الخرطوم : الهادي محمد الأمين منظران ومظهران ظلا لصيقين بالذاكرة والوجدان ولم يفارقا ذهني رغم تطاول الأمد والزمان فالمشهد الأول المركوز والمربوط في عقلي ردحا من العمر هو الموقف الذي كان يقع علي ناظرينا ونحن صغارا بقرية السنية الحلاوين زيارة ضابط البوليس وابن البلدة عبد الله السيد كل فترة وبصورة تكاد تكون منتظمة لوالدته الحاجة شباك عبد الله ولأبيه جدنا السيد محمد الفكي فقد كان منظر وشكل الرجل مهيبا وجميلا وهو يرتدي البزة العسكرية مرصعة بالنجوم ومعها الصقر فوق (الأسبليتة) علي الأكتاف بجانب حمله للعصا الأبنوس ويزيد الحلّة بهاء وروعة قوام الرجل وطوله الفارع الذي يناسب العسكرية والجندية فقط وفيما بعد عرفنا ان عبد الله السيّد بطل ضاحية وسباق مضمار وماهر في العدو والجري وهي أمور تعتبر من لوازم العمل الشرطي علي وجه الخصوص بل تضيف للعسكرية أمرا جديدا خاصة في البيادة وطابور السير الذي يتطلب طاقة ولياقة بدنية عالية وكان عبدالله السيد حين قدومه لقريتنا يمتطي سيارة الشرطة (الكحلية) ولم نكن نقترب منه خوفا ورهبة وهيبة هذا المشهد ولّد فينا منذ الصغر شغفا وحبا لهذا الزي المميز والجميل وهو الكاكي أو الميري كما يسميه (العسكر) وانجذابا نحو شكله ولونه المميز فبدلة الشرطة فيها من الروعة والجمال ما فيها .. أما المشهد والإنطباع الثاني الذي ظل راسخا ومتجذرا في الدواخل فقد تزامن مع دخولنا للمرحلة الثانوية فحينما كنت بمدرسة المعيلق الثانوية ظللت أتردد بشكل متفاوت علي منزل شيخنا الراحل عثمان محمد عثمان – رحمه الله – بالشجرة حي الحماداب وكان بيته يبعد عن الشارع الأسفلتي (الخرطوم – جبل الاولياء) أمتارا قليلة فالمنزل يقع جنوب سوق الشجرة وشرق طلمبة شل للوقود وقد أستأجره الراحل من أسرة عمنا عبد اللطيف نقد الله وتنحدر أصوله وجذوره من منطقة الغابة بالولاية الشمالية وهو يعد من جيل التاسيس والرواد في جماعة أنصار السنة وكان إماما لمسجد الحماداب جنوب الذي خلفه بعد رحيله في إمامة المصلين الشيخ عمر صبير ثم الشيخ سليمان طه فيما بعد فالمنزل الكبير بجانب المحال التجارية الناصية التي تفتح علي الشارع الترابي كانت عبارة عن دكاكين جزء منه استقطع لصالح الشيخ عثمان محمد عثمان وأهله نظير أجرة مالية شهرية بينما بقية البيت خصص للعائلة التي تعرفنا علي غالبية أفرادها مثل صديقنا علي عبد اللطيف الذي زاملنا بكلية التجارة – جامعة النيلين وشيقيقه الذي يكبره بعدة سنوات محمد عبد اللطيف وهما الآن مقيمان بالسعودية أما صاحب المشهد وبطله فهو شقيقهما الاكبر حامد عبد اللطيف نقد الله فكنا حينما نزور شيخ عثمان يلفت هذا الرجل انتباهنا ونظرنا لجهة لبسه المميز الأخضر وفي احيان تكون لبسة الصاعقة وهو زي القوات الخاصة وأحيانا يكون أخضر (سادة) ومرات أخضر (مبرقع) فعرفنا أن حامد عبد اللطيف رجل انتمي للمؤسسة العسكرية وتقريبا في سلاح المخازن والمهمات فشكل الضابط كان مهيبا مثل هيبة عبد الله السيد بيد أنه كان شرطيا في قوات (البوليس) والآخر يتبع للجيش أو القوات المسلحة .. لكن حامد عبد اللطيف تقاعد أو أحيل للمعاش بعد أن وصل لرتبة اللواء بعد ضربة كسلا وهمشكوريب – إن لم تخني الذاكرة - وأصبح الآن مسئولا عن جماعة أنصار السنة بولاية الخرطوم وكذا الحال بالنسبة لعبد الله السيد الذي أحيل للمعاش