يا للركاكة، ويا.. يا للرعب! إلى متى، تظل السلطة على اطلاقها-أى سلطة قابضة بالحديد في السودان- هكذا- ركيكة، مهتزة من خوف، ومرعوبة، حين يموت عظيم، يعارضها بالاغنية، أو القصيدة، أو الخطاب السياسي الرصين؟ إلى متى تظل هذه السلطة- هكذا- تنسى كل شئ، ولا تتعلم شيئا على الإطلاق؟ لو كانت لا تنسى شيئا، لكانت قد تذكرت رعبها، وهى تورد في نهاية نشرة أخبار، خبر موت الزعيم الأزهري، هكذا: توفى اليوم اسماعيل محمد الازهري أستاذ الرياضيات السابق! كان ذلك، في بواكير ثورة "مايو" أيضا، لو كانت السلطة، تتعلم شيئا، لكانت قد تعلمت، أن نعى العظماء، بمثل هذه الطريقة المرتعشة، الركيكة، يزيد من أعدائها أعداء، ويقصر من عمرها، حتى وإن خيّل إليها أنه سيطول، بالتشريد، والكرباج، والزنزانة، والطلقة، والمدفع أب ثكلي! قبل يومين رحل محمد ابراهيم نقد. الخبر،تناقله السودانيون- سريعا جدا- عبر ميديا العصر: المويايل.. وشبكات التواصل الإجتماعي.. من بريطانيا إلى دول العالم.. ومن حلفا إلى نوملي(سابقا).. ومن الجنينة إلى بورتسودان، إلى الكرمك وقيسان، ومن أم برمبيطة،إلى كاجو كاجى، ومنها غادي، غادي. بعد اكثر من ساعتين، نعت رئاسة الجمهورية، في بيان على الهواء وفي الشاشة، محمد ابراهيم نقد، سكرتير الحزب الشيوعي السوداني، و.. واستمر الإرسالين، في برنامجهما العادية، جدا! أىّ ركاكة هذي.. واى جحود؟ لو كنت الراعي الرسمي، لكنت قد قطعت الإرسال. سوّدت الشاشة، ولكنتُ قد قلت في النعى: أيها الشعب السوداني المكلوم في وردي، وحميد.. ننعي إليكم آخر الرجال المحترمين" ولكنتُ قد سكتُ.. ولكان الشعب السوداني المكلوم، قد أدرك بحسه المعرفي للرجال، أن محمد ابراهيم نقد، قد أغمض عينيه، إلى الأبد، عن الوطن الذى انشطر، ويتلظى.. وإنه قد رحل وفي عينيه دمعة.. في قلبه طعنة.. وفي فمه تشهد ودعاء.. دعاء هو من دعاء الصالحين! الركاكة الرسمية في النعى، كانت قبل أيام – أيضا- في حق حميد. لوكنتُ الناعي الرسمي لكنتُ قد قلتُ:" خطف الموت حميد.. خوازيق البلد زادت!" بعد قطع الإرسال، وتسويد الشاشة! الإثنان: نقد وحميد، أجل يقترب من أجل.. وهما معا، أجل وأعظم،من أن يكون نعيهما بهذه الطريقة الركيكة، وبمثل هذا الخيال( البارك) وبمثل كل هذا الجحود، وكل هذا النكران للجميل.. والإثنان، لأي منهما، في " خدمة الشعب كفاح وعرق" ولأي منهما في نشر الوعى، فضيلة.. وفضيلة من وراء فضيلة، في تفتيح عيون الناس! نقد، كان قائدا تطهريا.. وكان من المحبين الكبار للسودان. عاش فوق الأرض، وتحتها، نضالا جسورا، ليعطي السياسة معناها الحقيقي.. الأخلاقي، والمنضبط.. ويعطي النضال استعذاب عذاباته، وماأكثر عذابات النضال، وما أحلاها.. عاش يهدهد الفقراء، حتى يناموا، بأن الحقول لهم، ولهم المصانع.. وللأفندية المكاتب.. والأرض