((نصر هلال قمة القمم العربية))    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(وثيقة كمبالا ) .. (فجر جديد ) أم (كوكادام ) جديد!. (وجهة نظر تحليلية )

نحاول في هذا المقال قراءة "وثيقة الفجر الجديد " بالتوازي مع قراءة " وثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية "، فالأولى تكاد تكون نسخة (كربونية ) من الأخيرة، وذلك من خلال إجراء مقارنات ومقاربات تحليلية فيما بين الوثيقتين بهدوء وتؤدة.. وبعيدا عن التجني والافتئات .. ومن دون التهوين من قيمتها أو التهويل لمضمونها ، كما نرى في كثير من المداخلات التي اطلعنا عليها أو الأحاديث التي سمعناها خلال الأسابيع الماضية ، ففي كل الأحوال ، لا يعنيني تعليقات المتسرعين من المهللين واللاعنين معا، بقدر ما يسكنني هم التحليل العلمي لمثل هذه الوثائق علنا نفلح -في نهاية المطاف- في أن نمسك بالنظرية الداخلية للنص (الثيمة ) التي هي بُغيتنا .
فإذا عدنا إلى الوراء قليلا وانتشلنا بعض المماثلات التاريخية التي سعت فيها قوى (كرتونية ) ذات أدوار هزيلة نحو أخرى أكثر تأثيرا نجد أن المثال الماثل هو ما حدث عقب سقوط حكومة مايو عام 1985م حيث سعت قوى اليسار السوداني التي كانت تتجمع تحت يافطة ( قوى الانتفاضة ) سعيا محموما وحثيثا صوب "الحركة الشعبية لتحرير السودان " .حيث بذلت في سبيل ذلك الغالي والنفيس ، كذكر يسترضي أنثى نافرة ! ، - (كان يقود الرحلات المكوكية أستاذنا تيسير أحمد محمد على.فكم من المحاضرات ضاعت علينا لغيابه المتكرر في أديس أبابا! )- فكانت هذه القوى تتوهم بأنها تمتلك القدرة اللازمة لجلب الحركة الشعبية إلى حلبة الصراع السياسي وتسكينها في إحدى خانات اليسار - ربما انخداعا ب( المنفتسو ) الذي يعتمد الاشتراكية العلمية في الوقت الذي تحصل الحركة جل دعمها – المالي والسياسي - من المنظمات القائمة في العالم الرأسمالي والجمعيات الكنيسة - .. ولما كانت الحركة الشعبية تعلم يقينا بأن تأثير دور (قوى الانتفاضة) على ( التيار العام ) يسير جدا فقررت أن لا تعير تلك المحاولات المتزلفة كثير من الاهتمام الجاد ولكنها لم تشأ أن تخذل (حلفائها ) فوضعت توقيعها على ما عرف ب(اتفاق كوكادام ).. وبعد هنيهة انتقلت حمى السعي إلى القوى التقليدية فكانت (اتفاقية الميرغني –قرنق) و(لقاء الصادق –قرنق ) ..الخ.. ولما كان الهدف الأساسي ل(قوى الانتفاضة) والقوى التقليدية معا من وراء هذا السعي هو مناهضة قوى أخري منافسة لها في الفضاء السياسي .. ولما كانت تلك القوى ممثلة في (الجبهة الإسلامية القومية) تعلم أن المقصود من وراء كل هذا السعي المحموم هو تحجيم دورها بتكبير وتدعيم حلف الخصوم بالحركة الشعبية ؛ فقررت قطع الطريق على كل هذه المساعي وقامت بانقلاب 30 يونيو 1989 م . وتشرد وتفرق رفاق اليسار وأتباع القوى التقليدية أيدي سبأ .. فتوفرت لهم المزيد من الفرص والمبررات للهرولة والركض وراء حركة الشعبية التي (توجت ) بتأسيس (نادي أسمرا ) الذي عرف ب( التجمع الوطني الديمقراطي )بمقرراته المعروفة. فكان الوضع في هذا النادي مضحكا ، إذ ببدو كأنها مدرسة ابتدائية تتولى أمرها مديرة ذات سطوة (الحركة الشعبية ) تقوم بتجميع التلاميذ والمعلمين في الصف لتعطيهم الأوامر والتوجيهات وتحدد ما يجب فعله وما لا يمكن تجاوزه.. إلى حد أنها – أي الحركة الشعبية – كانت تعير لبعض أعضاء النادي ضباطا وتطلب منهم تشكيل قوات عسكرية ! - قد شكل استأذنا المذكور سابقا قوة مقاتلة بالتعاون مع عميد سابق بالجيش السوداني اسمه ( عبد العزيز خالد) عرفت ب( قوات التحالف الديمقراطي )!!-..
اتخذت الحركة الشعبية من هذا النادي مكانا لممارسة (اللهو السياسي) وإلهاء ( الصغار ) وطبطبتهم .. وأدارت أمورها الجادة من خلف الكواليس ببراعة سياسية تحسد عليها حتى انتهت بتوقيع اتفاق جدي – هذه المرة - مع غريمها الشمالي ( المؤتمر الوطني) وتركت بقية أعضاء النادي في ( السهلة ) يهيمون على وجوههم ولا يلوون على شيء .. واضطروا في نهاية المطاف اللحاق بالخرطوم.. وظلوا يغيرون جلودهم كالحية الرقطاء، مرة في حكومة (الوحدة الوطنية )! ومرة خارجها (متعشمين )بكنف الأخت الكبرى (الحركة الشعبية ) حتى خذلتهم للمرة الثانية وانفصلت بالجنوب وتركتهم في (النقعة ) ، فلملموا أطرافهم المتهرئة على عجل وعقدوا أمرهم تحت يافطة (قوى الإجماع الوطني).
