لاحظت تساؤلا من السيد الذي احترمه كثيرا سليمان دوغة حول الرغبة الملحة لمن كان يعارضون القذافي خارج ليبيا في اعتلاء سدة الحكم، وقد استغلوا ثورة فبراير ليركبوا أمواجها ويجنوا ثمارها، وإليه أقول أنه لو كان هناك أحد نجا من حملة التجهيل الممنهج الذي مارسه علينا القذافي لأكثر من أربعة عقود فهم الذين فروا إلى الخارج، وجلهم الآن كبارا في السن، وقد نتج عن غربتهم هذه أنهم عاشوا في مجتمعات تتنفس الديمقراطية وهم بالتالي بشكل أو بآخر قد تأثروا بهذه الظروف وقد شاهدوا بأم أعينهم كيف تتم عملية الاقتراع وتغيير الحكام، واعتقد أنهم لدواعي الخبرة والثقافة أولى بحكمنا كليبيين، أنا لست من المقيمين بالخارج ولست من الطاعنين في السن، غير أني أرى أن هؤلاء هم الأكثر ثقافة وعلما والأكثر انتماءا إلى طبقة التكنوقراط، وبعبارة أخرى هم ليسوا الأفضل على الإطلاق لكنهم أفضل الموجودين على الساحة، وما يميزهم عن مثقفي الداخل أنهم أبعد ما يكون عن القبيلة وعن التعصب وعن ثقافة القيادات الشعبية الاجتماعية وبالتالي عن الجهل. أما عن معارضة بعض الليبيين سيما الشباب منهم لكبار السن، وحديثهم عن أن الثورة جل من قام بها وضحى في سبيلها هم الشباب الصغار ورؤيتهم بأن الشباب هم وحدهم من يجب أن يجنوا ثمارها، وذلك لن يكون إلا باعتلائهم مناصب الدولة الحساسة والمهمة هو في اعتقادي خطأ كبير؛ لأنه علينا كليبيين أن نستفيد من تجارب الآخرين الذين سبقونا بمراحل فيما يتعلق بالديمقراطية والحريات وأصول اعتلاء المناصب، فكل دول العالم كما هو معروف للجميع يتقلد المناصب السياسية فيها كبار السن وذلك لأن كبارة السن هم الأكثر خبرة ورجاحة في العقل وتريثا في اتخاذ القرارات المهمة والحساسة. وعلينا أن لا ننسى دور من نصفهم بأنهم كبار السن في ثورة فبراير، فهم الآباء والأمهات الذين شجعوا أبنائهم ودفعوا بهم لجبهات القتال، ومنهم الكثير من تقلد السلاح بنفسه وكان في مقدمة المقاتلين في ميادين القتال، ومنهم أيضا رجال الأعمال الذي هبوا من كل حدب وصوب وقدموا أموالهم التي عانوا الكثير كي يجمعوها قدموها بكل فخر وعن طيب خاطر دعما للثوار المقاتلين، ودعما للنازحين الفقراء المشردين خارج الحدود، وبفضل من نصفهم بكبار السن ونريد تحييدهم عن الدرب تنادى رجال حقيقيون يجيدون فن الكلمة والدفاع عن الحقوق والحريات، وبشجاعة منقطعة النظير اعتلوا المنابر الإعلامية ليقدموا للعالم قضية الليبيين على أنها قضية بمنتهى العدالة وقد نجحوا في ذلك برغم الظروف القاسية وبرغم تعرض أسر بعض منهم للسجن والتعذيب إلا أنهم أوصلوا الرسالة كاملة وكسبت الثورة الليبية تعاطفا عالميا منقطع النظير، وما هي إلا أيام قليلة وبفضل هؤلاء الأبطال حتى تحركت قوات الناتو كأكبر حلف عسكري على سطح الأرض لتكون في صف الثوار وتضرب ترسانة القذافي بكل قوة وتدمر جلها في مهدها. فيما يتعلق بالثورة الليبية لا أحد يمكنه بأي حال من الأحوال أن ينفرد بالفضل في نجاحها، فأغلب الليبيين قد ضحوا كل بما يستطيع وكل