السلطات السعودية تستدعي قائد الدعم السريع    راصد الزلازل الهولندي يحذر مجدداً: زلزال قوي بين 8 و10 مايو    (تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    "الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    السعودية أكثر الدول حرصا على استقرار السودان    الفاشر.. هل تعبد الطريق الى جدة؟!!    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"طائرة الشؤم " !(1) أبو البشر أبكر حسب النبي

يبدو أن المثل العربي القائل " ليس من سمع كمن رأي " قادر على تكثيف كثير من المواقف التي يمر بها المرء في حياته ، فعلى الرغم من الحديث الكثيف عن مآسي الحرب التي كانت تدور في الجنوب السودان ورؤية ظلال تجلياتها واضحة في كل المدن الشمالية تقريباً، ، غير أنني لم أُخْضَع لتجربة الاحتكاك المباشر لما يجري في الجنوب ،لأري ما حل بأهله رأي العين إلا في يونيو عام 1999م ، عندما انتدبت في مهمة رسمية ، ضمن وفد حكومي، لزيارة مدينة أويل عاصمة ولاية شمال بحر الغزال . و كان علينا أن نستقل طائرة نقل روسية عتيقة من طراز ال(يوشن) أو ال(انينوف) لا أذكر . وقد كانت جاثمة في مدرج معزول ، وشبه مهجور، في الناحية الشمالية من مطار الخرطوم . فتقدمنا نحوها بأفئدة وجلة، ومخاوف مكتومة، لأن الذكريات الخاصة بأحداث سقوط هذا الجنس من الطائرات كانت حاضرة وماثلة في أذهان الجميع . وعندما دنونا منها ، بدت لنا وكأنها قابعة في موضعها منذ سنين ، من فرط سمتها المتهالك ومنظرها المتهرئ . وحين ولجنا إلى جوفها ، طوي الذهول الأنفس و عقدت الدهشة الألسن ،ولم يتبن أحد أهو متن طائرة أم جوف مغارة؟!، عبارة عن دهليز مظلم طويل صُفَّ على جنبيه مقاعد خشبية متآكلة ، كتلك التي نجدها في الحدائق العامة ( البنشات). لا مضيف ولا مرشد يوجهك ويدلك أين يجلس وأين تضع أمتعتك؟ ، فقط ثمة كهل روسي قصير القامة ، ضئيل الجرم ، عابس الوجه ، غارق في (أفروله) المتسخ ، يتمنطق جرابا لا أحد يعرف ما بداخله ، ويقطع ممشى الطائرة(الدهليز) جيئة وذهاباً ، لا يتحدث مع أحد ، وإن سُئِل يحملق ويقطب جبينه ، وينسحب بعيداً يهمهم ويغمغم مع ذاته ، ولا أحد يعلم أكان يحرز نفسه بتعاويذ أرثوذكسية أو يسليها باجترار ترانيم بلشفية , أو حتى يكيل اللعنات للزمان وأهله والظروف التي دفعته ل(يغترب) إلى السودان , لا أحد يدري ، فقط سادر في هذه المناجاة الذاتية . وتحسس كل منا جزءا من( الكنبة) اعتباطياً وجلس عليه، أما من عاقه حظه العاثر وتأخر فقنع بالجلوس على (أرضية) الطائرة. وكان شعاع الضوء الوحيد ونسمات الهواء القليلة تتسلل من فتحة قدت كيفما أتفق في مؤخرة الطائرة، وهي التي ولجنا منها ، ولا يمكن لأحد أن يسميه باباً إلا مجازاً. وعندما أغلقت تلك الفتحة الاعتباطية ريثما تحن لحظة الإقلاع ، عدَّها الجميع حينا من الدهر، من هول العنت والعذاب الذي كابدوه ليبقوا على قيد الحياة ، ولا يقضوا كتماً واختناقاً ، من شدة الحر والانعدام التهوية ، كل من في الجوف يهف وجهه بكل شيء ،ولكن بلا جدوى ، وترى وجوه الناس كأن زلزلة الساعة قد حلت بها ،.ولا أخال أن أحداً من الركاب كان يشك بأن بعض الأطفال ، الذين كانت صرخاتهم الشبيه بحشرجة الموت تصل إلى آذان الجميع وتقطع نياط قلوبهم ؛ بأنهم سينجون من الموت المحقق ، ولكن الله سلم ، إذ أن إقلاع الطائرة ودخولها الأجواء العلياء أمكن الاستمداد الهواء من التكييف الطبيعي ، وبرَّد الجو الجوف ، وتنفس جميع الصعداء . وأذكر أن أحد الزملاء التفت إليًّ قائلاً :" لم يحدث في حياتي أن تصبب عرقاً كما هو اليوم "، و قلت له:" أنا أيضاً" . و هذه كانت أمارة الشؤم الأولى .