الآن ، أخشى أن التاريخ آخذ في إعادة بعض مماثلاته حيث سعت "قوى الإجماع الوطني" سعيا حثيثا صوب " الجبهة الثورية السودانية " حتى ظفرت أخيرا ب"وثيقة الفجر الجديد " .. إنني لا أعيب هذا السعي، لأن السياسة في الأساس هي " فن الممكن " كما يقولون، فعلى هذه القوى كامل الحق في أن تسعى ما وسعها السعي لتحقيق مراميها الفكرية ومآربها السياسية..ولكن الذي نراه أن هذه القوى لم تحصد شيئنا من وراء هذا السعي ،إنما وضعت فقط توقيعاتها على وثيقة معدة سلفا أي أنها (بصمت) على وثيقة جاهزة دون أن تعكس الحد الأدنى من (بصماتها ) !، و أكثر من ذلك نجد أن بعضا من هذه القوى على الأقل قد وقعت على وثيقة تناقض النظرية الأساسية لأطروحاتها الفكرية أو المبرر الأخلاقي لوجودها كحزب سياسي . على كل حال نكرر القول بأننا لسنا في موضع تقييم مواقف الأطراف .. كل ما نرومه هو تحليل مضمون " الوثيقتين". من خلال البحث عن (النظرية الداخلية ) أو (روح النص).
المبادئ النظرية العامة الواردة في كلتا الوثيقتين يمكن القول بأنها أكثر من ( رائعة ) ولا أخال أن أحدا يرفضها وهي نصوص ظلت تتكرر بشكل راتب في جميع الاتفاقيات الموقعة من( نيفاشا ) إلى ( الدوحة ) مرورا ب(أبوجا) وأخواتها . ولكن ثمة هنالك مسائل خطيرة - من وجهة نظرنا- قد تمت معالجاتها بطريقة تخلو من روح المسئولية والجدية نتناولها فيما يلي :
الهوية
في ديباجة "وثيقة الفجر الجديد" تم تعريف السودان أو هويته بالصيغة التالية :" السودان دولة متعددة الثقافات والإثنيات والأديان واللغات تتأسس هويته على مكوناته الثقافية وأبعاده الجغرافية وإرثه الحضاري الممتد إلى سبعة ألف عام " .. يا سلام ، أي منذ عهد نوح عليه السلام ! هذه عبارة ليست فقط في غاية من الهلامية و التفكك؛ بل إن الذي صاغها شخص ( مستهبل )يريد الهزل في مكان الجد .. ففي " وثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية " وردت العبارة التالية " الاعتراف بالتعدد والتنوع العرقي والديني والثقافي واللغوي وتبني الهوية السوداناوية " .. ليت المرحوم البروفيسور أحمد الطيب زين العابدين على قيد الحياة ليوضح لهم ماذا كان يقصد بمفهوم (السوداناوية ) لأن كثيرا من الصياغات والسياقات الواردة في الوثيقتين تنسف القواعد الأساسية لمفهوم ( السوداناوية ) .
إذا الخلل الأساسي في هاتين الوثيقة - حسب زعمنا - يكمن في أنهما تحملان أفكارا متجاوزة ، وتتحدثان بلغة ما " قبل انفصال الجنوب " ،حيث بدا أن أحد أهم محاور انشغال في الوثيقتين هو مسألة " الهوية " التي تمت معالجتها بالطريقة التي كانت سائدة قبل الانشطار ، بمعنى أن الشأن الأساسي الذي أخذ يأرق الفاعلين ومناط انشغالهم عند إعداد الوثيقتين هو محاولة تركيب وفبركة هوية مزاجية خارج معادلة ( الدين + اللغة = الهوية ) في الوقت الذي لا يمكن لأي مبتدئ في ألف باء سياسة في أن يفكر ،مجرد التفكير ، في تأسيس هوية عابرة لهذه المعادلة في بلد مثل السودان ،ناهيك عن أناس من المفترض أنهم قد أصبحوا محنكين في فنون اللعبة السياسية وإلا عد فعلهم جنسا من فقدان الصواب إن لم يحسب ضربا من الجنون المطبق. وذلك لأن الهوية - في دولة مثل السودان - لا يمكن فهمها خارج إطار عنصري ( اللغة والدين) ، ولكن الوثيقتين قد تجرأتا قصدا وعمدا بإبعاد هذين العنصرين ، إن الأمر لا يحتاج إلى استشراف واستكشاف الإشارات والإسقاطات (المحشورة ) و (المدسوسة ) فيما بين البنود الوثيقتين حتى يتمكن المرء من القبض على القيم الإيديولوجية التي حاول الفاعلون عكسها على خطاب الوثيقتين وإنما تبدو تلك الإسقاطات بينة وجلية إلى حد يمكن أن يكتشفها أي قارئ مهما كانت ضالة وضحالة ثقافته .
إن من الغباء السياسي الإنصات والإصغاء للأصوات المتشنجة والمتطرفة وعكس أطروحاتهم على الوثائق المركزية ، لقد قرأت قبل شهور لأحدهم يقول :" على العرب أن يعودوا بمدونتهم ( أي القرآن الكريم ) إلى غربي آسيا .."!! مثل هذه التشنجات لا يفيد السياسي حتى أن وجدت هوى في نفسه .
