قبل أكثر من خمسمائة عام كتب المفكر الإيطالي نيكولا ميكافيللي في كتابه الأمير بمبادئ لمعتقداته الفكرية عن منهج لواقعية سياسية تتلخص في القاعدة الأساسية الشهيرة أن الغايات النبيلة تبرر تسفل الوسائل، وقواعد أخرى تقول أنه من الأفضل للحاكم أن يخافه الناس على أن يحبوه ، وأنه من المفيد جدا أن يتظاهر المرء بمظهر الفضيلة وأنه لا ينبغي للإنسان أن يكون شريفا دائما فلابد من قدر من الخسة والدناءة السلوكية. ولا شك أن لهذه المفاهيم وجه من وجوه الصحة ونصيب من الواقعية العملية على الأقل في نظر معتنقي المذهب الميكافيللي لتبرير الضرورة لممارسات لاأخلاقية ما دام رائدها نبل المقاصد وسمو الأهداف وأن الاستراتيجية في منعطفات ظرفية تضطر المرء أحيانا أن يخلع ثوب الفضيلة ويسير عاريا من كل قيمة ونصب عينيه سموق الأهداف ونبل المقاصد واستشراف الفردوس المأمول لإحلال قيم الفضيلة لدولة العدل والسلام. على أرضية هذه المفاهيم سطر التاريخ أبشع الصفحات الدموية لأيام كان البطش والسجن والجلد والقهر فيها هو الوسيلة الناجعة لإقصاء الآخر وكان السيف المسلط هو سيد الموقف لحسم الخلاف وسحق الخصوم بصورة دموية موجعة حفلت بها أتعس لحظات التاريخ فيما قام به الألاف من جند عبيد الله بن زياد العائدون مهللين بنشوة الانتصار في كربلاء بمقتل سيد شهداء الحرية رضي الله عنه وأرضاه. استأنف البطش مسيرته مرة أخرى على يد هولاكو العرب الحجاج الثقفي فنشر الرعب وأطار الرقاب وتجرأ بقصف الكعبة المشرفة واستباح الحرمات لجنده في المدينةالمنورة حتى حملت سفاحا أكثر من ألف امرأة من حرائر المدينة، وتواصل التاريخ الأسود باهراق الدم اشد ضراوة وقسوة بابي العباس السفاح، كل هذا تم حين استطاع علماء البلاط السلطاني استحلاب المبدا الفقهي من بين النصوص الدينية أن ما لا يتم الواجب به فهو واجب، فجلد ونفي وسجن الخصوم واجب شرعي وإهدار الدماء واجب شرعي والتفرد بالسلطة لإبقاء شرع الله واجب شرعي. كان المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام وحيدا طريدا معدما يوم تواضع زعماء وأكابر قريش وعرضوا عليه الجاه والسلطان والمال والعزوة ليخفف من الثبات على موقفه . ولم تكن لتغيب عن فطنته عليه الصلاة والسلام أن في هذا العرض فرصة متاحة لاستراتيجية مرحلية تقوى بها شوكة الإسلام في هذا الظرف العصيب لكنه أراد أن يعلمنا من خلال رفضه القاطع لأي مداهنة أو نوايا مستترة أن نبل المبادئ تمتنع معه الوسائل الرخيصة والممارسات الدنيئة. لا أدري من اين جلب إسلاميو الإنقاذ رؤاهم الفقهية للتمكين السلطوي والمالي لدولة الشريعة رغم أن مبادئ الدين في العدل والحرية واضحة وقطعية؟ ماذا تبقى لوجه الدين من صفاء في الصباح وقد سطا الإنقاذ ليلا على الحرية فأهدر كبرياء الرجال وطمس عفاف النساء وأضاع كرامة الوطن وأشبع الشعب ذلا وخزيا ثم بطش بالخصوم سجنا وتشريدا ؟ ماذا تبقى في وجه رواد الإنقاذ من مزاعم يفحموا بها الناس بعد أن وطأوا تحت نعالهم في ركض القطعان الجامحة لتطبيق الشريعة كل القيم والمبادئ النبيلة لدين الله؟ إن كان شعاركم هي لله صادقا فقد خادعتم الله ، و إن كان كاذبا فقد بذرتم في النفوس الريبة بدين الله حتى لم يعد خافيا على الجميع أنكم حين ترفعون الاصبع السبابة في الوجوه مهللين ..... إنما تعنون الأصبع الوسطى.