وبعد أن حمدنا الله الذي نجانا إلى الجو البارد !. فإذا ببادرة الشؤم الثانية تدهمنا ، وكان ذلك بعد ساعة تقريباً من قلاع الطائرة ، فجأة استدعي قائد الطائرة عسكريا برتبة رقيب من أبناء مدينة أويل- وجهتنا - كان يجلس بجوارنا إلى مقصورة الطاقم، وعاد عسكري بعد هنيهة والتوتر يغشي محياه ، ولم ينبس ببنت شفة ، ولكن جميع شعر بان الطائرة قد غيرت اتجاه طيرانها بشكل مفاجئ ،وتيقننا بأن نائبة ما قد حلت أو كادت ، ولكن( الرقيب لم يتحدث بعد)! .
وصلنا أويل ، كان جل السكان البلدة هنا ، في ملعب كرة القدم الذي تحول إلى "مطار" الصغار والكبار ،الرجال والنساء،فقد أحاطوا بالملعب في وسط المدينة إحاطة السوار بالمعصم ،إذ أن هبوط الطائرة بسلام على هذا الملعب هو الأمل الوحيد لإنقاذ حياتهم والنجاة من حالة الاحتضار العام التي أوشكوا عليها ، وكانوا ينتظرون وصول هذه الطائرة بفارغ الصبر منذ سبعة شهور انقضت ،لأنها تحمل رواتب موظفي الحكومة لكل هذه مدة ، وهو المصدر الوحيد للزرق لكل أهل المدينة ، التي تختصر الولاية برمتها بعد أن استولت الحركة الشعبية على بقية المناطق .
تجلت بادرة الشؤم الثالثة وتمثلت في حالة البؤس التي بدت على هيئة ومظهر عموم الناس ، إذ هم حفاة وعراة إلا خرقاً وأسمالاً بالية يسترون بها عوراتهم ، وقد أنهكهم الجوع وأعياهم المرض وأدناهم العوز والفاقة ،إلى حد يقف المرء مبهوتاً ، ويعجز واللسان عن الوصف . لقد امتصت الحرب رحيق الحياة تماماً، وتركت هياكل عظمية تحمل أرواحاً لا أكثر، ولو لم أكن سودانياً ملماً ببعض أطراف البؤس في السودان بعمومه لخلتهم أشباح قادمة من عوالم أخرى !.
في غمرة هذا الشعور العميق بالمأساة والتعاطف الحميم بحال قوم قد حل بهم البوار إلى هذا الحد ،تلاطمت في قرارة نفسي مشاعر متناقضة ، والنفس البشرية مفطورة على الازدواجية والاختلاط ، أو بمعنى أدق إنها منطوية على آفة الأنانية والأثرة حتى في لحظة الإيثار والتعاطف ، إذ في خضم هذه اللحظة الإنسانية جال في ذهني خاطر شيطاني مشئوم ، مؤداه : هب أن مغامراَ متنطعا برز في دارفور- حيث أهلي وعشيرتي - وأعلنها حرباً بدعاوى العدالة والمساواة هل يكون مصير قومي مثل حال هؤلاء التعساء؟ . تجشمت عناء لأفق من هذه الغفوة المشئومة وبذلت جهدا لطرد ونفي هذه الوسوسة الشيطانية من ذهني ، ولكن يبدو أن هول صدمة المأساة كان أكبر من أن تنمحي من الذاكرة ، و ظلت حية حتى حلت بنا الفاجعة في دارفور .
