الليل يسدل استاره على مدينتنا, ينسحب الناس الى مخابئهم البيتية, تخفت ضوضاء وأصوات السيارات ليلا, أدس جسدي في فراشي, بغطاء سميك وبطانية صوفية, تفصل البرد وتدفأ مفاصلي الباردة ليمتد الدفء رويدا رويدا الى جسدي الغاطس في ظلام غرفتي الدامس, فأغرق في سياحة مُخيلات مشاعري, فلا أعلم ما يدور بجوفي ولا ما يُحيط بي.هكذا يتكرر الحال, كما لو أني مقبور كل ليلة. أرقد أحياناً في فراشي,عوالم تدور برأسي لذكريات تنثال بلا وعي تسرح بي وفجأة تختفي, كالولادة ورحلة حياة قصيرة ثم اندثار في ارض, وأنا استسلم لنوم يقض. جائتني ليلة إنفردتْ بي لسيت كغيرها, نوم عميق هاديء جداً, تسلل برد في أنحاء جسدي, يضغط على صدري, وصعوبة تنفسي, وبالكاد استنشق الهواء,عروق جسدي تتخشب, دماغي شبه مشلول, تخيّلتُ – كما حدثتي أُمي أيام طفولتي المنصرمة – هبوط مَلَكٍ حولي يستل روحي من أبعاد جسدي الراقد بين يديه مستسلما بلا إضطراب أو صراخ أو ضجيج أو عِناد, ليتركني جُثَّة هامدة بلا سماح لي بالاتصال بأهلي لكي أُخبرهم برحيلي الى عالم القبر الحقيقي, عِلماً بأني كنتُ أُناثش نفسي بين فترة وأُخرى,حول تشابه نومي ليلاً في فراشي الدافئ, مع رُقادي في رمسي الارضي ببرد يلفني, ومَلك يحاسبني, كما حدثتني أمي. قادتني قدميَّ يوماً الى مقبرة قريتنا, لاستفسر من العارفين بأخبار حياة القبور. حدثوني بأنه عالم سرمدي عجيب غريب لا يصدقه الخيال, يعيشه الرَّاحِل بعد دخوله القبر مباشرة قبل رجوع أهله الى بيوتهم. قال أحدهم هل تًصدق ذلك؟ أجاب الاخر كل ذلك مذكور في كتب اسلافنا. فقاطعه مستفسراً هل رأيتَ ميتاً قام من قبره ورجع ليحدثك عما جرى له؟ فأخلد الآخر لجواب تهكمي. سوف تذهب أنتَ بنفسك لترى ما يحدث لك! ولعلك ترجع لتخبرنا بما سيجري هناك! وانثال نقاش عنيد بينهما بلا إثبات مُقنع لكلٍّ منهما, فنقاشهما ظل بلا نتيجة. كنتُ أتابع نقاشهما بعيون أُخرى. فلستُ لوحدي مَن يتسائل عن هذا الرحيل المستمر لبني البشر لمزرعة القبر. وما أدراك ما يحدث لبني البشر تحت التراب؟ فزع نفسي يتجاوز تصور الموجود في هذا الوجود. وتحطم اسطورة وجوده اجتماعيا رغم أنفه وخيلاءه, ليته يعرف ما يجري له. قام فريق من علماء بتجربة وضع ميت في غرفة مغلقة مفرغة من الهواء. سُلِّطتْ عليها كامرات تترصد تطورات ما يحدث لجسده. بعد مرور ثلاثة أيام من موته, ظهر انتفاخ فيه وتغير لونه, وبعدها بيومين آخرين انفجرت بطنه, وإنبثقتْ جيوش عجيبة من دود تتصارع , تفترسه بشراهة كما لو أنها في ساحة حرب ضروس تنتشر على انحاء جسده منصرفة في التهام لحمه. ثم اختفتْ من الوجود وبقي العظم عاريا هيكلا عظميا اصفر اللون شاحب المنظر, تنبعث منه رائحة كريهة جدا لا يمكن للانسان الحي أن يصبر على تنفس كراهة الرائحة. تسائل راصدي هذه التجربة: أين ذهبَ جيش الدود؟ انثالت أسئلة متعددة!؟ بقيت بلا جواب. بينما المشهد يتكرر يوميا للبشر تحت الارض. تأملتُ نفسي هكذا, فتسمَّر تفكيري وخيالي, طرحتُ على نفسي أسئلة متعددة الجوانب. لم أستطع الجواب عليها بمفردي لقلة خبرتي بأبعاد عجائب وغرائب ظواهر الحياة مما تحيَّرني تأملاتي بمجرياتها ومسبباتها ومتعرجاتها ونهاياتها وتداعياتها. أظنُّ أني استنشقتُ الهواء بعمق, قبل رحلتي الى القبر ليتوقف صدري عن استقبال الهواء بقرار خفي.لأرحل.