ريتشارد هيل ترجمة: خالد هاشم خلف الله مراسل قناة النيل المصرية للأخبار مقدمة : هذه ترجمة لمقال بعنوان ( Death of A Governor – General ) كتبه المؤرخ البريطاني ريتشارد هيل عن ملابسات وفاة حكمدار السودان في العهد التركي أحمد باشا أبوودان والذي حكم السودان بين عامي (1838-1843) , ونشر في مجلة السودان في رسائل و مدونات ( Sudan Notes & Records) العدد (39) الصادر عام 1958. وريتشارد هيل عمل أدارياً في حكومة الحكم الثنائي ثم أصبح لاحقاً مدرساً بكلية غردون التذكارية ، وقد تخصص في دراسة حقبة الحكم التركي للسودان ومن باب اهتمامه هذا ترجم من الأيطالية للأنجليزية رواية أحداث خطها شخص أيطالي مجهول عاش في الخرطوم في النصف الثاني من ثلاثنيات القرن التاسع عشر وقد ترجمها للعربية الأستاذ عبد العظيم محمد أحمد عكاشة في كتاب حمل عنوان علي تخوم العالم الأسلامي وهو من جزءين وشكلت رواية الأيطالي المجهول الجزء الأول منه وسترد الاشارة لهذه الراوية في سياق هذا المقال. في السادس من اكتوبر 1843 توفي حكمدار السودان أحمد باشا أبوودان في الخرطوم وقد ربطت الشائعات في ذلك الوقت بين وفاته وبين السياسات العليا للأمبراطورية العثمانية وتورط رئيسه المباشر محمد علي باشا والي مصر كمحرض علي قتله. كان أحمد باشا أبوودان الشركسي الأصل ضابطاً كفؤً أتصف بالقسوة , وقد أزيح عن منصبه كرئيس لأدارة الحرب في القاهرة بسبب أنغماسه في مراهنات سباق الخيل ، وفي عام 1838 عينَ كقائد للفرقة الثامنة التي كان قوامها الجنود الزنوج ثم بعد أشهر لاحقة أصبح حكمداراً للسودان وقد أستطاع في العام التالي 1840 أن يضم أقليم التاكا ( كسلا الحالية ) للسودان. كما أعاد أصلاح مالية السودان مستخدماً القسوة وموقعاً عقاباً شديد الوطاءة بالعديد من المحاسبين الأقباط الذين أدينوا بممارسة الأبتزاز أو حتي لمجرد الأشتباه بممارسته ، مما جعل معظمهم يعتبره عدواً لكل الأقباط في مصر والسودان علي حد سواء كما تخلي من ناحية أخري عن السعي لكسب ود الجنود الزنوج. في التاسع من يونيو 1843 أخبر محمد علي باشا الذي كان يومها في الأسكندرية القنصل العام الأنجليزي بارنيت بأن أحمد باشا قد عثر علي منجم غني للغاية بالذهب في فازوغلي وأنه أرسل اليه أمرا للمجئ للأسكندرية ليقدم له تقريراً بذلك ، ولكن القنصل الأنجليزي وفي تقرير له لوزير خارجيته يعتقد أن الهدف الحقيقي من أستدعاء محمد علي باشا لحكمداره علي السودان هو من أجل ( أزاحته من حكومة سنار ) حيث يتولي سلطة مطلقة تتسم بالعنف والقسوة. ومن اسلوب رسائله الفظ التي وجهها لأحمد باشا أبوودان- حتي أنه أسقط منها عبارته المعهودة يابني التي كان يخاطبه بها في مراسلاته السابقة– كان وأضحاً غضب محمد علي باشا عليه واصدر اليه أمراً بالمجئ الي مصر حتي أن الحكومة رتبت سفينة لتنتظره في كروسكو وهي قرية تقع بين الشلالين الأول والثاني في نهاية الحد الشمالي لطريق الصحراء الممتد من الخرطوم وبربر وتم تحذير طاقم السفينة بعدم التأخير وهددوا بالضرب بالهراوات الثقيلة حتي الموت لو حدث أي تأخير من جانبهم