في صباح يوم التالي لوصولنا زارنا الرقيب" سانتينو" ،وهو الرقيب المذكور سابقا،إلى حيث مقر إقامتنا وفجر لغز الشؤم الثاني إذ قال: "أما رأيتم عندما استدعاني وكيل الطائرة إلى قمرة القيادة ؟ أجبنا بلى !، فقال: الطيار ضل الطريق ، وكاد أن ينزل بنا في بلدة (واروار) والتي هي المقر الرئيسي للمتمردين في هذا الجزء من الجنوب ، وعندما شك استدعاني للتأكد ، وعندما نظرت إلى الأسفل ووجدت أشجار( الدوليب ) ، تيقنت إنها ليس بأويل إذ ليس في أويل الدوليب ، وقلت له أرفع" !! وطفق يحكي لنا الأخطاء التي ارتكبها الطيار الروسي (الذي نعته بالغبي )، على رأس هذه الأخطاء أنه لم يتبع خط سكة حديد المجلد – أويل بإطلال رأسه من النافذة من فينة إلى أخرى، كما يفعل بقية الطيارين، حتى يصل إلى أويل!!.
وعلى الرغم من أنني أعتبر نفسي من الذين لا يؤمنون بأسباب التطير وقراءة الغيب وما إليها من الخرافات والأساطير مثل السحر والمس وحتى تفسير الأحلام على طريقة ( محمد بن سيرين ) واتفق جزئيا مع ( سيجومند فرويد) في تحليله ،إلا أن هاجس اندلاع الحرب في دارفور –بعد خوض هذه التجربة - قد احتواني ، وظل يوسوسني خلال السنوات الثلاث التالية ، أي حتى أوائل عام 2002م عندما جاءني هاتف –عبر الهاتف- يبشرني باندلاع( الثورة في دارفور) !، قلت في سري يا إلهي يبدو أن بعض النبوءات تصدق أحياناً، ها قد وجدت الفكرة الشيطانية عفريتاً ينفذها، يا للشؤم ! قد حل الفأل السيئ الذي كابدت ثلاث سنوات لدفعه عن ذهني. ولم يجد محدثي لا تهنئة ولا تهليل ، فقط سألته عما حل بالأهل والديار ، ولم يشأ أن يخوض في مسائل ارتآها ثانوية أو انصرافية ، فالأمر( ثورة )ولا مكان للعواطف والإنسانيات !. ومذ تلك اللحظة ألزمت نفسي بنهج واحد، ألا وهو متابعة مجريات تلك الحرب اللعينة متابعة حثيثة ، ورصد كل تفاعلاتها عن كثب ، حتى غدا سلوكاً ً يومياً بأن أقوم بقص أو طباعة أي خبر منشور عن دارفور في أي صحيفة أو موقع الكتروني أو أدونه في دفتر خصصته لهذا الغرض أسميته (ملف دارفور) . ولا ريب أن المبعث الأساسي لهذا السلوك هو أن تلك الحرب المجنونة تدور مباشرة حيث أهلي وعائلتي ، فضلاً عن اهتمام أكاديمي مبكر في مجال الصراعات الأفريقية . وكان أكثر ما يؤذيني حالة صرف العقول والتفاعل المفتعل من بعض الانتهازيين ، والتأييد الأعمى الذي أبداه قطاع كبير من الجماهير المسكينة تجاه هذه الكارثة المروعة التي تسببها بعض المغامرين الذين لا يعرفون حتى لماذا يفعلون ذلك.