رغم التزامي في مفتتح المقال بعدم التعليق على مداخلات المعلقين على "وثيقة الفجر الجديد" إلا أن تعليقا واحدا لفت نظري وأرغمني على (تعليق ) التزامي خاصة لأنه صادر من (مؤسسة ) أسمها ( مركز السودان المعاصر )،رغم أنني أجهل تماما كنه هذا المركز ، ولكن يمكن قطع الشك باليقين ومن خلال هذا التعليق السريع الذي صدر من أنه ليس مركزا أكاديميا للأبحاث والدراسات المعمقة وإنما هي شعبة ملحقة بإحدى الجهات السياسية وقد طفح تعليق بالحد الأقصى من التطرف والتشنج ، إن كثيرا من مثل هذه البيانات الفجة تصدر وليس لمصدرها إي هدف أو غرض سوى الخروج عن طبائع الأشياء والعبث وإثارة النقع وأحيانا يكون ذلك وفاءً لمطلوبات جهات التمويل. المركز يرفض حتى التعريف الوارد في الوثيقة ويعتبره " معتدلا أكثر من اللازم "! ويقول "السودان دولة إفريقية وليست في أوربا أو أسيا ؛ وهويتها الإفريقية الوطنية تستمدها من الهوية الثقافية لسكانه من الأمم الزنجية بغالبيتهم وقوة عناصر هويتهم . والهوية أمر غير قابل للاصطناع والتبديل والمجاملات بالاتجاه التي تريدها النخبة المتعلمة تعليما أوربيا وأسيويا . لقد تقدمت الورقة على جعل مسألة الهوية أولية فيها ؛ إلا أنها قدمت تعريفا ضبابيا لماهية الهوية ؛ ووضعت تعريفا مشوشا لمفهومها عن الهوية " .
من الواضح أن كاتب المركز خالي الذهن تماما من منهجية تصنيف الأعراق البشرية و بائن ذلك من سيولة استخدامه لمفهوم "الأمم الزنجية " فقد حاولت الوثيقتان استيعاب مثل هذه الأصوات العابثة وانزلقتا أيضا إلى جادة التطرف والتشنج .
فصل الدين عن الدولة
في مناسبة ما ذكر لي أحد الأشخاص بأنه كان يعمل مستشارا لأحد قادة الحركات في دارفور ، يقول – والحديث له- أنه قدم نصيحة لرئيس الحركة مفادها أن يقلل من الحديث في موضوعة ( فصل الدين عن الدولة ) رغم اتفاقي معه -والكلام للراوي - بنسبة مائة بالمائة من وجهة نظر الفكرية .. ولكن كنت ما أخشاه هو أن القناعات الفكرية الفردية في حاجة إلى بيئة مهيأة وأرضية رحبة لاستيعابها و إلا نضطر إلى فرضها من عل قهرا وقسرا .وبذلك نجعل من المصيبة مصيبتين .
إن للفرد مطلق الحرية فيما يعتقد ، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر – أو هكذا يؤمن كاتب هذه السطور- ولكن ليس من حق من آمن أو كفر أن يفرض هذا السلوك الفردي على الجموع المؤمنين أو الكفار ، فمثلا بعض الناس يتطير من سماع الآذان ويتأذى سيكولوجيا من صيحة (الله أكبر)! هذا سلوك فردي ، فلا يمكن عكسها في وثائق مركزية مثل التي نحن بصددها . حيث نرى أن معدي الوثيقتين قد اسقطوا قناعاتهم الذاتية فيما يتعلق بموضوعة (الدين)من دون النظر إلى البيئة الحضارية والثقافية الكلية التي يعيش فيها الشعب الذي يتحدثون باسمه .
جاء في البند رقم 3 من "وثيقة الفجر الجديد " فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال (وردت في الوثيقة " استقلال "!) وفي البند رقم 6 من باب المبادئ والأهداف والوسائل في "وثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية" ورد ذات النص حتى مع الخطأ اللغوي ! ... ففي البند رقم (12 ) من وثيقة الفجر الجديد وردت عبارة " تعترف الدولة وتحترم تعدد الأديان والمعتقدات والأعراف وتلزم نفسها بالعمل على تحقيق التعايش والتفاعل السلمي والمساواة والتسامح بين معتنقي الأديان والمعتقدات وتسمح بحرية الدعوة السلمية للأديان وتمنع الإكراه وإثارة والنعرات الدينية .. "
ما هو المقصود ب(الفصل )؟ وكيف يتم الفصل ؟ هل يعني مثلا إلغاء وزارة الشئون الدينية وهيئة الأوقاف وديوان الزكاة ولجنة الحج .. وإغلاق الجامعة الإسلامية والقران الكريم..وشطب كل مؤسسة لها علاقة بالدين ونقل ملكيتها إلى الجمعيات الخيرية والمنظمات الأهلية كما هو الحال في فرنسا والسويد ؟!.. أم أنهم عملوا بنصيحة المستشار إياه بأن لا يرد النص كما يرومونه (فصل الدين عن الدولة ) صراحة واتوا بهذه الجملة الفضفاضة لأغراض التمويه والتدليس. إن الوثيقتين تعكسان قناعات فئة ( أبناء قرنق ) ، السابقين واللاحقين ، أرادوا تذكيرنا بمقولة الراحل جون قرنق أن "لدولة ما عندها دين ولا يمكنها أن تذهب إلى الجامع أو تحج إلى بيت الله الحرام " !! عدد لا بأس به من الموقعين يعتبروا الراحل مثلهم الأعلى ومعلمهم الأكبر في مدرسة العلمانية.. لا غضاضة ومن حقهم الإيمان بذلك ولكن لا يمكنهم تعميم هذه القاعدة على الجميع ، خاصة بعد انفصال الجنوب حيث من العسير أن تجد مثل هذه الدعوات أرضية مرحبة أو آذانا صاغية لعدم وجود (تيار عام ) داعم لها ، بل قد تجلب النفور إلى القطاعات الشعبية المؤيدة لهذه الجماعات المعارضة ، إذا لماذا يصر الموقعون على أشياء تجلب لهم النفور ؟ نعم ، مثل هذا الطرح كان مفهوما عندما كان السودان بلدا واحدا ( شمال مسلم وجنوب مسيحي ) أما الآن ما المسوغ من الإصرار على هذا (الفصل)؟ وما المصلحة ؟ وما المقصود ب(التنوع الديني ) ؟.