كما طلب من حاكم مصر العليا أن يبقي منتبهاً ومتيقظاً للطريق ، وبعد تأخير للأخبار التي لا يمكنها أن تسافر أسرع من الجمال التي يمكن أن تسرع في عدوها علمت الحكومة في القاهرة أن أحمد باشا أبوودان كان في كردفان وأن الأمر " ذو الأهمية القصوي " الذي وجه اليه للحضور للقاهرة تقاطع مع رسالة بعثها أبوودان مؤرخة بتاريخ 23 يونيو ( لم يكتب كاتب المقال العام لكننا نرجح أنه العام 1843م – المترجم ) يخبر فيها الوالي بأنه علي وشك التوجه لمهاجمة قبائل البقارة ، وقد وضحت بذلك مراوغته لمحمد علي باشا الذي بدأ يحضر لمواجهة مقاومة مسلحة من قبل تابعه وأتخذ أجراءً أحترازياً تمثل في أصداره أمراً لكل الضباط والجنود والمسئولين المدنيين بأداء قسم الولاء للحكومة وكانت الشائعات قد راجت في مصر بأن أحمد باشا أبوودان قد رفض الأمتثال لأمر أستدعائه وأنه تبني أتفاقاً سرياً مع الباب العالي ، بينما أعترف أرتين بك ساكياس أحد سكرتيري محمد علي باشا الأرمن بتكرار وصول شكاوي للقاهرة تفيد بظلم أحمد باشا أبوودان وأن أرتين بك يعتقد أن أبوودان قد أرسل مبالغ كبيرة من المال لأسطنبول. ثم جاءت الأنباء من الخرطوم بعودة أحمدباشا ابوودان اليها ومن المحتمل أن يكون قد عاد دون أن يشن حملته ضد البقارة ثم توفي في قصره في السادس من أكتوبر وكان المبعوث الذي أوصل هذه الأخبار قد غادر الخرطوم علي عجل ووصل القاهرة في التاسع عشر من أكتوبر وحالما أبلغ رسالته العاجلة لمحمد علي باشا الذي سارع لاستدعاء قادة مجلس الضباط العام الذي قرر أن يبطل خطر تركيز السلطة في الخرطوم وقرر ألغاء منصب الحكمدارية وأخضاع مديريات السودان لأدارات منفصلة تتبع للقاهرة رأساً. هنالك روايتان لنهاية حياة الحكمدار أحمد باشا أبوودان ، الرواية الأولي تقول أن أحمد باشا أبوودان تلقي مقترحاً سرياً من السلطان عبد المجيد الأول (حكم بين عامي 1839- 1861م – المترجم ) في أسطنبول يقضي بضرورة فصل السودان عن مصر ووضعه مباشرة تحت أدارة الباب العالي في أسطنبول , ولما كانت الشكوك تساور أحمد باشا أبوودان أزاء صحة أتصالات السلطان أراد التأكد فأعاد أرسال الرسالة لاسطنبول وهي في طريقها الي هناك سقطت الوثائق بين يدي عملاء محمد علي باشا الذي أستدعي ابوودان لمصر لكنه تماطل حتي اثار سخط وغضب محمد علي باشا عليه الذي أرسل كتيبة ألبانية تحت قيادة عمر أغا لأعتقال الحكمدار " المنافق " والذي يبدو أنه كان مدركاً للمصير الذي سيصيبه وعلي الرغم من مرضه بالحمي فقد آثر أن يتجرع السم قبل وصول عمر أغا للخرطوم , تفاصيل هذه الرواية أوردتها زوجة أحمد باشا أبوودان والتي هي في ذات الوقت كانت أبنة محمد علي باشا والتي قيل أنها قد سعت لأضعاف علاقة زوجها مع والدها. أما الرواية الثانية فقد جاءت من حلفاية الملوك وهي قرية قرب الخرطوم حيث كان يقيم فيها صديق مقرب لأحمد باشا ابوودان وهو الشيخ أدريس ناصر شيخ قبيلة العبدلاب والذي أقترح فصل السودان عن مصر وأن يحكمه منفرداً أو بمشاركة أحمد باشا ابوودان ووفق وجهة النظر هذه ارسل أحمد باشا أبوودان ما ورثه الشيخ أدريس