إذاً منذ البدء لم أكن مؤيداً لهذه الحرب ولا مقتنعاً بجدواها ، بل وكانت كل القرائن والمعطيات التي تتراكم لدي يوماً بعد يوم تؤشر إلى أن مآلها خيبة كبيرة ، وخذلان عظيم للآمال الهوائية التي علقها أولئك النفر من السطحيين على( ثورة دارفور ) الوهمية !.
وبعد مرور عامين أيقنت أنه قد حان الوقت لتحرير هذه المادة المهولة التي تجمعت لدي، ولكن سألت نفسي من أي منظور أقوم بمعالجة القضية؟ أمن الزاوية النقدية التي تتوافق مع قناعتي المذكورة سابقاً ؟، وإن فعلت ذلك ألا أغدو (صوتاً نشازاً ) أو (مترنماً خارج السرب) في وسط تيار عام (Mainstream) ملئه التفاؤل والحماس (للثورة الظافرة )؟!.أم أقوم برص وتنسيق المواد بطريقة الخبرية لغرض التوثيق فقط دون إعمال إي تحليل كما يفعل كتاب المواقع الإلكترونية ؟ . في النهاية المطاف استقر رأينا على منظور التحليل النقدي. وعندما اكتملت المسودة الأولى ارتأيت ألا أمضي في هذه الجادة وحيداً حتى النهاية ، إذ من الحكمة أن استأنس بآراء وأفكار بعض المعنيين ،على أن أترك لهم حق الحذف أو الإضافة . وعلى إثر ذلك انتخبت حفنة منهم ، وفرقت إليهم نسخاً من المسودة ، وطلبت من الأبعدين أن يوافوني بملحوظاتهم كتابة ، وأوعزت للأقربين أن نتناقش مباشرة حول القضية وطرق معالجتها في الكتاب ، والمدهش حقاً اتفاق رد فعل لدى الطائفتين في عدم أخذ الأمر بالجدية المطلوبة إذ سادت فيهم روح السلبية واللامبالاة والنظرة الأحادية أحياناً ، وقد التزمت الطائفة الأولى الصمت المطبق ، إذ لم يصلني من أي من أفرادها أي رد بالمطلق ، أما الطائفة الثانية فتجنبت الخوض في القضايا المركزية أو مناقشة الأطروحة الأساسية(Theme ) للكتاب ، وتحايلت للانصراف بإبداء بعض الملاحظات الشكلية والقشرية ، تمحورت حول استخدام بعض المصطلحات ، أذكر منها اعتراضهم على استخدام مفردة ( أم كواك)(*) عوض (الثورة) لتوصيف الحالة القائمة في دار فور ، واستخدام النظرية التقليدية( المركز/ الأطراف) لتحليل التخلف النسبي الذي تعاني منه أقاليم الأطراف بديلا عن المفهوم (التهميش )، وهو مفهوم وليد وأثير قد اسكر الكثيرين ، حتى أضفوا عليه هالة من القداسة والروحانية يذبون عن حياضه ويزودون عنه بأرواحهم . واعتراض على وقائع بعض الأحداث أو طريقة روايتها ، ومحاولة إنكار حصولها أحياناً ، منها مثلاً قصة هجوم قوات الحركات على مراكز أداء الامتحانات لطلاب الشهادة الثانوية- كما حدث في بلدتي (أمبرو) و (الطينة ) - وتمزيق الأوراق وطرد الطلاب من القاعات ودفعهم للانضمام إلى صفوفها ، كمثال حي للفظائع التي ارتكبت من قبل هذه الجماعات. وكان البعض –أن لم قل الكل- يعلم أن مظهر الحمل البريء التي تتمظهر عليها هذه الجماعات يخفي في ثناياه جنايات الذئب التي لا يحصيها العد ،وأن محاولة إسقاطها بالجملة على عاتق السلطة المركزية وحلف الجنجويد لم تكن كل الحقيقة ؛ إلا أنهم يكتمونها بدعوى أن لا مصلحة في إفشائها في هذا الوقت.