التنوع الديني
وردت في (وثيقة الفجر الجديد )"تعترف الدولة وتحترم تعدد الأديان والمعتقدات والأعراف وتلزم نفسها بالعمل على تحقيق التعايش والتفاعل السلمي والمساواة والتسامح بين معتنقي الأديان والمعتقدات وتسمح بحرية الدعوة السلمية للأديان وتمنع الإكراه وإثارة النعرات الدينية... "
وجاءت أيضا في نفس الوثيقة "... تشكل الخطاب العام المعبر عن هوية السودان بتعدد أديانه وثقافاته وإثنياته " وثمة نصوص مماثلة في الوثيقة الثانية كلها تبحث عن مشكلة غير قائمة !، لأنه بعد انفصال الجنوب بالسكانة الرئيسية من المسيحيين والأرواحيين يمكن القول أنه قد بقي في السودان الشمالي حوالي ألفي مسيحي من قبيلة (الأُدوق) في أقصى جنوب النيل الأزرق و يمكن القول بأن حوالي 10% من شعب جبال النوبة يدينون بالعيسوية ، ونفترض وجود عشرة آلاف قبطي في الخرطوم وبعض المدن الرئيسية ، أي أن مجموع المسيحيين في السودان الحالي أقل من 0,1% من جملة السكان بمعنى أدق أن 99,99% من الشعب السوداني يدين بالإسلام وبذلك يمكن القول –بضمير مستريح – بأن السودان من أكثر دول العالم انسجاما من الناحية الدينية .. إذا ماذا تعنون ب"التنوع الديني" ؟ ردوا ، بدون اللف أو الدوران ! .
في إصرار عجيب حذف بالكامل ( الدين الإسلامي واللغة العربية ) في وثيقتين مكتوبتين باللغة العربية كما أن أكثر من نصف الموقعين وقعوا أسمائهم باللغة العربية ! - مثل هذه الإشارات تبدو بسيطة ولكنها تعني الكثير - من بين الموقعين من هو شاعر (فحل) يقرض الشعر العربي الموزون المقفى -
إن الاستهانة بحجم الاستعراب في دار فور أو عدم الوعي بهذه السيرورة التاريخية والجهل بطبيعة التطور الحضاري للأقاليم السودانية هي التي جلبت إلينا المأساة الحالية (لقد كررت هذه البديهية إلى حد الملل دون أن يصغي إليّ أحد )، إنني لست من يجيب هل الاستعراب سيء أم جيد ؟ ولكن (السيئ) الذي أعلمه هو أن نقفز ب(الزانة) على حالة حضارية ماثلة عميقة الجذور وشديدة التركيب والتعقيد بوثائق (تطبخ ) هكذا من حفنة من الناس أطلقوا على أنفسهم ( القوى الحية ) وجعلوا من الآخرين (أمواتا ) ولم يدروا أن الاستفزاز يوقظ النيام ويحي الموتى وعندها سيهوي (القافز) إلى بئر سحيق لا قرار له .. إن رسالة "وثيقة الفجر الجديد " وأختها الكبرى " وثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية " هي بالضبط فرض على السودانيين علمانية قحة يعشقها بعض الأفراد- وليس الجماعات حتى - دون أن يسألوا أنفسهم هل البيئة الفكرية والثقافية الاجتماعية الكلية مهيأة لاستيعاب مثل هذه الأطروحة العلمانية المتطرفة ؟ للأسف أن محاولة فرض ( اللائكية ) بهذا الشكل الصارم سوف تصطدم ب ( التطرف الديني) الذي هو شر مطلق أيضا ، وترتفع معدلات التشاحن وتراق وتهرق أنهار من الدماء .. أذن أين المصلحة في أن نخرج المارد من قمقمه ونفتح أبواب جهنم جديدة تنتهي بالبلد إلى المسخ والتشويه وتفضي إلى المزيد من الإنشطارت والتقسيمات ؟.
كان حريا على معدي الوثيقتين قراءة البيئة المحيطة في فضاءات التغيير من تونس إلى ليبيا فمصر حيث (الإسلامي السياسي الوسطي ) هو سيد الموقف – للأسف أن جماعة كمبالا تنفي وجود أي انعكاسات من تلك الفضاءات على السودان ويعود ذلك إلى عدم الاستعداد النفسي للإقرار بحقائق هي بضد من التوجه الفكري للفاعلين فكان من الأجدر على هؤلاء السياسيين التدرب والمران على التوليف ما بين المطلوبات السياسية والموجبات الحضارية عوض النفي ودفن الرؤوس في الرمال وإصدار هذه الوثائق الغرائبية على طريقة "من لا يعجبه فليشرب من البحر" .
هنالك طريق وسط اسمها (الدولة المدينة) يمكن أن يسلكها الجميع دون حاجة إلى اعتلاء ظهر حصان طروادة اسمه ( فصل الدين عن الدولة ) .. أنظروا إلى هذه الدول التي ثارت ( تونس ليبيا مصر ) حيث أجبرت قوى الإسلام السياسي بأن تفيء إلى ظلال شجرة الدولة المدنية التي تستظل بها الجميع رغم أن تلك القوى تملك حصة الأسد في كعكة السلطة الجديدة . إن الاستقرار التي تنشدها الوثيقة بعد سقوط النظام .. لا يمكن إدراكه إلا بإرضاء الجميع وكف عن السلوك الإقصائي بالحديث عن قوى وهمية اسمها (القوى الحية ).
التنوع الثقافي
من فرط انشغال الوثيقتين بهذه الموضوعة لا يخلو أي باب فيهما من ورود عبارة " التنوع الثقافي "
في ديباجة الهيكلة " الفشل الذريع في إدارة التنوع في البلاد بفرض أحادية ثقافية وسياسية.."
