لم يكن السيد الزبير المعتقل السياسي السابق في سجون القذافي ليشبه أي من المعتقلين الليبيين، بل كان حالة استثنائية خاصة، فهو بحكم انتمائه للعائلة السنوسية المالكة التي كانت تحكم ليبيا لم يكن ثائرا على القذافي بداعي رفع الظلم والمظالم، ولا بداعي الديمقراطية والحريات، إنما كان بداعي استرداد حقه وحق عائلته الذي كان يعتبر أن القذافي جرده من سلفه الملك إدريس السنوسي، وكان حين بدأت قصته مع المعارضة يرفع شعار التخلص من حكم العسكر وإرجاع ليبيا دولة ملكية تعود ملكيتها لأصحاب الحق فيها وأقصد هنا العائلة السنوسية. هذا شيء يجهله الكثير من الليبيين ويصنفون الزبير ويشيرون إليه بأنه المعارض الليبي السابق، ليمنحه شرف المعارضة هذا أن يكون متميزا عن المعارضين الذين جاؤوا بعده بسبب السنوات الطويلة التي كان قد قضاها في السجون، ونحن ننسى بأن السيد الزبير السنوسي لم يلقى التأييد حتى من المعارضة الليبية نفسها، فالذين عارضوا بعده كان شعارهم مختلف تمام الاختلاف، فهم نادوا بليبيا دولة ديمقراطية بعيدا عن حكم ضباط الجيش، دولة جمهورية مستقلة يكون لمواطنيها الحق الأول والأخير في اختيار من يحكمهم بوسيلة صناديق الاقتراع كأي دولة حرة في العالم المتحضر. وبحلول ثورة فبراير كان الزبير السنوسي يتحين الفرص لاسترجاع حق اغتصب منه، فكان حين رأى الليبيون يتخذون من علم ليبيا إبان حقبة المملكة السنوسية شعارًا لثورتهم كان يمني النفس بأن ينادي هؤلاء الثائرين الجدد بعودة ليبيا مملكة كما كانت وقت استقلالها، إلا أن الذي حدث هو أن هذا الجيل الثائر كان يرى أحقية أن تكون ليبيا حرة لمواطنيها جميعا ولم تكن تروقه فكرة أن تعود ملكيتها لأسرة أو قبيلة تحت إي شعار ووفقا لأي مسمى. هنا وعبر وسائل الإعلام كان الجميع يشاهد دعاة الحرية والكرامة، ومريدي الحقوق والتقدم والحضارة يقدمون أرواحهم وكل ما يملكون رخيصة لأجل الكائن الجديد القادم، وكان كل شيء يشير إلى دولة حديثة تحكمها القوانين والمؤسسات عوضا عن الأفراد والقبائل. المقربون من الزبير السنوسي والملتفين حوله وتزامنا مع انتهاء مرحلة الثورة، وإعلان ليبيا دولة حرة سرعان ما بادروا بالهمس في أذنه بأن حلمه في العودة صعب المنال وأنه إن طالب بحقه في هذه الفترة بالذات سيتم اتهامه بخيانة الوطن وسوف يكون محل سخرية الليبيين جميعا؛ لأنه كان من غير اللائق أن يقدم الثوار ما ناضلوا بالأرواح من أجله لشخص سيحكمهم هو أيضا طوال حياته وحياة أبنائه وعائلته من بعده، ولم تكن لديهم أي من الضمانات بألا يكون الزبير نفسه مشروعا لطاغية جديد، ولسان حالهم يقول: "وكأنك يا بوزيد ما غزيت". أشير هنا إلى أن السيد زبير السنوسي لا يمتلك أي نوع من الخبرة أو الحنكة السياسية ولا حتى الثقافة؛ بسبب سنين طويلة قضاها في السجون بعيدا عن كل ما من شأنه أن يجعل منه إنسان مطلع على ما يحدث في العالم، فهو لأكثر من