حتى من أراد إبداء وجهة نظر ناقدة لمجريات الأحداث في دارفور –خاصة في العامين الأولين- عليه أن يفعل ذلك على استحياء وبصوت خفيض ، وأذكر من هؤلاء أثنين إذ قال لي الأول : " أرادوها كما فعل دبي في تشاد ؛ ولكن يبدو أنهم لم استوعبوا تباينات الواقع في كلتا الحالتين" وقال الثاني : " في الحرب ، حتى إن ربحت ، فأنت خاسر"!.
وكان من واضح أن ثمة حصار معنوي محكم مضروب على الجميع بأن لا يعلوا أصواتهم فوق صوت الرصاص! . ونقول معنوي لان الجهر باعتراض على قرار الحرب يضع المعترض على خانة السلطة التي هي – في فرضيتهم - متولي القسم الأعظم من المأساة في دار فور ، ومن ثم فهي خانة الخيانة ، وهي أنجع وسيلة للقمع والردع .
وكمحاولة لإنقاذ مسودتي من النفور الجماعي ذهبت بها إلى إحدى دور الصحف (المستقلة) وطرحت لمدير التحرير –والذي كان بالمصادفة زميل دراسة سابق لي- إمكانية نشر بعض المواضيع الكتاب على صفحات صحيفته، وأذكر أنه طلب مني مهلة يوم ليقرر. ففي اليوم التالي اعتذر الرجل عن نشر أي جزء من الكتاب وذلك لاكتمال( ماكيت ) الصحيفة وعدم شغور أية مساحة إضافية . وبالمصادفة أيضاً كان مقر الصحيفة بالقرب من دار الوثائق القومية ، ولعلمي المسبق بأن هذه الدار تقبل إيداع المخطوطات والمسودات الخاصة بالمؤلفات الفردية ؛ كدت أن أذهب هناك وأقوم بإجراءات الإيداع بيد أنني عدلت عن ذلك ، وعدت إلى المنزل وقذفت بالمسودة في غياهب الخزائن ومكثت هناك حولين كاملين .
وفي الثالث من مايو عام 2006م تم التوقيع على ما سمي ب(اتفاق دارفور للسلام ) بالعاصمة النيجيرية أبوجا ، وسرى شيء من الأمل بأن الحرب سوف تضع أوزارها ،كما إن التوقيع على الاتفاق ساهم في اختراق طوق الحصار المعنوي، وانحسر غلوائه ، وعلت الأصوات الداعية للسلام وتساوت مع تلك الدافعة لمواصلة القتال ، وتبدلت الكثير من القناعات الراسخة حول جدوى الحرب ، وفشا النقد حول التجربة برمتها ، وبهذا غدت البيئة مواتية لنشر الكتاب .
ورب ضارة نافعة، كما يقولون، لأن تأخر صدور الكتاب قد مكن المؤلف من إضافة كثيراً المتغيرات اللاحقة ،و كان عنوان الكتاب في الأصل " أم كواك في دار فور وجبل مرة يتمخض "وهي محاولة لمشابهة وممثالة المأساة التي تجري الآن بما حلت بدارفور في خواتيم القرن التاسع عشرفي عهد المهدويين عندما دخل هذا الإقليم في حرب شاملة قضت على ثلثي السكان وسميت تلك السنوات بسنوات" أم كواك" و لإمعان كلمة "أم كواك" في محليتها واستشكال الاستعارة المفهومية التي انطوت على عبارة " جبل مرة يتمخض"ارتأينا إزالة عنصريَّ الغرابة والعسر عن العنوان ،ليبدو واضحاً ويتسم بالهدوء فكان العنوان الجديد " قضية دارفور .. بدايات ومآلات " .