بحسب مكان وجوده وبحسب الظروف التي كانت تحيطه، وباستثناء القلة الذين كانوا ولأسباب مختلفة يروقهم طغيان القذافي والذين فضلوا البقاء في صفه لآخر لحظة، باستثناء هؤلاء نجد أن كل الأطياف في ليبيا كانت لها التضحيات الجسام وكانت لها البطولات، والثائر الحقيقي لا ينكر فضل الآخرين الذين ساهموا، فلا ينبغي لنا بأي حال من الأحوال أن ننكر دور تلك الأم الأمازيغية التي كانت تودع ابنها الشهيد بصوت الزغاريد طالبة من الله أن يلهمها الصبر على فراقه، تلك وحدها حكاية لأم كانت دافع لآلاف من الأمهات أن يحذوا حذوها وأن يدفعوا بآلاف الأبناء لجبهات القتال، وهي أيضا كانت سببا في إقناع من كانوا يقفون مع الطاغية بأنها ثورة من أجل الحرية والكرامة وأن ابنها شهيد الوطن وشهيد الواجب، وليس قتيلا فداء لملك الملوك المقبور. تلك هي مرحلة اعترف على تسميتها بالثورة، وقد انتهت كأروع ما تكون الثورات، وقد ألهمت العالم بأسره وسجلت في سجل التاريخ كأجمل زهرة في عقد الربيع العربي، حتى أن بعض الأدباء صنفوها بأنها أفضل من الثورة الفرنسية التي قدمت أول نظام جمهوري في العالم، لكن يا سادة ليبيا الأحرار ويا مريدي العدالة والتنمية لا يمكن للثورة أن تستمر للأبد، ولا يمكننا أن يرفع ذات الشعار الذي رفعه الطغاة بقولهم أن الثورة مستمرة؛ لأن الثورة كما هو معلوم تصحبها الفوضى، اليوم علينا رفع شعار الدولة والحضارة والأمن والسلام، علينا رفع شعار العلوم والصحة ومستقبل الأطفال، علينا رفع شعار الحقوق والخدمات والبنية السليمة واستغلال الموارد، علينا أن ننظر لمن سبقونا بمئات السنين، وعلينا بروح الثوار أن نلحقهم في أسرع وقت ممكن لذلك. ذلك المهندس وذلك الطالب والمعلم والطبيب الذين تخلوا عن مهنهم وتجرءوا بكل شجاعة على حمل سلاح لم يسبق لهم أن شاهدوه يوما، لقد كانت شجاعة منقطعة النظير ولا يمكن أن يوجد أشخاص أكثر شجاعة إلا أولئك الذين قاموا بوضع السلاح جانبا حال انتهاء الثوار، واتجهوا بكل فخر إلى ممارسة أعمالهم ومهنهم أكثر تفانيا هذه المرة وبصورة استثنائية بداعي الوطن وبحلم أن تكون ليبيا هي الأفضل على سطح الكوكب، لما يكون الحلم مستحيلا فنحن أهل لذلك لو توفرت الإرادة. تجارب من سبقونا يجب أن تكون نبراسا يضيء لنا طريقنا، وعلينا أن نحاول الاستفادة من كل ما هو متاح لنا، علينا التركيز عما يحمله الأشخاص في داخلهم من خبرة وتأهيل ومعرفة بالديمقراطية والحريات عوضا عن تركيزنا على الأشخاص بأسمائهم وقبائلهم وانتماءاتهم، فالإنسان في العالم الحديث بما يستطيع تقديمه للمنصب الذي يشغله، فإن كان كبارنا بحكمتهم ودرايتهم يمكنهم أن يؤمنوا لنا الحياة الكريمة التي نأملها فما المانع من أن نوليهم على أمرنا. ليبيا التي ناضلنا من أجلها يجب أن تكون دولة تحكمها القوانين وليس الأشخاص أو القبائل، تماما كدول العالم المتقدم، وأنا على ثقة كاملة بأن ليبيا عطفا على التضحيات والتاريخ، وعلى الموارد والديموغرافيا ستكون هي الأفضل عربيا وإفريقيا ومن بين الأفضل عالميا.