في ديباجة الفجر " .. فرض أحادية سياسية وثقافية في بلادنا وهي الوطن الصنو للتعدد والتنوع "
"الأحادية السياسية " نعم مفهومة ، ولكن ما المقصود ب( الأحادية الثقافية ) هل هي سيادة ( الثقافة العربية الإسلامية) ولكن هذا فيضان ناجم عن (الفعل الحضاري ) وليست مؤامرة دبرت ليلا من طرف زيد أو عبيد .. فما هو البديل "الصنو" لها ؟ لماذا يستسهل الفاعلون مثل هذه المسائل المركبة بهذه الجمل الجوفاء ؟
إن الاستهانة بمثل هذه المسائل الحضارية الراكزة وتبسيطها إلى هذا الحد والحديث كأننا في دولة مثل سويسرا لا يصدر إلا من شخص دغمائي ضيق الأفق هزيل المعرفة بالبنية النفسية والثقافية المركبة للكتلة التاريخية لأي بلد .. لابد أن يكون لكل مشروع قاعدة جماهيرية مساندة مع توفر الأدوات والوسائل..أما في ظل غياب ذلك فمهما دعينا لمشروع التعدد والتنوع سنظل عاجزين عن التجاوز وفاقدين القدرة على (التخريم ) لبناء مقابل ( الصنو).. وإذا لجئنا إلى الافتعال والتجريب فلن نحصد إلا الخراب .
اللغة
ينص البند رقم 15 من" وثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية "على: " تعتبر جميع اللغات السودانية لغات رسمية بنص الدستور وتقوم الدولة بتمنيتها وتطويرها "... عبارة يشي منها عدم الجدية والميل إلى الاستهبال ليبدو كأن الأمر ليس حرصا على اللغات التي لا يعلم عددها إلا الله أنما بغضا إيديولوجيا للغة السائدة ، و التي هي لغة التخاطب حتى في (جوبا ) و ( انجمينا ) ! لأن اللغة كيان حضاري يتوسع أفقيا حتى من بدون إجراءات قصدية ، إذن ما كان يضيرهم أذا نصوا مثلا" تعتبر العربية اللغة الرسمية للدولة مع اهتمام الدولة بتطوير اللغات المحلية" حتى يعطوا النص قليلا من روح الجدية .. وقد( اختفى) النص من " وثيقة الفجر الجديد " من دون النص على البديل له مما يدل على أنها (حيلة) مؤقتة لرفع الحرج عن الملتحقين الجدد.
اللغات السودانية جديرة بأن تكون موضوعة (subject matter ) لأقسام اللغويات في المعاهد والجامعات وحقل دارسي لطلاب الفلكلور والتراث ؛ أما أن تكون جميعها لغة رسمية فلا أستطيع أن أتخيل أن عاقلا يتمسك بمثل هذه الأطروحة الهوائية..لم ير البرازيليون بُدا من اتخاذ البرتغالية لغة لهم ولا المكسيكيون مفرا من الاسبانية حتى الهند ( بحالها) لم تجد مخرجا إلا في الإنجليزية نسبة كثرة اللغات فيها ، وهي لغات مكتملة النمو وذات أبجديات ، وليس مثل لغاتنا الخالية من أي خط أو رسم ، إن نفي القائم من دون ابتداع البدائل يعد ضربا من ضروب السفسطة والعناد والمكابرة .
لماذا نفي العربية التي كانت لغة الدواوين في سلطنات مالي وكانم و دار فور وسنار وهرر .. الخ في الوقت الذي تدعون للعودة إلى الهيروغليفية والديموطيقة والمروية(لم تفك رموزها حتى الآن) وإلا ما المقصود ب"الحضارة الممتدة لسبعة آلاف عام)؟! إن الذوبان بالفيضان الحضاري قدر ، لا حيلة لأحد أن (يزوغ) منه بمثل هذه الأطروحات الفائضة واللاهية .
التعليم
التعليم متدهور، هذا صحيح، أو بنص الوثيقتين "بما أن التعليم قد تم تخريبه تماما بكل مراحله في ظل سياسات حكومة المؤتمر الوطني " .. ولكن الوسائل التي تقترحها الوثيقتان سوف تزيده تدهورا على تدهوره الحالي.
في الوثيقة الأولى " يتم تصميم التعليم لاستيفاء شروط الواقع السوداني المتعدد والمتنوع ثقافيا ولغويا ودينيا " و" اعتماد سياسة تعليمية تعكس التعدد والتنوع الثقافي في البلاد " وفي الوثيقة الثانية "ديمقراطية التعليم بتوفير الخيارات في اللغة والمناهج والوسائل " هذا (مصمم ) هذه العبارات شخص ( لخباط) يريد أن "يلخبط" التعليم وليس انتشاله من هوة التخريب التي هوي إليها في (ظل سياسات حكومة المؤتمر الوطني).
"إقرار حرية التعليم المختلط مع وضع الضوابط " أجل ( وضع الضوابط)! بغرض تخفيف الوقع على عبارة "تعليم مختلط ".. أنني لست ضد التعليم المختلط ولكن لماذا استفزاز الطبقات المحافظة ابتداء بكل هذه الجرأة وما المبرر من " التعليم المختلط "هل هو تربوي أم اقتصادي؟... ولماذا لا ينظر إلى البنية الثقافية / الاجتماعية قبل المبررات التربوية والاقتصادية العامة وإعفاء أنفسهم تبعات الريب والشكوك و من ثم النفور والرفض.
"إعادة نظام الداخليات للمدارس الثانوية والقبول القومي من أجل تعزيز التمازج الوطني "
أعلم أن مثل هذه المقترحات لهي من اللغو الفائض ولكن هذه فكرة تناقض النظرية الداخلية للوثيقين الدافعة نحو ( التمايز) وليس (التمازج ) .أما "الرجوع إلى نظام السكن الداخلي في المناطق الريفية " أنها مفكرة رائعة ولكنها –للأسف - للاستهلاك فقط فهم لا طاقة لهم ولا جدارة تؤهلهم لتنفيذ مثل هذه الأفكار .