ولا أشك أبداً أن كثيراً من القراء ليضيقون ذرعاً بتعقيدات التأطير النظري ببعده الأكاديمي الجاف ، إلا أن عملية التحليل وسبر أغوار التفاعلات اليومية وطرائق تفكير الفاعلين وردود الأفعال الجمعية والسلوك الكلي (المركب السيكو-ثقافي) كلها في حاجة إلى تحديد السياق أو النسق أو المنظور ليكون أداة للتحليل . لأننا لا نكتب تاريخاً إخبارياً في شكل حوليات ( كرونولوجيًة) يرصد حوادث راتبة ، وإنما شهادة أو (تورخة) لفترة مفصلية من تاريخ السودان بعامة ودارفور بخاصة لتبقى للأجيال القادمة للحكم عليها ، ولكي تكون الشهادة ذات قيمة معظمة يجب أن تكون الأفكار الواردة فيها ذات بعد تحليلي وتعليلي .إذاً ،والحال هذه ، لا ضير من استعانة ببعض نظريات علم الاجتماع السياسي لتكون آليات أو أدوات تحليلية دون أن نثقل كاهل القارئ بتعقيداتها المنهجية ومحاولة تقصي مدلولاتها المفاهيمية المركبة.
لقد تابعت –كما أسلفت – ما مكنتي الظروف للوصول إليها من المادة المنشورة حول قضية دار فور خلال الأعوام العشرة الماضية ، وهو الأمر الذي يؤهلني لتصنيف هذه المادة ،ويمكنني القول بأنها تتوزع إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية :
الأول :الكتابات المتسرعة والمتعجلة والهزيلة والهازلة أحياناً ، والتي تطفح بالانفعالات العاطفية والاندفاعات الحماسية ، والسمة العامة فيها تبادل الشتائم والسباب ً، ومحاولة الانصراف عن هول المأساة ، أو تحري جذر القضية بأبعاده الكلية ، حتى تلك التي بدت عليها بعض أمارات الموضوعية فقد صبت جل مدادها في مجرى واحد وهو: تصوير الجماعات المسلحة كأنها حركات ثورية ،وبل وصل الهزل مداه بأن وصف الوضع بأنه حالة تحرر وطني !ونحت بعضهم مصطلحات غرائبية تشين ولا تزين من فرط سحطيتها مثل استقلال من (الاستعمار الداخلي )! ، ومضى الآخرون في اجترار المفردات العتيقة والمستهلكة مثل ظلم (الجلابة) وكيد (أولاد البحر).. إلخ .. وقلما تجد –عند هذه الطائفة -تحليلا موضوعياً أو تفاعلا معتدلا أو قراءة الواقع بأفق واسع ونقد وإرشاد الفاعلين عن مواقع الخلل ومواضع الزلل . و تأتي معظم هذه الكتابات من أبناء دارفور في المهجر وتنشر في مواقع (الانترنت)، فهي معظمها لغو لا قيمة له، وغثاء يذهب جفاء . ولعل القاسم المشترك بين تلك الكتابات هو أنها لا تحمل الحركات أي وزر أو مسؤولية عما حدث ،أياً كانت مقدار هذه المسئولية .
