ندوة الشيوعي    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واسيني الأعرج: انتمي إلى عصر شديد القسوة (22)
نشر في الصحافة يوم 20 - 03 - 2012

٭ الى صديقي الاعز والحاضر دوماً، الروائي السوداني الفذ الطيب صالح، هذا النص الحياتي عن المنفى، لأنه كان هاجسه المركزي وحرفته الدائمة في الكتابة، بين قوس مفتوح دائماً هو جاذبية وطن في القلب، وقوس مغلق، هو منفى لا يمنح إلا قسوة الموت وبعض أطياف الحياة المشتهاة، في زمن شديد الهشاشة، والصعوبة والقسوة.
كل ما كتبه الطيب صالح يقع داخل هذا القوس، الذي هو قوس الحياة.
-5-
حياتي في قطعة قماش، وقصاصة جريدة؟
أرضي الثانية لم تسلم من الفقدان. مدينة تلمسان الأندلسية الجميلة.
كنت صغيرا عندما دخلتها للمرة الأولى وأنا خائف من منها ومن جبروت المدن الكبيرة. لم أبن معها في البداية علاقة ود كتلك التي في القرية. سبع سنوات قضيتها في النظام الداخلي تشبه الانضباط العسكري في كل شيء، في الدراسة، والأكل والشرب والملبس و أحيانا حتى في التفكير وردود الفعل. يصير الإنسان مُوَقَّتا كالساعة.
كل شيء بدأ بصدفة جميلة ليست بعيدة عن صدفة كتاب ألف ليلة وليلة. عندما خرجت الجريدة في ذلك الصباح من صيف 1967، كنت حزينا. بحثت عن اسمي ضمن قائمة الناجحين، لم أعثر عليه، مع أني ظللت أكرر كالمجنون أمام عمر الزابا، ومحمد مالكي، ومحمد شعيبي، أصدقائي اللذين نجحوا: كنت الوحيد من أبناء القرية الذي فك العملية الحسابية بشكل صحيح ووجد النتيجة النهائية: 0،4 التي أعلن عنها مركز الامتحانات. عبثا بكيت إذ لم يسمعني أحد ما عدا أمي وجدتي. وبدأت أهيئ نفسي للفلاحة و التهريب. لم يكن امتحان السيزيام7 الذي بنيت عليه أحلاما كثيرة، هذه المرة من حظي. بكيت و حزنت ليس فقط لأني رسبت في أول وأهم امتحان ولكن لأني شعرت أني خذلت أبي في قبره وأبكيت أمي. كان زوج خالتي أحمد، في زيارة للحاج سليمان، أحد أقاربه الذي كان يسكن في مدينة الحناية، وهي ضاحية من ضواحي تلمسان. أثناء الحديث بينهما، قال الحاج سليمان لزوج خالتي: مبروك على ميزار (اسم أمي) نجاح ابنها في السيزيام، وجدت ذلك بالصدفة في صحيفة8 لف لي البائع فيها قطعة كتان اشتريتها من عنده. و أنا أتسلى بقراءة قوائم الناجحين في تلمسان، وجدت اسم ابنها واسيني. بحث عن الجريدة، وكان يمكن أن لا يجدها ويتبخر كل شيء في الهواء، و أعطاها لزوج خالتي. أمي لم تنتظر طويلا عندما عرفت أن اسمي موجود ضمن قوائم الناجحين في تلمسان، لأن أبناء الشهداء وضعوا في هذه القائمة حتى يستفيدوا من النظام الداخلي، وهو ما لم نكن نعرفه. أخذتني أمي من يدي وركبنا أول حافلة متجهة إلى تلمسان. عندما فتحت أبواب ثانوية ابن زرجب كنا أول من يستقبلهم المدير. عندما بدأ يقلب بسرعة البطاقات ليتأكد من نجاحي ووجودي في هذه الثانوية، قفز على اسمي، فصرخت: اسمي... اسمي يا سيدي، لقد تجاوزته. أول شيء تأكدت منه هو تاريخ الميلاد إذ حتى تلك اللحظة لم أكن متأكدا من أي شيء. قلت وأنا لا استطيع كتم سعادتي: واسيني... واسيني... أنا يا سيدي المدير. 