التقسيم الإداري
تقترح كلتا الوثيقتين نظاما إداريا يقوم على ثمانية أقاليم "اعتماد نظام فدرالي قائم على ثمانية أقاليم هي :الخرطوم والشرقي ودارفور وكردفان وجنوب كردفان/ جبال النوبة النيل الأزرق والشمالي والأوسط " بهذا قد تم إلغاء أقاليم وخلق أخرى جديدة ولكن حسب هوى " الجبهة الثورية السودانية " ولا أدري من الذي يعتمد وما هي آلية "الاعتماد " أهي ( المشورة الشعبية ) أم الفرض من عل .. فمن الواضح أن خلق الإقليمين الجديدين (النيل الأزرق) و(جبال النوبة) قد جاء ليكون بمثابة مكافأة لزعيم الجبهة (عقار) وهدية لجنرال (الحلو) ولكن المشكلة في خلط المفاهيم والمصطلحات فمثلا (النيل الأزرق) كحقيقة جغرافية النيل الأزرق ( برئ ) منه لأن المقصود دائما ما يلي الدمازين جنوبا حيث يصعد النيل شرقا ولإزالة هذا الالتباس قد اعتاد الناس على استخدام مصطلح (جنوب النيل الأزرق ) ولكن الوثيقتان تصران على استخدام مصطلح (النيل الأزرق ) دون إضافة (جنوب) . إن عدم المبدئية والتخبط في استخدام المصطلحات يتجلى أكثر في الحالة الثانية أي عندما جاء الدور على( جنوب كردفان ) حيث اضطروا إلى استخدام التسمية المزدوجة ( جنوب كردفان / جبال النوبة) أحسموا أمركم لا يمكن لإقليم واحد أن يحمل اسمين وهل يدخل غرب كردفان ضمن النطاق الجغرافي لهذه التسمية أم لا؟ وكيف تقنعون أو تسترضون ساكنة ذلك الجزء من كردفان بالتقسيم والتسمية معا ؟
التضخم الدستوري
التضخم الدستوري في السودان مشكلة حقيقية .. مرة في ندوة عن (التضخم الاقتصادي ) طلبت مديرة الجلسة إرسال الأسئلة والاستفسارات والتعليقات مكتوبة ، فأرسلت ورقة كتبت عليها " التضخم النقدي سببه التضخم الدستوري" ! ففزعت رئيسة الجلسة وقفزت من مكانها وقالت: من هذا الذي أراد أن ينصب لي شركا ؟ قالتها بالإنجليزية (it is a trap ) . منذ ذلك وحتى هذه اللحظة يقيني أن " التضخم الدستوري " مشكلة عويصة ، الشكر موصول لمعدي الوثيقتين على تطرقهم لهذا الموضوع "الصرف المتضخم على الأجهزة الأمنية والسيادية " و " المؤسسات السياسية المتضخمة التي تبتلع ما يقارب 70% من الميزانية الحالية " و"تقليص أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية " هذا كلام جيد غير أنه يصطدم بسلوك الجبهة الفعلي حيث تقوم هيكليتها على سمت متضخم جدا ، أي رئيس بخمسة نواب ، هذه الصيغة الغريبة تعكس الإرادات المتناقضة لمكونات "الجبهة الثورية السودانية " .لدي اعتقاد جازم بأن هذه ( الغَرَابة) ناجمة عن أن أحدا من هؤلاء النواب لا يريد أن يكون أقل عن رصيفه ،أي الإصرار على عدم التنازل عن الندية هو الذي أفضى إلى هذا التركيب العجيب ، وبدون أدنى شك سوف تنعكس مثل هذه المشاكسات في هيكلية الدولة التي يرومون إقامتها . كما أن اقتراح الوثيقتين بأن يكون للرئيس تسعة نواب هم "حكام الأقاليم زائدا امرأة على الأقل " بدل أثنين الآن (يعتبر أحدهما فائضا )! سيبقي على التضخم الدستوري إن لم يزداد تفاقما لأن كل حاكم إقليم (نائب الريس ) يضطر إلى إقامة مكتب بيروقراطي ضخم في الخرطوم لإدارة مهام (نائب الرئيس )..حتى التجارب القريبة في الاتفاقيات الجزئية مثل (أبوجا ) و(الدوحة) يشتكي كثير من الناس بأن موارد المالية القليلة التي خصصت ل(إعادة الإعمار) قد التهمتها هياكل إدارية مترهلة أقامت الحركات الموقعة ، أي أن عقلية هذه الجماعات ليست بعيدة عن ذهنية الحكومة الحالية في هذه الموضوعة .
" حق تقرير المصير"
في البند (7) من باب المبادئ والأهداف والوسائل في " وثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية "
" إقرار مبدأ الوحدة الطوعية لجميع أقاليم السودان " واعتقد أنه نص مهذب لمبدأ (حق تقرير المصير ) .. إنني لست ضد هذا المبدأ وكان من الأجدى النص عليه صراحة وهو أقل وقعا في النفوس والعقول من تجريد الهوية السودانية بعدم ذكر الدين واللغة "
الفترة الانتقالية
الفترة الانتقالية ستة سنوات ( هكذا وردت في "وثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية") في البند رقم (1) من باب ترتيبات ومهام الفترة الانتقالية .. ولكنها قصرت قليلا وصححت لغويا في (وثيقة الفجر الجديد) فجاءت على صيغة " تمتد الفترة الانتقالية لمدة أربع سنوات "(راجع البند (2) من باب ثانيا (ترتيبات ومهام الفترة الانتقالية ).