الثاني : الكتابات الانطباعية ، وهي تلك التي تسلك سكة ( نظرية المؤامرة) ، وترى إن ما يجري في دارفور ما هو إلا مؤامرة كبرى حيكت في جنح الليل من قبل القوى الاستعمارية من أجل الانقضاض على خيرات دارفور الدفينة ، وهو الاتجاه الذي تتولاه الإعلام السوداني الرسمي وتتبعه الصحافة والفضائيات العربية بوقع الحافر بالحافر ، و هي حالة تعبر عن مجمل اتجاه (الطبقة النيلية) ،التي رغم استشعارها الخطر إلا أن عدم (الاستعداد السيكولوجي) لتقبل مآل الأحداث ، والذي قد يجر معه ( انقلاباً تاريخياً ) في بنية الدولة والمجتمع ، يدفعها إلى حيل الدفاع ، منها الهروب ولكن إلى الأمام ! . في الحقيقة أن عمليات حيل الدفاع تقود أحياناً إلي بلادة الحس ، فعوض النظر إلى القضية بعين صادقة مارس كثير من أفراد هذه الطبقة سياسة دفن الرؤوس في الرمال ولكي أدلل على ذلك أكثر مثالين ،الأول كنت شاهداً عندما تساءل أحدهم قائلاً: ( هل الحرب بين الحكومة والجنجويد ما زالت قائمة؟) عندما حاولت معرفة جد الرجل من هزله وجدته خال الذهن تماماً عما يجرى هناك، بل وليس لديه استعداد لمعرفته كأن الأمر لا يهمه من بعيد أو قريب . والمثال الثاني عندما يكتب مسئول ً كبيرً مثل الدكتور مصطفي عثمان إسماعيل (وزير خارجية سابق ومستشار رئيس الجمهورية) مقالاً يقول فيه: " أن الزغاوة ينقسمون إلى أربعة أقسام هي : " الزغاوة كوبي ،الزغاوة دود ،الزغاوة عنقا ،الزغاوة كيلتيو"!! ، و يقول أن نائب حزب الأمة السابق ( جبرالله خمسين ) والجنرال الذي تعرض للخطف في مطار الفاشر عام (2003م ) (إبراهيم البشرى) هما من أبناء دارفور!. صحيح أن التدقيق والتثبت من صدق المعطيات من ألد أعداء الذهنية / الثقافة السودانية بعمومها وهي مغرمة أبداً ب( الحكي المرسل) ، مع اختلاط بياناته ، ولا ترى لإثبات الحقائق والبيانات الصحيحة أي جدوى ، هذه حقيقة معلومة ، ولكن الدهشة أن تزري بنا هذه الثقافة المريضة إلى هذا الحد .
حالة هروب الثانية تتمثل في الهروع إلى دغدغة المشاعر الدينية إذ كثيراً ما نتقابل مع من يسألنا :(كيف يقتل مسلم أخاه المسلم؟) أو (كلهم مسلمون لماذا لا يجلسوا مع بعضهم البعض ليحلوا مشاكلهم؟) إن هذا التبسيط المغلف بحسن النية والمتدثر بثياب الأخوة الدينية ، في حقيقته ، ما هو إلا ضرب من ضروب الهروب عن الواقع المؤلم والخطر القائم وهو إن لم يكن ماثل عيناً ،فمتصور في العقل الباطني .
الثالث : الكتابات التي تستمد معظم معطياتها من الخيال الصرف أو تضيف إليها عمداً بعض( المشهيات ) ، كما نجد في كثير من اتجاهات الصحافة الغربية ، إذ يتعمد الكتاب والمراسلين - أو بعضهم على الأقل - إلى اختلاق و دس ( الغرائبيات )في مقالاتهم ، وذلك من أجل (تشويق) المادة حتى تجتذب ذائقة القارئ الغربي التي تسيطر عليها فكرتين مركزتين الأولى :(النزعة الإنسانية ) أي التعاطف مع أي إنسان يتعرض لانتهاك حقوقه والثانية :إمتاع الذهن أو تخليبه بغرائب ( مجاهل أفريقيا ) الموروثة منذ الكشوف الجغرافية ، ولو كانت مأساوية . ولا شك إن لهذه الكتابات جوانب إيجابية كثيرة منها جعل بؤرة الضمير العالمي حية ومتقدة وفي حالة انتباه دائم تجاه قضية دارفور، ولكن في المجمل تعبر عن إرادة مرجعيات فكرية وسياسية تخص أصحابها ، وليست كلها عطية لوجهة الله تعالى ومن أجل عيون أهل دارفور .