8-8-1954، لا يمكن أن يكون شخص غيري. ضحك و سحب البطاقة وسجلت في الثانوية. عند الباب انفجرت بكاء، و إلى اليوم، كلما تذكرت الحادثة انفتحت شهيتي للبكاء. عندما عدت إلى الدار، بكيت أيضا لمدة يومين وبعدها نسيت كل شيء. عدت إلى تلمسان للدراسة في مدينة لم تعد تخيفني. أتساءل أحيانا عن غرابة هذه الصدفة التي أخرجتني من دفء القرية و لكن كذلك من بؤسها وفقرها، ماذا كان سيحدث لي لولاها؟ لم أفرح في حياتي بشهادة مثل فرحي بنجاحي في امتحان السيزيام، السنة أولى متوسط. حتى شهادات: السرتافيكا9 والبروفي10 (شهادة التعليم العام) والباكالوريا، والليسانس، والماجستير، والكتوراه المزدوجة بين دمشق وباريس، لم تحسسني بأي شيء سوى أنها منحت لي بعض الأمان في حياتي لا أكثر لا تساوي شيئا أمام السيزيام.
اليوم، مات معظم أبطالي وهم لا يعلمون بالخير الذي قدموه لي: جدتي التي منحتني سحر الحكاية بخرافاتها وقصص أجدادها الأندلسيين، سيدي الفقيه الذي لم يكن يغفل أبدا عن السؤال عن الربعية و هي ربع دينار يوضع في كفه كل يوم أربعاء، زوج خالتي أحمد الذي أصر على البحث عن القصاصة الصحفية التي لفت فيها قطعة الكتان، الحاج سليمان و هو لا يدري أبدا أن فضله علي لا يقاس بثمن، المدير الذي سجلني وهو لا يدري وهو يتخطى اسمي سهوا في البطاقات التي كان يتفحصها، أنه كان يرميني في قبر بارد لو قال لي: نعتذر، اسمك غير موجود. حتى القرية لم تعد القرية و لم أعد أعرف ناسها إلا القلة القلية، ومحت كتل البيطون كل ضِياعها وحدائقها ومائها الذي كانت تنز به الأرض. مات الكثير من أبطالي وسقطت حجارة الولي الصالح سيدي بوجنان، الذي ظل يحمي القرية من الكوارث الطبيعية، ولم يبق إلا قرآني، كتاب ألف ليلة و ليلة، في طبعته البولاقية الحجرية، برائحته التي حافظت عليها بين أوراقه وهو كل زادي في سنوات الترحال الأخيرة.
كانت كلها مناف غيرة، هيأتني للمنفى الأكبر وتلك قصة أخرى، إذ فجأة ينفجر المرض الذي نام فينا طويلا قبل أن يصير قنبلة موقوتة لا تمنحنا أية فرصة للتفكير.
-6-
حتّى أنتَ لم تَعدْ أنتَ.
كنت أظن أن المنفى مجرد كذبة نجمِّل بها النصوص. لم أكن أعرف أن لعبة الكتابة ستصبح فعلا جديا. وأن النص الأول الذي نشرته في حياتي الأدبية: ألم الكتابة عن أحزان المنفى11 ، سيضعني أمام اختبار صعب كنت أظنه مجرد لغة أو لعبة لفظية حاسبني عليها الأصدقاء وقتها بأني أتحدث عن شيء لا أعرفه. لم يكن المنفى كذبة، كان جرحا بليغا.