للجميع نارا وماء وكلأ، وحين تناقلت الميديا الشعبية خبر موته، بكاه الفقراء، ووسعت الارض من شبر فيها، للجسد النحيل الذي تضخم- من غير سوء- بمحبة الفقراء، وطهارة اليد، والوجدان، واللسان، والحب الكبير للوطن! حميد، كان رفيق هم البلد. كان أيضا من كبارعاشقيها.. هدهد هو الآخر الغلابة، وفتح عيونهم.. علمهم- كما القدال- أن يرفعوا صوابعهم السبابي،ويقولوا للظالم" يازول هوى" وخطالم- كما مصطفى سيداحمد- " خط.. مامنو نط.. الليلي ياموت ياحياة.. والخاتي يختار الوسط"! مااختار الوسط،والشاعر موقف. ما اختار الوسط والشعر ليس هو الوقوف مع القبح، وليس هو الوقوف بين بين. ما اختار الوسط، والشعر قضية.. ورسالة.. وهم.. ما اختارالوسط، والشعر، ماعاد للحبيبة في معناها الضيق. مااختار الوسط. نورا أخذت شكل البلد. الزين ودحامد أخذ شكل البلد.. راشد، والتومات، وست الدار، والنوباوية.. وعم عبدالرحيم، ياهو عمي وعمك.. وعم يات من زول.. والحمام ياهو من من سفينة نوح، ومن قبلها، ياهو الحمام رسول السلام.. وياهو الحمام الذي أخذ منه حميد من كل زوجين اثنين، وفرخ، وتكاثر في سفينة أشعاره العظيمة، ليرفرف سلام.. ويرفرف: أرضا سلاح! هكذا، شال حميد القصيدة. شالا فوق. وسّع مواعينها. أعطاها ألقا من نوع آخر.. ولد فيها من المعاني معاني. جعلها قنبلة.. مدرسة. بوستة. جعلها نورا. جعلها نارا. جعلها بردا وسلاما.. ( أنسها) زيتونة لا شرقية ولا غربية.. شالا فوق بطول وعرض الدنيا، وختاها... ختاها في حلاقيم الرجال والنساء.. الصبين والصبيات، وشفع الفريق، وحين سكت حميد.. حين أسكته الموت، كانت غناويه تحف موكبه المهول، تخرج من جملة الحلاقيم، نورا وراشد وست الدار والنوباوية والزين ود حامد وعم عبد الرحيم..وكان النخيل يحني هاماته، والتبلدي والكتر، واللعوت، والسلم، وكل اشجار المناخات، وكان الحمام يرفرف، يهدل.. أرضا سلام ياالتربال.. أرضا سلام يامُحمد ودالحسن.. ياودسالم.. ياحميد! " " السلطة، ماتعلمت شيئا. لا تعلمت من الحياة، ولا تعلمت من الموت. لو كانت، لكانت قد تعلمت أن القصيدة- كما الأغنية- لا يمكن خنقها.. ولكانت قد تعلمت، أنها لا يمكن أن تشيد جدارا سميكا، بين المغنين والشعراء العظيمين جدا، وبين مسامع الجماهير.. ولو كانت قد تعلمت، من (انكسار) النساء، على المقابر لتشييع وردي وحميد- وفي ذلك تكسيرلعرف وتقليد واقامة عرف وتقليد جديدين- أن سلطة المجتمع أقوى ملايين المرات من سلطتها.. أيضا لو كانت السلطة تتعلم شيئا، لكانت قد تعلمت، كيف تنعي الكبار، بغير كل هذه الركاكة.. وكل هذا الجحود.. وكل هذ النكران، وكل هذا التشفي.. ولكانت قد تعلمت أن يوم شكر الكبار، إذا ماجاء، كان الشكر.. برغم الإختلاف.. ذلك لأن الموت هو الذي يجمع، بأكثر من الحياة، تلك التي دائما، ما تفرّق.. ولو طالت!