قبل قرابة العشرين عاما حينما كان يعمل في شرطة الشمالية الكبري قبل تقسيمها لولايتين بمدينة عطبرة .. لم نكن وقتها نفرّق بين ضابط الشرطة والضابط الإداري فكلاهما في نظرنا وجهان لعملة واحدة مثل (أحمد وحمادة) ولذلك كنا نتجنب ونتهيّب شخصية خالنا الطيب عبد الله آدم ود العبيد (الطيب شريعة) وهو ضابط إداري محنك وحصيف عمل في كثير من المدن السودانية وكان سائقه (عبد الله) وهو شاب جنوبي تربي في كنف كفيله الضابط الطيب شريعة وزوجته الدكتورة صيدلانية بتول محمود آدم فكنا نعتقد إعتقادا جازما أن الرجل أيضا ضابطا فله كذلك سيارة بيضاء جميلة لكن لوحتها حكومية صفراء علي خلاف (نمرة) عربة عبد الله السيد ذات اللوحة الزرقاء وهذا أيضا يحمل شعورا وإحساسا بهيبة الضابط الإداري ودوره في تنظيم شئون وحياة الناس في مهام لا تقل عن مهام ضابط الشرطة وحلحلة المشاكل بالجودية وهذا لا يتم إلّا من خلال الاحتكاك المباشر بالناس والمجتمع والجمهور خاصة الريفي وفي البوادي والمناطق الطرفية والنائية غير أن دور الضابط الإداري تضاءل وانحسر وأصبح ضعيفا في المرحلة الحالية والراهنة بعد تمدد دور المعتمدين وتوسع صلاحيات المحليات وتقليص وتحجيم وضعية ودور الضابط الإداري بصورة متعمدة لكي يفقد فعاليته وتأثيره وروح المبادرة التي كان يتمتع بها لتعلية دور المعتمد لاعتبارات وموازنات سياسية هذه التغولات جاءت علي حساب ومكانة الضابط الإداري .. لعلّ القارئ الكريم يتساءل عن سبب إيراد هذ المقدمة التي تبقي ضرورية ولها مناسبة ربما تزيد عن ال7 أشهر أو تنقص قليلا لكني لم أسمع بها إلا قبل أيّام قليلة حينما علمت أن أحد أبنا قرية السنية وهو الطالب الحربي / الضابط النجيب محمد فضل الله محمد أحمد حمد قد تخرج من الكلية الحربية برتبة الملازم ضمن ضباط آخرين من أبناء دفعته ورغم أن لي موقفا مبدئيا يمنعني ويحرمني من حضور مناسبات وحفلات التخرج والأعراس بحكم الخلفية (الحنبلية) الراسخة منذ عهد قديم إلا أنني كنت سأكسر البروتوكول لحضور كرنفال ومهرجان تخريج هذا الضابط النابه – لو علمت بمكان وزمان المناسبة - نظرا لحب يتملكني وعشق يسيطر علي نفسي تجاه العسكرية وبالطبع فمحمد فضل الله ليس الاول من قريتنا في إنتسابه للمؤسسة العسكرية أوإنخراطه مقاتلا في صفوف القوت المسلحة ولن يكون بطبيعة الحال الشخص الأخير فقائمة أولاد السنية أو (الطرشاب) تطول من حيث إرتدائهم لبسة الكاكي ويقف في مقدمة هؤلاء عبد العاطي عبد الله بادي وكان تعلمجيا نادرا وكذلك شقيقه عادل عبد الله بادي ومعه زميله الجندي متولي إبراهيم من قرية عجّان وحينما كنا نمر علي منزل حبوبتنا زينب العركية نشاهد من علي البعد صورة نجلها عبد العاطي وهي (مبروزة) بلون ذهبي أنيق وموضوعة بعناية علي الحائط أو الجدار ك(بروفايل) جميل .. لكن إعجابنا كان يزيد بالعم الطيّار أحمد بابكر رحمة الله حينما حط بطائرته الهلوكوبتر في الساحة أو الفسحة الكبيرة التي كانت تقع جنوب منزل جدنا محمود آدم بكتفية إبّان كارثة السيول والفيضان في منتصف عقد الثمانينات من القرن الماضي التي اجتاحت البلاد وتأثر جزء كبير منها حيث دمّرت الأمطار المنازل وأحدثت ضررا بالغا بقري المنطقة وكانت زيارة الطيّار أحمد بابكر بالهلوكوبتر بغرض الوقوف علي حجم الخسائر التي خلفتها السيول والفيضانات وتقديم العون