قرأت عن حياة كبار الكتاب والفنانين في الحرب الأهلية الإسبانية و الحرب العالمية الثانية وغيرهم من الذين طحنتهم الماكنة الفرانكاوية12 أو الذين اضطرتهم الطاحونة النازية إلى الخروج، وعن الخراب الذي أحدثته الماكارثية في الفنانين و المثقفين الأمريكيين وغيرهم، وظننت في أعماقي الطيبة أن ذلك لا يحدث إلا للآخرين وأني لست معنيا بهذه التفاصيل التي تسرق من تحت رجلي إنسان أرضه وحنينه وأشواقه وحتى مواطنته إذا توفرت. كنت أظنني بعيدا عن رياح هؤلاء الناس العظام الذين، بسبب فكرة صغيرة اسمها الحرية، تركوا كل شيء وظلوا أوفياء لكتاباتهم وفنهم. لم أكن أعلم أني سأجد نفسي ذات شتاء بارد أبحث عن مسلك المنفى القاسي بعد أن تركت كل شيء ورائي ولم ألتفت لكي لا أصاب برغبة العودة والتراجع. لم أكن أحمل سوى ابني، باسم وريما، وحقيبة صغيرة فيها كتاب ألف ليلة و ليلة و بعض دمى ريم التي تركت الباقي في البيت لأني كذبت عليهما وقلت بأنها مجرد عطلة شهر ونعود. ريما وباسم ظلا صامتين. كان يمارسان ما كنت أفعله وأنا صغير. يعرفان الحقيقة ويخبئانها لكي لا أحزن. ماذا بقي اليوم من تلك اللحظة؟ لا شيء، سوى روايات وحياة موازية تشهد أن الألم يومها كان كبيرا. و لكني كنت أخففه بالقول: مؤقت؟ متى كان المنفى فعلا مؤقتا. جدي الموريسكي لم يكن مخطئا، فقد عرف ذلك في وقت مبكر. غياب السنة صار فجأة خمس سنوات، ثم عشر سنوات إمَّحت بسرعة عجيبة، ثم خمس عشرة سنة مرت كالريح تاركة أثرها على القلب والجسد. ثم... لا سنة تشبه أختها أبدا. فجأة تكتشف، و أنت أمام المرآة الطويلة التي تحتل وسك الخزانة، تصفف ما تبقى من شعرك أو تحلق وجهك المتعب، أن كل شيء تغير: أنت لم تعد أنت.
حتى عندما تعود إلى أرضك من حين لآخر، تشعر بها وبناسها بعيدين. و أن ما كنت تقبل به، لم تعد قادرا على تحمله. وفجأة تكتشف في المرآة، أن شعرك صار أبيض بسرعة، ثم بشعرك يسقط كأوراق خريفية ماتت بفعل الغربة. تقترب من المرآة أكثر، يغطيها بخار تنفسك، ترى وراءك ابنتك ريما التي جاءت صغيرة ولا تعرف سوى اللغة العربية، قد تعطلت لغتها قليلا وتعرفت على لغات عدة، وأن الطفلة التي كانت تعشق الدمى والتي ما تزال في رأسك، تركتها وراءك يوم خرجت من أرضك. ترى ملامحها الطيبة وهي ترسم آخر وجه أو وهي ترتب الكاميرا لتنتهي من تركيب شريطها عن أطفال الضواحي الباريسية. تفرح و لكنك تقول في أعماقك: هل هذه هي ريما التي اشتهت أن تكون ممرضة لتساعد المتعبين؟ تتعمق رؤاك في المرآة، فتري من وراء الضباب الهارب، باسم ابنك البكر الذي دخل باريس وهو يحسب الأيام التي تمضي لكي يعود بسرعة إلى مدرسته وأصدقائه، وقد أصبح اليوم خبيرا في القانون الدولي يحادث صديقته الحميمة التي تنتظر بفارغ الصبر متى يتزوجان؟ لقد نجحا في حياتهما ولكنك تتساءل وأنت تعرف سلفا بأنك لن تحصل على أية إجابة مقنعة: ماذا كان يمكن أن يحصل لو بقيا هناك؟ ما ثمن تلك الكذبة المهدئة التي طمأنتهما بها: سنعود بعد العطلة، وأنت تعرف أنه لا وجود لأي منفى مؤقت في الدنيا، عطلة بدأت اليوم تزحف نحو العقدين؟ ألم تكسر حياتهما العميقة بعد أن فرضت عليهما منفى لم يكونا مهيئين له؟
-7-
رِهان الحرية.