ناصر من شارات حكم من اسلافه تمثلت في غطاءي رأس ( ربما يقصد الطاقية أم قرينات التي كان يرتديها ملوك العبدلاب والتي كانت تعد من شارات ملكهم وسلطتهم أبان الدولة السنارية – المترجم ) مع نسخة من المعاهدة التي وقعها جد الشيخ أدريس ناصر في سواكن مع عام 1520م مع قائد الجيش العثماني الذي أرسله السلطان سليم الأول لأحتلال المدينة وفي الطريق لأسطنبول تلقت الحكومة كل هذه الأشياء فخشي أحمد باشا أبوودان العواقب فتجرع السم . وقد أثار هذا الأمر أهتمام قناصل الدول الأجنبية في الاسكندرية الذين طفقوا يلتقطون المعلومات المتناثرة هنا وهناك والتي أمكنهم معرفتها والتي لايمكن لأحد أن يحصل عليها من مصادر رسمية ، فالقنصل العام الفرنسي في المدينة كتب لوزارة خارجيته عن مايتم تناقله من أقوال في الأسكندرية عن حدوث خصومة بين محمد علي باشا وحكمداره علي السودان أحمد باشا أبوودان وصلت لدرجة رفض الأخير تنفيذ الأوامر الصادرة اليه من الباشا الكبير , ثم يشير الي نقطة ذات مغزي حين يكتب في تقريره " أن وفاة أحمد باشا سبقتها العديد من الصعوبات الخطيرة والتي كان أكثرها خطورة الموقف المستقل الذي أظهر طموحه مما دفعه للاقامة في الخرطوم " ويعتقد القنصل الفرنسي أنه علي الرغم من ألتزام مصر بالأستمرار في الحروب الدموية والمكلفة مع الأمبراطورية العثمانية فأن السلام الذي بدأ يسود بينهما جعلهما يأخذان علي محمل الجد تحقيق تسوية. أما القنصل الأنجليزي بارنيت فقد أتهم الضابط الألباني بقتل أحمد باشا أبوودان فقد أُمر بذلك قبل مغادرته القاهرة للخرطوم التي أستضافه فيها أبوودان لكن هذا لم يمنع الضيف من الشجار مع مضيفه وقتله. والسؤال من في السودان خان وغدر بالحكمدار أحمد باشا أبوودان ؟ يقول عالم المصريات البروسي ليبسيوس الذي كان في الخرطوم لأربعة أشهر تلت وفاة الحكمدار أحمد باشا أبوودان أن الباشا تمت خيانته والغدر به من قبل نائبه محمد الأمين باشا بينما يعزو مواطنه الرحالة فرديناند ويرن الذي رافق أبوودان في حملة غزو اقليم التاكا الخيانة والغدر اللذان تعرض لهما ابوودان للشيوخ السودانيين الذين فقد الباشا ثقته فيهم لكن هذه الأقوال تظل محض شائعات. وعلي الرغم من الأهتمام الذي أحدثته وفاة أحمد باشا أبوودان فأن محمد علي لم يتحمس لأجراء تحقيق حول أمر وفاته ، فقد أكتفت الرواية الرسمية بالقول أن أحمد باشا أبوودان هلك علي نحو غير متوقع بسبب الملاريا أو الحمي السوداء ، أما السلطان العثماني فقد علم بالأمر بالصورة الروتينية التي يطلعها عليه كبار موظفيه. وفي الشتاء التالي لوفاة أحمد باشا أبوودان أُرسل أحمد باشا المنيكلي ليشرف علي أعادة لتنظيم النظام الأداري في السودان وكتب لمحمد علي باشا قائلاً أن شيخي أفندي ( يبدو أنه شخص عمل تحت سلطة أبوودان – المترجم ) يقول أن الحكمدار الراحل كان متأمراً ضد الدولة ورد محمد علي باشا قائلاً " لا تكترث له فهو كاذب " . وهكذا فهذا يعني أنه لدينا مسألتان محددتان هما طبيعة وفاة أحمد باشا أبوودان وصحة أو عدم صحة الأدعاءات القائلة بأن السلطان عبد المجيد قد قد