للمتضريين ويعد عمّنا الراحل أحمد بابكر من أميز الطيارين الذين رفدوا هذا القطاع الحيوي بخبراتهم وقدراتهم وأعطوه الكثير خلال خدمتهم الطويلة الممتازة التي امتدت لعشرات السنين كان العم الطيار أحمد بابكر يتمتع بجاذبية وكاريزما أقرب لنجومية ولمعان الأبطال .. ومن البارزين في هذا المجال من الطرشاب آدم فكي أحمد منصور وقد عمل في سلاح الدفاع الجوي بل وابتعث للتدريب في المانيا وفي ذات الإتجاه والخطي سار علي دربه اثنان آخران هما مهدي خالد البشري – ومحمود السماني فتنحّي الأول للدخول في العمل الحر بينما لا زال محمود السماني عبد الله يناضل ويكافح في ميدانه كضابط صف بالدفاع الجوي وفي ذات الفترة التحق بالجيش ابن عمتي عثمان عبدالقادر(حديد) ولكنه لم يواصل المسيرة وفضّل الدخول في الحياة العامة تاركا ساحة الجندية ولا يمكن للذاكرة أن تتجاوز العقيد شرطة الهادي حاج التوم أوعز الدين بابكر عبد الله الذي جمع بين العسكرية وحفظ القرآن الكريم بالإضافة لحمزة عثمان عمر وعبد الوهاب الطيب علي وهو يجمع بين حفظ القرآن الكريم والهندسة والجيش وآخر مرة سمعت أنه يعمل كضابط في مدرعات الشجرة فهؤلاء يحتلون مقاعد متقدمة في مواقعهم وكذلك نجل الاستاذ بشير عبدالعاطي (أمين) الذي جمع ما بين العسكرية والطب ومن الطريف أننا سعدنا بتدريس الأستاذ بشير عبد العاطي لنا في المرحلة المتوسطة في مادة اللغة الإنجليزية بينما درستنا زوجته رابعة محمد الماحي (شاويش) مادة اللغة العربية بالمرحلة الإبتدائية بمدرستي صافية وكتفية وممن نزل في ميدان العسكرية من السنيّة محي الدين محمد الماحي لكن الرجل (قدّ السلك) ولم يكمل المشوار واختار الطورية كمهنة بديلة للعسكرية ومن عساكرنا كذلك صديق محمد أحمد حمد والرجل لا زال – إن لم تخن الذاكرة – يعمل ضمن طاقم التأمين والحراسة في جامعة أم درمان الإسلامية في وظيفة الحرس الجامعي .. وضمن هؤلاء محمد الفكي الأمين والراحل عبد الرحمن يوسف العجب وكلاهما شرفّا قريتنا كجنود بسلاح الإشارة بالخرطوم بحري وبينما ترك محمد الفكي الجيش مفضلا خيار الغربة والهجرة للسعودية إختار الله سبحانه وتعالي عبد الرحمن يوسف العجب شهيدا عنده في أحراش وأدغال الإستوائية وعلي ذكر الشهادة فإن عفيف قرشي عبد الرحمن من فريق الطرش بكتفية أيضا رحل عن دنيانا شهيدا في متحركات الجهاد بمسارح العمليات في جنوب السودان قبل سنوات خلت كواحد من طلاب عزة السودان (خدمة وطنية) ولأن الشئ بالشئ يذكر فلا يمكن للذاكرة أن تتناسي أو تغفل سعادة اللواء مهندس مصطفي فضل المولي ورغم أن الرجل أعطي وبذل وما استبقي شيئا إلا أن الحكومة أجلسته علي كرسي المعاش باكرا وهو في قمة مجده العسكري مثله في ذلك مثل عبد الله السيد الذي تقاعد للمعاش في مجزرة شهيرة إستنتها الانقاذ وأطلقت عليها (الفصل للصالح العام) وهو إجراء تعسفي غالبا ما يستهدف بعض يظن أنهم غير موالين للحكومة أو محسوبين علي توجه وتيار سياسي معين أو لم يكونوا من أهل الثقة والمقربين فتشملهم قوائم الفصل والتشريد أو النفي والإبعاد لمناطق الشدة باعتبارهم شخصيات غير مرغوب فيها وهاهو الضابط النابه (محمد فضل الله) يتقدم الصفوف ويأبي أن تنقطع السلسلة الذهبية التي بدأت من لدن جده أحمد ود الضيف في عهود سالفة وسابقة ولن تنتهي لان الجهاد سنة ماضية إلي يوم القيامة ..