ثلاثين سنة لم يشاهد التلفزيون ولم يكن يسمح له حتى بالقراءة، فهو لا ينتمي لطبقة المثقفين ولا حتى لأشباه المثقفين، إذن هو إنسان عاش خارج كوكب الأرض لما يقرب نصف عمره، فلم يكن قادرًا حتى على الظهور الصريح على وسائل الإعلام، ولا حتى الدخول في لقاءات أو مناظرات مفتوحة للترويج لفكرته المزعومة، وكان يكتفي دائما بإلقاء البيانات المكتوبة التي عادة ما يتم صياغتها من قبل المحيطين به. تم إقناع الزبير السنوسي من قبل بعض من أصدقائه ومعارفه وأقاربه بفكرة الفيدرالية كبديل عن فكرة المطالبة بالمملكة الليبية، مستغلين في ذلك شعارًا أظهروه في وسائل الإعلام يقول بأن المنطقة الشرقية كانت مهملة بشدة إبان فترة حكم القذافي، وأن المنطقة الغربية كان لها من الحقوق أكثر مما كان للشرق بكثير، آملين في إيجاد الدعم من أهالي الشرق وقد عزفوا لهم النغمة التي يفضلون سماعها، بينما كانت الحقيقة التي غفل عنها الجميع والتي لم يكن لها وجود سوى في أذهان مرضى النفوس ومريدي الجاه والسلطان وتقلد المناصب هذه الحقيقة كانت تقول بأنه لو تمكن الزبير من الوصول إلى إقناع الناس بفكرة الفيدرالية المزعومة، واستطاع تزامنا مع مرور البلاد بحالة الفوضى التي تصاحب قيام الثورة بأن ينصب نفسه كحاكم محلي في ولاية برقة التي كانت تضم الشرق الليبي بمقدار أكثر من ثلث مساحة البلاد، والتي يوجد تحت أراضيها ما نسبته 75% من ثروات البلاد من نفط وغاز ومياه ومعادن، كان يمني النفس بعدها بأنه قادر على إقناع سكان هذا الإقليم قليلي العدد بأنه إن نادوا بالانفصال عن ليبيا سوف يعيشوا حياة مترفة في ظل توفر الثروات وقلة عدد السكان، وبالتالي كان سيستطيع وبالضربة الفنية القاضية أن يحقق انتصارا لم يكن أبدا في حسبان أي من الليبيين، وبحسب إرادة الزبير السنوسي وأفكار المحيطين به ستكون ليبيا مملكة في جزءها الشرقي، وستكون بلا شك مملكة غنية ومترفة. هكذا كانت الفكرة، وهكذا أحيكت مؤامرة الفيدرالية والدعاية لها على أنها الحل الأمثل القادم من الشرق، وقد نسى أو تناسى ضعاف النفوس هؤلاء بأننا نوقن جيدا بأن ليبيا كائن واحد لا يتجزأ، وأن فكرة الفيدرالية قامت في أمريكا لتوحدها وقد كانت مفرقة، وأن الكونفدرالية في أوربا جاءت أيضا من أجل توحيدها اقتصاديا وعسكريا، لكنها بالطريقة التي نادى بها هؤلاء لم تكن إلا لزرع الفرقة والشتات بين أرجاء الجزء الواحد. ما يفرحنا ويجعلنا نعيش الأمل والتفاؤل بأن ليبيا لن تكون أبدا بإرادة الطامعين، هو أننا نملك أناس في الشرق كما في الغرب لهم من الوطنية ما يجعلهم يقفون بكل ما أوتوا من قوة في وجه التفرقة وفي وجه الشعارات الزائفة، إنهم أحرار الشرق الذين هتفوا في أول يوم من الثورة بالحرية لليبيا وليس لبنغازي، وإنهم أهل الغرب الذين لم يرضوا بأن تريق دماء أخوانهم لتُحفظ دمائهم، بل وبروح الوطن اختلطت الدماء وأريقت في كل جزء منه شرقه وغربه.