وربما شذت عن هذه الاتجاهات الثلاثة ، بعض الكتابات ذات البعد التحليلي مثل المقالات التي نشرها الدكتور( علي بحر الدين علي دينار) في موقع (سودنيز اون لاين) و(عصف فكري Brain Storming/) رائع لعبد العزيز عثمان سام كنت قد اطلعت عليه في الموقع عينه ، ولكن المحدد الرئيسي للمواد التي تنشر على الشبكة العنكبوتية - كالعادة -هو عدم إمكانية الاطلاع عليها إلا من قبل قطاع ضيق من القراء .
ومن الكتب المهمة التي صدرت عن قضية دارفور ذلك الكتاب الذي حرره كل من الدكتور عبد الغفار محمد أحمد والدكتور لايف مانقار تحت عنوان " دارفور إقليم العذاب :إشكالية الموقع وصراع الهويات " الصادر عام 2006م. وقد ذكرت الصحف بأن مؤلفة باسم (جولي فلينت ) قد شاركت في تأليف كتاب عن دارفور .. ومن المصادر المهمة أيضاً سلسلة المقالات التي كتبها الدكتور مصطفي عثمان إسماعيل في جريدة (الشرق الأوسط)تحت عنوان" كيف ترى الخرطوم أزمة دارفور؟" وإن كانت تعوزها التدقيق العلمي والتحري المنهجي والتحليل المعمق -كما هو بائن من المقاطع التي أوردناها -إلا أنها تفيد الباحث باعتبارها تعبر عن وجهة نظر الرسمية حيال أزمة دارفور .
ومن الكتب الجادة عن دار فور التي صدرت في السنوات الأخيرة كتاب الدكتور عبده مختار ، دارفور : من أزمة دولة إلى صراع القوى العظمى – الصادر عن مركز جزيرة للدراسات وكتاب الدكتور محمد حمداني " دارفور : منقذون وناجون : السياسة والحرب على الإرهاب " الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية .
ومن الظواهر الملفتة للنظر أن معظم الحركات قد حرصت على وضع مكاتب للبحوث والدراسات في هياكلها التنظيمية ؛إلا أنها عجزت تماماً عن مراكمة أية أدبيات فكرية أو إعمال تأطير نظري حقيقي لأطروحاتها وخطابها السياسي ،فقد أكتفت بنشر وثائقها الأساسية ، وتحركات قادتها ، وأخبار معاركها الحقيقية والوهمية ،وبياناته النارية ، وسنجد لاحقاً كيف أضرت حالة غياب (الماعون الفكري) بمواقف الحركات السياسية والتفاوضية .
وفي كل الأحوال ، فإن هذه الفذلكة المقتضبة بمثابة تلخيص محدود وليس مسحاً شاملاً ً للمداد الذي أريق في شأن قضية دارفور خلال السنوات الخمس الماضية ، وهو ما لا تسعه عشرات الأسفار ، وأملنا أن تصدر كتب أخرى تجمع تلك الشعث والأشتات، و تغطي النقص وتسد الثغرات وتضيف الجديد ، لأن الفائدة النهائية لتوثيق هذه القضية / المأساة ستكون عظيمة للأجيال القادمة على الأقل.
وفي ختام هذا المدخل التمهيدي أقول إن محاولة سرد "الرواية الكاملة " والحقيقية لقصة الحرب والسلام في دارفور قد يصدم الكثيرين من كلا المعسكرين المتقابلين ، لأننا نحاول - وفق المنهج الذي اختططناه - أن لا نحيد عن سرد الحقائق كما جرت دون تكييف أو تدليس ،ومن ثم تحليلها وتعليلها بصرف النظر عن النتيجة التي يقودنا إليها .
· محاولة تناص مع عنوان رواية فرانسيس دينق الشهيرة ( طائر الشؤم ) التي كنت قد كتبت عنها دراسة مطولة للتعقيب على البذاءات التي ألصقها على أهل دارفور تحت عنوان " طائر ديتق بين الشؤم واللؤم " وقد نشرت الدراسة في صحيفة " ألوان " السودانية " عام 1998 م تقريبا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.