من جديد، تحاول أن تمحو الضباب الذي على المرآة، فترى وجهك المتعب ويبدو لك المنفى مجموعة لا تحصى من الخسارات المتتالية، فتبدأ في عملية العد مثلما كان يفعل تشيخوف Tchekov وهو يعدد ميراث الكتابة في قصته القصيرة جدا. أستطيع اليوم و بعد خمسين سنة من العمر و ربع قرن من الكتابة أن أقول إن رهان المنفى مثل رهان الكتابة خاسر في كل شيء إلا في جوهره الأبدي: الحرية.
خاسر، لأنه سرق مني ما تبقى من عفويتي واغتصب طفولتي في وقت مبكر.
خاسر، لأنه وضع حائلا بيني و بين أهلي. عندما أكتب في الظروف الحالكة التي مرت بها البلاد، كان علي أن أحذر وأحافظ على اسم العائلة، لأنه ليس ملكي لوحدي. و لأني لم أكن قادرا على فعل ذلك، فكرت منذ البداية أن أتخلى عن اسم العائلة ولا احتفظ إلا باسمي الشخصي لأنه ملكي. لم تكن العائلة مضطرة أن تتحمل حماقاتي وجنوني ككاتب. خصوصا في الفترة التي أصبح فيها القتل الأعمى عملا يوميا. عندما لا يصل القتلة للمعني، يمسون عائلته العزلاء. ومازلت إلى اليوم أفكر في التخلص منه لأمنح نفسي حريتها القصوى، ليس خوفا على مصير العائلة، فالأمور من هذه الناحية تحسنت كثيرا، و لكن رغبة في الانتساب إلى الكتابة بشكل نهائي و أبدي.
خاسر لأن الكتابة وضعت حاجزا بيني و بين النفاق الاجتماعي المعمم و حسن السلوك الوهمي. كذبت في الحياة و أنا صغير للدفاع عن حقي في الحب و الحقد. كذبت بلا هوادة على البشر الذين لم أكن أحبهم و أنا في بداية العمر، لأن الكذب كان وسيلتي للانتقام منهم جميعا وأقسمت كما يقسم الكبار، أن لا أكون صادقا مع أي واحد منهم. و لكني لم أكن قادرا على الكذب على الكلمات ولهذا اخترت الخروج في ذلك الشتاء القاسي وبدأت أبحث عن أرض أخرى، اسميها اليوم وطن الكتابة الحقيقي13.
خاسر، لأني عندما اكتشفت لأول مرة نص ألف ليلة و ليلة في الجامع، و رحت أنقل قصصه المثيرة و أدعي أمام أصدقائي أنها قصصي و لم أكن أعلم أن لعنة هذا النص المسروق ستتبعني إلى آخر عمري. أستطيع اليوم أن أقول لصاحبه الذي خبأه بين المصاحف ووضع له غلافا قرآنيا وهميا: هنيئا لك يا سيدي، إن دعوتك قد أصابتني في الصميم، عندما نقلتني من الانتظام والاستجابة للشرطية الاجتماعية إلى سؤال الفوضى وجنون المتخيل. وبسبب عدوى الأدب التي أورثنيها كتابك المسحور، دخلت في عمق الحياة الموازية، الأكثر عنفا، التي لا نصير فيها إلا اللغة التي تتأسس عليها. فوراء كل نص يتخفى شيء عميق، الكاتب وحده يعرف أسراره و مفاتنه.