تأمر مع أبوودان من وراء ظهر حاكمه علي مصر ، فالمسألة الأولي تعد شأناً محلياً بالنسبة لمصر أما الثانية فتتلامس مع السياسات الأمبريالية في ذروتها. وأما الحديث عن مقتل الحكمدار في قصره في الخرطوم ليس مستحيلاً لكنه غير مرجح حدوثه فوقوع حادثة دراماتيكية في عاصمة السودان لايمكن أن تبقي طي الكتمان طويلاً فلا يمكن أن لخدم القصر وحراسه أمساك ألسنتهم طويلاً ، كما لايمكن عدم الأشارة لهذه الحادثة وتجاهلها من قبل مؤلفي كتاب تاريخ ملوك السودان"1" أو حتي من قبل كاتب الرواية الأيطالي المجهول"2" الذي لم يكف عن أنتقاده لأحمد باشا أبوودان بل أن الجميع قد ألتزم الصمت حيال طريقة وفاة أحمد باشا أبوودان التي لا يوجد أحد يشير الي أنها كانت حدثاً مثيراً ، أما رواية تناوله السم فهي بالطبع غير مستحيلة لكنها مشكوك فيها كلية وأن سمعت بشكل وأسع ومنفصل في العديد من الأرجاء ، فيما تشير كل المصادر المكتوبة الي وفاته كانت طبيعية كما لم تكن هناك أمكانية لنبش رفاته االمدفونة تحت قبة تقع في نهاية الحد الغربي لشارع عباس"3" كما أن النمل الأبيض سيكون قد أكمل عمله في رفات الباشا الذي تظل طريقة وفاته سؤالاً معلقاً. أما الرواية التي تحدثت عن تحدثت عن تورط أحمد باشا أبوودان مع السلطان العثماني عبد المجيد الأول في محاولة فصل السودان عن مصر في الوقت الذي أنتهت فيه الحروب السورية فأن السلطان كان يريد يكون في حالة سلام مع واليه علي مصر محمد علي باشا وهذا عين ما أعتقده القنصل الأنجليزي في الاسكندرية برانيت بأنه ليس من المحتمل أن يكون للباب العالي خياراً في تلك اللحظة لكي يشجع ثائراً ضد محمد علي باشا. ومن المحتمل أن شدة أحمد باشا أبوودان ضد الموظفين الأقباط في السودان قد دفعتهم للتأمر عليه سعياً لالحاق الضرر والأذي به عن طريق شن حملة شائعات ضده ، فالأقباط كانوا كانوا مقربين وذوي نفوذ وتأثير في الجهازين الأداري والمالي لحكم محمد علي باشا ولذلك لا توجد صعوبة في تصور كيفية حصول أرتين بك علي معلوماته التي تحدثت عن أرسال أحمد باشا أبوودان لمبالغ مالية لأسطنبول أن صمت الوثائق الرسمية عنها لا يعني أنها كانت مجرد كذبة حقيرة لم تكن لتفوت علي شخص في مثل كياسة محمد علي باشا. هوامش:- 1- كتاب تاريخ ملوك السودان أرخ لأواخر الدولة السنارية وشطراً من الحكم التركي لما بعد منتصف القرن التاسع عشر ومادة الكتاب أعتمدت بصورة أساسية علي مخطوطة كاتب الشونة , وقد قام بتحقيقه المؤرخ الراحل مكي شبيكة , ومؤخراً أعادة الدار السودانية للكتب نشره. 2- عاش الأيطالي المجهول في الخرطوم أبان حكم أحمد باشا أبوودان وبالفعل فقد رصد كل سكناته ولو يكن ليتجاهل بفعل أمر وفاته لو كانت حدثاً مدوياً أكتنفه الغموض. 3- شارع البلدية الحالي وما زالت القباب ماثلة للعيان ملاصقة لمبني البنك العقاري ومؤخراً تكفلت السفارة التركية بالخرطوم بترميمها. 4- في أغسطس 1957 أطلع كاتب المقال ريتشارد هيل علي الارشيف العثماني في أسطنبول ولم يعثر علي وثيقة تتحدث عن حادثة عرض السلطان عبد المجيد لأحمد ابوودان فصل السودان عن مصر.