان شيخ كوال يحضر من منزله البعيد بمجرد سماع صوت وردي في المذياع في أمسيات الخريف، وكان عادة مايحضر في هدوء ويجلس بهدوء أيضاً (جاراً عكازتته) ولا ينبس ببنت شفة: وعند إنتهاء الأغنية دائماً يردد "ينصر دينك يا مهمد وردي... ياجماعة والله كان جيبتو لينا كباية شاي بكون كويس....". كان شيخ كوال كمن قد حدث له جفاف من شدة التوتر وشد الأعصاب وتداخل الأحاسيس من الإستماع لمحمد وردي. لقد عبر شيخ كوال النهر وإتجه جنوباًفي حين توجهت روح وردي صوب السماء لملاقاة ربه.. لقد إنفصلا: كلٍ ذهب إلى سبيله .. وأضحى السودان بلا كوال .. وبلا وردي.
(6)
لم يكن وردي فناناً عادياً بل كان مثقفاً منتمياً لقضايا وطنه ومهموماً بها وعلى الرغم من إنطلاقه من منصة إنتمائه لليسار السوداني (الحزب الشيوعي) نحو الإبداع المؤدلج، لكن ذلك لم يمنعه من التعبير في غنائه عن الإنتماء الأكبر للوطن، منفعلاً بكل قضاياه وهمومه. فغني لثورة أكتوبر الشعبية التي أطاحت بنظام الفريق إبراهيم عبود العسكري 1958 1964 ، وهي ما عرفت في الأدب السوداني بالأكتوبريات، وغني أيضاً لثورة الشعب السوداني في أبريل 1985 أروع الأناشيد والتي ظلت وستظل خالدة في ذاكرة التاريخ السوداني:
فعندما قامت ثورة أكتوبر غني:
أصبح الصبح لا السجن ولا السجان باق
وإذا الفجر جناحان يرفان عليك
وإذا الحزن الذي كحّل هاتيك المآقي
إلتقي جيل البطولات بجيل التضحيات
إلتقي كل شهيد قهر الظلم ومات
بشهيد لم يظل يبذر في الأرض بذور الذكريات
وأبداً ماهنت يا سوداننا يوماً عليناً.
......
وأيضاً غني أكتوبر الأخضر:
أسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب إيماناً وبشرى
وعلى الغابة والصحراء يلتف وشاحاً .. وبأيدينا توهجت ضياءاً وصباحاً
وتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا..
سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعاً وخضرا
ونرود المجد حتى يكتب الدهر لنا إسماً وذكرى.
...
وبسقوط نظام مايو غني:
بلا وإنجلي .. إنهد كتف المقصلة
.....
يا شعباً لهبك ثوريتك .. تلقي مرادك والفي نيتك
وعمق أحساسك بحريتك يبقي ملامح في ذريتك.
.......
(7)
غني وردي أروع أشعار أسماعيل حسن العاطفية، وقد لا يسع المكان لذكرها لكن هناك أغاني ظلت خالدة:
1. أغنية (الود) والتي مثلت قطعة فنية موسيقية نادرة المثال قام بتوزيعها بالقاهرة الموسيقار اليوناني أندرية رايدر.
2. أغنية الحبيب العائد.
3. حبيب القلب يا أغلي الحبابيب
4. مرحباً ياشوق
إن الفن هو إبداع إنساني .. ثقافة إنسانية تعبيرية ذاتية وهو لغة التعبير عن الذات الجوهرية.. هو موهبة الإبداع .. فهو بقدر ما أنه إبداع وحدس، فهو ايضاً خبرة ودراية.. لقد كان وردي فناناً بمعنى الكلمة، غني للحب وللعاطفة وللوطن حتى بلغت أغنياته الثلاثمئة، ومن كثرة ما غني للشعراء السودانيين حتى يمكن وصفه بأنه غني دواوين من الشعر السوداني.
لحّن وردي وغني لفطاحل الشعراء السودانيين من أمثال الفيتوري وصلاح أحمد إبراهيم والتيجاني سعيد وإسماعيل حسن ومحجوب شريف ومحمد المكي إبراهيم وإسحاق الحلنقي، محمد علي أبو قطاطي وعمر الطيب الدوش وآخرين.
نماذج من الأغاني والشعراء الذين غني لهم الراحل وردي:
1. اسماعيل حسن (بعد إيه، المستحيل، خاف من الله، لو بهمسة، الرّيلة، وغيرها).
2. محمد عثمان كجراي (مافي داعي).
3. الجيلي عبدالمنعم عباس (مرحباً يا شوق، الهوى الأول).
4. صاوي عبدالكافي (أمير الحسن، حبيب القلب يا أغلى الحبايب).
5. صديق مدثر (الحبيب العائد).
6. أبو آمنة حامد (فرحة. بنحب من بلدنا).
7. محمد الفيتوري (أصبح الصبح وغيرها).
8. محمد المكي ابراهيم (أكتوبر الأخضر. إنني أؤمن بالشعب حبيبي وأبي، وغيرها).
9. مرسى صالح سراج (يقظة شعب).
10. إسحق الحلنقي (عصافيرالخريف، ياراجياني، أقابلك في زمن ماشي، وغيرها).
11. السِّر دوليب (هدية).
12. محمد على أبوقطاطي (المرسال، سوات العاصفة).
13. التجاني سعيد (من غير ميعاد، قلت أرحل).
14. عمر الطيب الدوش (الودّ، بناديها، وغيرها).
15. الجيلي محمد صالح (الحِبيِّب).
16. صلاح أحمد إبراهيم (الطير المهاجر، يا ثوار اكتوبر).
17. عبدالواحد عبدالله (اليوم نرفع راية استقلالنا).
18. محجوب شريف (أحبك أنا مجنونك، بلا وإنجلا وغيرها).
19. على عبدالقيوم (بسيماتك تخلِّي الدنيا شمسية).
20. محمد يوسف موسى (عذبني).
(8)
وردي والمرض:
أصيب الفنان وردي بالفشل الكلوي والذي استمر معه لسنوات قبل أن ينجح في الحصول على كلية من أحد معجبيه بعدما تبرع بها لإنقاذ فنان السودان الأول كما قال وقتها، لتنجح زراعة الكلية الجديدة في قطر ويعود بعدها إلي البلاد ويواصل عطاءه من جديد. وقد كان وردي في آخريات أيامه وقبل رحليه يغني جالساً في تحدي للمرض إلى أن توفي في 18 فبراير 2012 عن عمر قارب الثمانين.
وتقديراً لدروه وإسهامه في حياة السودانيين طوال نصف قرن من الإبداع الفني الذي شكل وجدان السودانيين وتاريخهم منحته جامعة الخرطوم درجة الدكتوراه الفخرية عام 2005 تقديرا لهذا العطاء المميز. ألا رحم الله الفنان الموسيقار محمد وردي واسكنه فسيج جنانه بقدرما قدم للسودان ولأفريقيا وللإنسانية.
نقلا عن صحيفة إرتريا الحديثة (اسمرا)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.