[email protected] في روايته الرائعة (شيكاغو) أورد الروائي المصري الرائع علاء الأسواني قصة طريفة ومعبرة، مختصرها أن أفراد عائلة ثرية يديرون شركات و أموال طائلة، أودعوا والدهم أحد دور رعاية المسنين، واتفقوا مع إدارة الدار أن تخطرهم قبل أيام قليلة بموعد انتقال والدهم إلى الدار الآخرة، وفق معطيات وضعه الصحي. وفي ثلاث مرات أرسلت الدار إخطاراً للأسرة باقتراب أجل الأب ولكن في كل مرة كان عزرائيل لا يأتي في الموعد المحدد له ولثقة الأسرة في تقارير الأطباء كانت تترك مشاغلها وتأتي لتجلس على رأس والدها في انتظار ساعة الرحيل. الأسرة التي تحسب وقتها بالدولار وفي بورصة الأسهم، قامت بتحريك إجراءات قضائية ضد المصحة بتهمة وجود قصور وخلل في نظام التوقعات داخل المصحة!! الغريب في الأمر أن الأسواني في روايته تلك - التي لم تحظ باهتمام يضاهي روايته ذائعة الصيت (عمارة يعقوبيان)- تنبأ بالثورة المصرية في أغلب تفاصيلها اليومية، بصورة توحي بأنه يوثق لما حدث لا يتوقع ما سيحدث بعد عدة سنوات من نشر الرواية. عزيزي القارئ ،دع الأسواني جانباً. قبل ثلاثة أعوام نشر المركز الملكي الهولندي دراسة تفصيلية- نشرتها (السوداني) في بداية انطلاقتها الجديدة- جاءت تحت عنوان (السودان في 2012)، عرضت الدراسة أربعة سيناريوهات لمآلات الأوضاع في السودان بعد الانفصال، السيناريو الرئيسي كان يتحدث عن اندلاع الحرب في دولة الشمال في النيل الأزرق وجنوب كردفان ثم انتقالها بين الخرطوم وجوبا.. ذلك السيناريو تحقق منه الجزء الأكبر وتبقى الربع الأخير! تذكرت كل ذلك وأنا اطلع على خبر فشل مؤتمر اسطانبول الاقتصادي.. قلت لنفسي من أي معطيات واقعية استمدت الحكومة السودانية فرضية احتمال قيام ذلك المؤتمر بمشاركة أمريكا وحضور جو بايدين!! وما الذي دفعها للتفاؤل بأن أمريكا ودول الغرب من الممكن أن تسهم في دعم اقتصاد الدولة في الشمال، واعانتها اقتصادياً لتجاوز أزمات ما بعد الانفصال. الغريب أن توقعات نجاح المؤتمر جاءت والعلاقة مع أمريكا في أسوأ أوضاعها، هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية تهدد بمعاقبة السودان وملاحقة الرئيس عمر البشير، والكونغرس الامريكي يقلب على طاولاته حزمة عقوبات جديدة لردع الحكومة السودانية، والانتخابات الأمريكية على الأبواب وملف عقاب السودان واحد من ميادين التسابق بين الديمقراطيين والجمهوريين. وبكل مقاييس منطق السياسة والدبلوماسية وتقارير الإرصاد الجوي لا يمكن توقع أن تشرع الدولة التركية في السباحة عكس التيار الأمريكي لتحقيق مصالح السودان!! هذه معطيات ترى بالعين المجردة ولا تحتاج لاستخدام مايكرسكوب ولا لمناظير الرؤية الليلية! والأغرب من كل ذلك، أن الحكومة ظلت تردد بصورة متكررة أنها مستهدفة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً من قبل الأمريكان وحلفائهم،و إشراقة تهدد بطرد الأمريكان و قطبي يقول لا نقدر على مواجهة أمريكا. فكيف يكون العدو هو المنقذ في ذات الوقت، وكيف يكون حامل الدواء هو ذاته صاحب السموم!! هناك إخفاق كبير في منظومة التوقعات داخل الحكومة، مؤتمر اسطانبول ليس الأول في هذه القائمة، من قبل قالت وزارة المالية إن الازمة المالية العالمية لن تؤثر على اقتصاد السودان، وحدث عكس ذلك. وقيل أن انفصال الجنوب سيعود بالخير على السودان، والواقع الآن يسجل إفادات مضادة. وكان الاحتمال المستبعد جداً، إقدام حكومة الجنوب على إغلاق أنابيب النفط، ووقع ما لم يكن في الحسبان. من المصلحة الوطنية الكبرى مراجعة منظومة التوقعات داخل الحكومة، أسوأ أنماط التفكير، هو التفكير الرغائبي الذي لا يستمد قاعدة معلوماته من معطيات الواقع ولكن من سراب الأمنيات!!