فمن الواضح أن هذه ليست فترة انتقالية وإنما هي دورة حكم كاملة، لأن العرف المتبع في السودان وفي غيره يجب أن لا تزيد الفترة الانتقالية عن عام أو عامين كحد أقصى.. إن بدعة ست سنوات التي نصت عليها اتفاقية ( نيفاشا ) كانت نتيجة لغباء المفاوض الحكومي لأنه اعتقد أن طول الفترة الانتقالية يعينه على ترتيب الأوضاع لدرء الانفصال .. فأتت النتائج بالضد تماما .. إن تطويل الفترة الانتقالية يعكس "النزعة الاستبدادية " التي تستبد بهذه الجماعات.. فالقاعدة تقول كلما طالت الفترة الانتقالية كلما حاول من هم في سدة الحكم التشبث بمغانمه ما يترتب على ذلك من نتائج عكسية وسلبية.
أجل ، هنالك يقين بأمارات انهيار السلطة الحالية فهو أمر لا تتناطح حوله العنزتان ، ولكن يجب أن لا يدفع ذلك جماعات المعارضة صوب الاستئثار بتطويل الفترة الانتقالية .
النضال السلمي ومصير الأجهزة الحالية
جاء في" وثيقة الفجر الجديد" :".. إسقاط النظام بوسائل مختلفة وعلى رأسها النضال السلمي المدني الديمقراطي والكفاح الثوري المسلح وقد أجمعت على هذه الوثيقة كرؤية سياسية هادية ومرشدة لمنع الانزلاق نحو الفوضى والانهيار بالتراضي مع احتفاظ كل قوة بوسائل "
تحمل العبارة كثيرا من الأضداد .." مع احتفاظ كل قوة بوسائلها " هنا مربط الفرس وبيت القصيد وأحد أهم موجبات الانزلاق إلى الفوضى لأن السيطرة على هذه التشكيلات القتالية ( المليشاوية ) ستكون عسيرة جدا ، إذا لم تتخذ إجراءات فورية لاستيعابها في إطار مؤسسي عام .فقد أعطت كلتا الوثيقتين " النضال السلمي المدني" الأولوية ل وهو ما كنا نطالب به منذ سنين و قد تعرضنا في سبيله للأذى والسباب من بعض منتسبين لهم . في البند 1 من باب الوسائل في الوثيقة الثانية "المزاوجة بين النضال الجماهيري السلمي والمسلح لتحقيق أهداف الثورة بأقل التكاليف وأقصر وقت ممكن " ولكن الخبرة التي تراكمت خلال السنوات الماضية تؤكد أن هناك تنافر بين الاثنين كلما اشتد العمل العسكري خبا النضال المدني والعكس صحيح ، فعليه كان من الأجدر حذف كلمة (المسلح ) من هذه العبارة .
وردت في وثيقة الفجر الجديد: "حل جهاز الأمن الوطني والمخابرات العامة (...) وحل الدفاع الشعبي وجميع القوات والمليشيات (... )اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستعادة قومية القوات المسلحة وإعادة صياغة عقيدتها العسكرية ..." وفي " وثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية ": " إعادة هيكلة الخدمة المدنية والقوات النظامية بما يعكس التعدد والتنوع الإثني في البلاد مع الاتفاق حول العقيدة القتالية للجيش ..."
أنا لا أعرف الطبيعة التكوينية ل" جهاز الأمن الوطني والمخابرات العامة" في السودان ولكن الذي أراه في مصر بعد الثورة مثلا أنهم حلوا (جهاز أمن الدولة ) واعتقلوا قادته ولم يلمسوا (جهاز المخابرات العامة ) باستثناء إقالة مديره الذي كان بمرتبة وزير مركزي.. للسودان طويل تاريخ من أجهزة أمن سيئة الصيت سامت كثيرين سوء العذاب ، ولكن الحل بجرة قلم إذا لم يكن هنالك بديل جاهز وفوري سوف ندفع أثمانا باهظة فلذلك يمكن الإبقاء على ( الشُعب )المتخصصة للأمن الخارجي مثلا .
"إعادة هيكلة " الجيش فكرة جيدة ، كما أن حل الدفاع الشعبي ممكن لأنه كيان شبه مؤطر ولكن كيف تحلون المليشيات؟ مثل مليشيا ( الجنجويد )التي طردتكم من دارفور إلى كردفان وميلشيا (المراحيل) التي تولت مهمة طردكم من كردفان إلى جنوب السودان ..الآن مليشيا ( الجنجويد ) تحكم دارفور بشكل فعلي فقط تنتظر سقوط السلطة في الخرطوم لتعلن ذلك .
"كمبالا "غربة المكان!
في الأيام الأولى من ال(أمكواك )! في دارفور سيطرت على ذهني فكرة ذات طابع إنساني ألا وهي: أين يتم علاج جرحى العمليات؟ ( البعض يعتقد بأنني عاطفي أكثر من اللازم! ) وبعد مشاهدتي -عبر التلفاز- مجموعة من الجرحى في أحد الخيام تلفحهم رياح الصحراء العاتية أسرعت إلى الاتصال بأحد الأشخاص ممن لديهم قنوات اتصال بقادة الحركات وسألته أين يتم إخلاء الجرحى ؟ فرد علي بالإنجليزية there is an air evacuation to Kampala"!"