خاسر لأن الذي فكر في قتلي ذات خريف من سنة 1985 و أنا خارج من مقر جريدة المساء التي كانت تنشر روايتي: الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر، كان أبله و أميا. فقد رأى صورة خطيبته في النص و اقتنع أن البطل لن يكون إلا أنا، و لكي تغيضه صديقته أكثر (عرفت هذه التفاصيل فيما بعد)، و تثير حقده أكدت له علاقتها بصاحب الرواية. كان يمكن أن أقتل بسبب غباوة لا مسؤولية لي فيها، لولا مدير الجريدة وإقناعه لهذا الرجل الذي لا أعرفه أبدا، بأني طوال العشر سنوات الماضية كنت في دمشق وأنه لا علاقة لي بما كان يحدث له، وقرأ على مسامعه نهاية الرواية لأن الرجل اشترط أن تقرأ عليه النهاية. الخسارة أنه في بلادنا يمكنك أن تُقتل وأنت لا تعرف بالضبط لماذا؟ هذه المرة كذلك لم تتخل الكتابة عني و لكنها أظهرت لي أي مجتمع كنت فيه؟ و أي منفى كنت أعيشه وأنا لا أعلم؟ ما تزال أمامنا سنوات طويلة لندرك أن الكتابة هي نفس إلهي Un souffle divin، محرمة ومقدسة إلى أقصى الحدود حتى في أكثر صورها جرأة وتماديا.
خاسر، عندما اضطررت لترك بيتي الذي شيدته بحب على مدار عشر سنوات، بشوق كبير و حنين لا يضاهى ورتبت حياتي لكي أسافر مع أبنائي في كل سنة داخل الوطن، وفي كل مرة نكتشف مدينة حتى نعرف الوطن كاملا. كان حلما طوباويا مستهترا لا يعرف الحقائق المخفية. بلادنا كانت جميلة كعباد الشمس تقتفي خطوات النور كلما مال نحو الانطفاء لاستعادته من جديد، فاحترقت بنفطها وزيتها وخيرها وجهل ساستها. و إلى اليوم لا أرض لي مثلما اشتهي بسبب الكتابة سوى وطن اللغة الذي شيدته حجرة، حجرة ونفسا، نفسا، وجرحا، جرحا لأن الذين وضعوا اسمي في قائمة المطلوبين للقتل في سنوات الظلام، لم يسألوني يوما عن نواياي الطيبة تجاه الناس والبلاد، ولا عن طفولتي التي أحرقتها الشمس الجافة وسلخها برد الشتاء، فأنا بالنسبة لطاحونتهم مجرد اسم يجب أن ينتفي أو يشطب إذا أصر على البقاء في دائرتهم.
خاسر، لأني اضطررت ذات ليلة أن أخرج من البيت حاملا ابنيَّ وبعض ألبستي وأوراقي وأوراق ابنيَّ ومحفظتيها ورحنا نتشرد في فنادق العاصمة أو بيوتات الأصدقاء لكي لا يعرفنا أحد، متنكرا في وجوه وألبسة لا تشبهني، ينظر إليك بعطف الذي يحبك، و يتشفى فيك الذي يكرهك. خاسر، لأني في لحظة واحدة تدحرجت من قمة الاعتراف بوجودي ككائن بشري على الأقل، إلى مهاوي التنكر واللاشيء. فجأة تُمحى وتُطوى ورقتك. الخوف يوقظ الجبن والشجاعة معا. ويتحول بعض الأصدقاء إلى أشكال رجراجة هلامية بينما يضع آخرون رؤوسهم في المقصلة مقابل نجاتك. و تنزل عليك غشاوة تشبه البياض، بياض غير الذي تعودت عليه. وتنتشر في أعماقك العواصف والرياح الساخنة. تتأكد أن لا أحد تقريبا يعرفك عندما يدخل الموت في كأس القهوة الصباحية التي تتناولها بخوف، في زاوية مظلمة في المدينة.
وهل يختار الإنسان منفاه؟ المنفى ليس إلا نتيجة لمجموعة من الانكسارات والخيبات التي تأكل الأفراد والأوطان.
ثم فجأة يخونك جسدك، وبصرك، وذاكرتك؟ هل هو قانون العمر أم الحزن المبكر والمنفى؟
-8-
موت وحياة بالصدفة؟
تدرك فجأة أن المنفى لم يكن فقط خسارات متتالية. تشعر به عمرا مضافا إذ كان يفترض أن تموت قبل ذلك بكثير. وأنت تعرف جيدا أن أكثر الأصدقاء تفاؤلا لم يكن يعطيك أكثر من عمر حشرة، ناموسة أو فراشة، من شهر إلى سنة، في سنوات الظلام الأولى.
الصدفة هذه المرة كذلك أنقذتني.
غريب أن يقرأ الإنسان خبر موته في إحدى الجرائد الوطنية ويسمعه في إذاعة ميدي الدولية المغربية الفرنسية وفرانس-أنفو الفرنسية. تذكرت صديقي الكاتب الفلسطيني فوده عليه رحمة الله، الذي كتب الفلسطيني الطيب وقرأ خبر وفاته في أحد مستشفيات بيروت في اجتياح 1982. قاوم باستماتة الاحتلال الإسرائيلي ووزع جريدة المعركة التي كان يصدرها محمود درويش كأي مناضل ملتزم بخياراته. أسترجع مانشيت خبر اغتيالي كما قرأته في جريدة النصر اليومية التي تصدر بقسنطينة: اغتيال الروائي الجزائري واسيني الأعرج. أشعر في البداية بشيء من الزهو ثم ينتابني خوف عميق. أول شيء قمت به هو إخبار أهلي، أمي خصوصا وتكذيب الخبر وطمأنة كل الأصدقاء الذين كانوا يعرفون مكان إقامتي. أشعر دائما بأن هناك رجلا حماني بصدره ليمنحني كل هذا الزمن وأنا مدين له بالرغم من أنه لا يدري لماذا قتل بالضبط؟ الرجل الذي قتل، أعتقد خطأ، كان موظفا بسيطا في الأمم المتحدة، يمر كل صباح بالقرب من الجامعة قبل أن يذهب نحو عمله. كان اسمه: واسيني الأحرش. لم يكن يعرف وهو يخرج في ذلك الصباح، أنه سيقتل في مكان رجل آخر. كم اشتهي أن يمنحني الله بعض العمر لاقف فقط على قبره قليلا وأعتذر منه، لأن الأقدار التي وضعته أمامي ليقي صدري من الرصاص القاتل، لم تسأله في ذلك الصباح الباكر عن رأيه.
لهذا فالمنفى في النهاية ليس إلا عمرا مضافا سمح لي بفتح أكثر من باب ظلت موصدة و كتابة أحبَّ رواياتي لدي لأنها نابعة من سحر الأعماق، و التعرف على آلاف القراء في وطني، والبلاد العربية و العالم والمرور عبر الترجمة بدون أي جواز ولا فيزا، والدخول إلى أجمل عواصم الدنيا. سمح لي المنفى أن أرى مدنا صنعتها الحياة و الكتابة و أن أحلم مئات الأحلام التي لم تكن بها الكوابيس إلا أفعالا زائلة. المنفى علمني أن لا شيء يضاهي الجلوس في أية شرفة و في أية مدينة في الدنيا، وشرب كأس بدون أدنى تفكير فيما يحيط بنا، وتأمل غروب شمس أو التمادي في بحر نيلي يذكرك بعالمك اللغوي الذي لا يموت. السعادة لا تتطلب الكثير، سوى بعض الحب و السخاء، وقليل من الحرية.
صحيح أني خسرت أرضا جرحت ذاكرتي، ولكني ربحت وطنا عظيما، هو وطن الكتابة. أرضي الوحيدة والنهائية. وحدها الأصدق. وحدها الأبقى عندما ينكرك الآخرون.
صحيح أيضا أن أقسى ما في المنافي هو أن تعرف بأنك ستموت وحيدا في العزلة، خارج وطنك وخارج أرضك و لكن، صحيح كذلك أن المنفى يمنحك حياة لم تتخيلها ووطنا تنشئه بسهرك وأظافرك وخوفك، لن تتخلى عنه مهما كان الثمن غاليا وعسيرا.
أتساءل اليوم وأنا في قمة صفائي الذهني الذي لا أضمنه بعد سنوات، وبعد كل هذا الشطط والحزن والعمر الذي لا يقاس بآلام من سبقوني، هل خسرت وطنا حقا عندما خرجت في ذلك اليوم الشتوي القاسي ولم ألتفت ورائي لكي لا أتراجع؟ لا أدري؟
بالضبط لا أدري سوى أني أدرك أني أنتمي إلى عصر شديد الالتباس الهشاشة والقسوة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.