(وأذكر أنني حكيت له قصة طريفة رواها لنا أستاذنا محمد بشير حامد نقلا عن المرحوم أحمد خير المحامي الذي كان وزيرا للخارجية أيام الفريق عبود حول طلب السفير الأمريكي بالخرطوم السماح لطائراتهم القادمة من قاعدة هوليس في ليبيا للعبور إلى الكنغو ) دون سرد تفاصيل تلك الطرفة فإن العبرة تكمن في الاستهانة بظلال مكان الفعل ، فيوغندا جمهورية في أواسط أفريقيا يحكمها -بالحديد والنار - منذ ثلاثين عاما كهل دكتاتوري يمثل نموذجا للحاكم المتسلط .. وقد عبثت - أي يوغندا - بأمن جيرانها من رواندا إلى البوروندي فالكنغو الديمقراطية حتى أن الأمم المتحدة أصدرت تقريرا قبل شهور تقول فيه أن يوغندا هي مصدر كثير من الاضطرابات والعذابات في منطقة وسط أفريقيا ، ولما كانت يوغندا تملك بعض الأوراق فقد ابتزت وأسكتت هيئة الأمم بتهديد سحب قواتها من الصومال !. وقد بدت في السنوات الأخيرة كأنها (المحرض الرئيس ) في موضوع مياه النيل والإلحاق الأذى بما يسمى ب(دولتي المصب ).. وهناك (أقاويل ) كثيرة بأنها قد تآمرت في التخلص من الراحل جون قرنق خشية أن يعيق وجوده (خطة الانفصال ) التي ترعاها منذ أمد بعيد ، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تنشط فيها جماعة مسيحية متطرفة تقاتل من أجل ( الوصايا العشر) باسم "جيش الرب" .. إذا كان بعض القيادات تجد نفسها في هذا الفضاء، فذلك شأنها، ولكن الممارسة السياسية الحكيمة تقتضي مراعاة محاذير و موجبات مواقيت الزمان والمكان. لأن البيئة المكانية التي تم فيه التوقيع على الوثيقة لم تكن مواتية أبدا.
من قبيل الطمأنة
في ختام الوثيقة حاولت الجبهة تقديم بعض (التطمينات) للمتوجسين من مآلات الأمور ، تقول فيها "تؤكد الجبهة الثورية السودانية أنها ستعلن وقف إطلاق فوري وشامل بمجرد إسقاط النظام "ولكن العبارة السابقة " مع احتفاظ كل قوة بوسائلها" تنسف هذا التأكيد لأن وقف إطلاق النار وحده غير كاف من دون حل التشكيلات القتالية ودمجها في الجيش القومي مع برنامج إعادة الهيكلة .
أشتات الموقعين !
قد يقول قائل أن من بين الموقعين كيانات كبيرة مثل المؤتمر الشعبي وحزب الأمة ( أو بعض أجنحته أو حتى العدل والمساواة التي لم تعرف لها النزعة العلمانية الحادة ، أقول أنهم قد وقعوا " مضض " نكاية بعدوهم الرئيس (المؤتمر الوطني ) وليست قناعة في أنفسهم بأن هذه الوثيقة منتجة سياسيا وفكريا أما بقية (الكومبارس ) فهي أشتات تفتقر إلى القاعدة الشعبية العريضة أو البنية الفكرية القوية .. ودافعها الأساسي من الهرولة للتوقيع على مثل هذه الوثائق والمدونات هو النزعة العلمانية المتطرفة التي تتقمصهم .. هذه الكيانات المجهرية تعرف أنها لن يكون لها أي دور حتى بعد التغيير أي " لن يشموها " على طريقة الفاضلة فاطمة أحمد إبراهيم !.
بتفحص أسماء الكيانات الموقعة نجد أن عددا لا بأس به من هذه القوى لم يسمع بها أحد فهم مجرد أفراد، ومن المفارقات المضحكة أن أربعة أجنحة من ( حزب البعث العربي (!) الاشتراكي )قد وقعت على الوثيقة.
الخلاصة
من الخطأ ، في مثل هذه المواثيق المركزية ، أن نصر علي التميز أو المحافظة على التنوع عن طريق إعمال الإرادات بطريقة اصطناعية ، وإنما الصواب أن يُترك الأمر لقانون الانتخاب الطبيعي الذي يعمل على محو القيم القطاعية وفتح المسار إلى التناغم والانسجام القومي لأن أشراط التايمز القومي بالطريقة التي تطرحها الوثيقتان غير متوفرة في الجماعات السودانية بعد انفصال الجنوب الذي كان يعكس مجال التمايز الأساسي ..
وقد كتبنا سابقا قائلين: "كان التكوين النخبوي السوداني في السابق ينشطر إلى (يساري) و(إسلامي ) بشكل عام ، وعندما همدت جذوة اليسار مال جزء كبير من منتسبيه صوب ( الأفريقانية ) واستحسنوا فكرة (السودان الجديد) التي كانت تعني انقلابا حضاريا كاملا ، وبانفصال الجنوب وطي صفحة ذلك المشروع حدث التباس واضطراب فكري- الذي بالضرورة يقود إلى اضطراب سياسي – لكثير من هذه القيادات التي تشعر ب( النفور) وعسر التكيف مع طغيان حضور الثقافة (العربية - الإسلامية ) ..فوجدت ضالتها في التمايزات الثقافية النسبية في الأطراف ، التي قد تكون أقوى من الرابطة الدينية أحيانا"
إذن ، الفكرة النهائية التي أرادت الوثيقتان أن تبلغنا إياها هي تحقيق مشروع " السودان الجديد " ولكن السؤال لماذا الإصرار على "السودان الجديد" ألا يكفينا " السودان الكويس " (!) بتعبير الدكتور عبد الله علي إبراهيم لأن " السودان الجديد " كمشروع قد فقد مشروعيته بعد انفصال الجنوب. بالجملة أن الوثيقتان تضعان العربة أمام الحصان !.
من باب الحذلقة !
تمور الوثيقتان بكثير من جمل والعبارات المتحذلقة فعلى سبيل المثال وليس الحصر
" فصل أعز ما ملكت بلادنا "!
" هي الوطن " الصنو" للتعدد "!
" نقل المدينة إلى الريف لا الريف إلى المدنية "!....الخ
ما هو " السودان الجديد "؟ تجد الإجابة في المقال القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.