شاهد.. مقطع فيديو للفريق أول شمس الدين كباشي وهو يرقص مع جنوده ويحمسهم يشعل مواقع التواصل ويتصدر "الترند"    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لعنة البترول السوداني


بقلم: محمد البشرى
الدوحة – أبريل 2013م
[email protected]
رغم أن البترول يعتبر من الثروات الطبيعية المهمة التي تهتم كل الدول بإستكشافها تحت أراضيها أو مياهها الإقليمية أو جرفها القاري، وكل الدول تسعي للحصول علي البترول وأنتاجه لتحرير نفسها اقتصاديأ في مجال الطاقة من الاعتماد علي الدول المصدرة لهذه المادة ولتحقيق الإكتفاء الذاتي في مجال فاتورة الوقود ومن ثم تصدير الفائض للحصول علي العملة الصعبة ودفع عجلة التنمية في القطاعات الأُخرى من صناعية وزراعية وتحقيق الرفاهية وتوفير الحد الادني من الحياة الكريمة والدخل الكافي لشعب تلك الدولة.
السودان رغم انه بدأ رحلة البحث عن الثروة النفطية في الخمسينات وتم اكتشاف النفط في حقبة السبيعينات الا ان الاستغلال الحقيقي للثروة البترولية لم يتم الا في نهاية التسعينات بتصدير اول شحنة من البترول السوداني في 30 سبتمبر 1999م. ورغم استبشار شعوب السودان الفقيرة المتعطشة للتنمية ان لحظات الخلاص من الفقر والتخلف قد أزف وقتها الا ان البترول السوداني قد جلب معه لعنة الموارد الطبيعية
“Natural Resources Curse”
هذه الورقة سنتناول هذه اللعنة من الجوانب الاتية: الحرب- المرض الهولندي- عدم الشفافية- وتلوث البيئة.
الحرب:
عند قيام انقلاب جعفر نميري في 25 مايو 1969م فان توجُهه كان يساريًا وقد وجد الدعم والتأييد من الحكم الناصري ليصب في خانة المعاداة للامبريالية والرأسمالية الغربية. وكاد نميري ان يبدأ بمصادرة الشركات وتأميم البنوك لولا ان مستشاريه نصحوه بتأجيل ذلك لعام آخر ، وفي الاحتفال بالسنوية الاولى للإنقلاب قام نميري بتأميم ومصادرة البنوك والشركات ومن ضمنها بنك مصر رغم حضور عبد الناصر لهذا الاحتفال. هذا الميل للمعسكر الشرقي تغيٌر بعد 19 يوليو 1971م حينما تعرض نظام مايو لمحاولة إنقلابية فاشلة قادها الجزب الشيوعي السوداني. بعد هذه المحاولة الفاشلة قام نميري مباشرة بطرد الخبراء الروس أسوة بمصر وييم وجهه شطر المعسكر الرأسمالي الغربي، وأعاد النظر في كل المصادرات التي تمت وقد تزامن هذا الانفتاح مع رغبة أميركية - في زمن الحرب الباردة كانت في أوجها- لضم السودان للمعسكر الرأسمالي. هذا الوضع الجديد تمثل في الرجوع جزئيإً لنظام السوق الحر والإعتماد علي الشركات والبنوك الخاصة. هذا الوضع الجديد فتح الأبواب للشركات الأجنبية والتكنولوجيا الاميريكية وكذلك لرؤوس أموال "البترودولار" العربية والتي كانت تنفر من كل ما هو إشتراكي أو شيوعي(فتح الرحمن الشيخ). في هذه الأثناء قام الإمبراطور الاثيوبي هيلاسلاسي وبدعم ومباركة أميركي بمبادرة لحل مشكلة جنوب السودان وذلك بجمع نميري مع حركة الأنانيا ون "سم الثعبان" في مفاوضات تُوِجْت بتوقيع إتفاقية سلام أديس أبابا 1972م والتي اصبح السودان بعدها نقطة جذب لرؤوس الأموال للأسباب التالية:
1- الدول العربية وخاصة الكويت والسعودية كانت ترى أن السودان يمكن ن يكون هو سلة غذاء الوطن العربي (قبل ان تعلن الفاو ذلك). أ
2- بعد هزيمة إسرائيل للعرب في حرب 1967م فإن كثيٌر من دول النفط الغنية رأت انه من الأفضل الإستثمار في الدول العربية وظهرت روح مقاومة ورفض للتحيز الغربي لإسرائيل تُوِجْت بقطع إمدادات النفط العربي للدول الغربية التي دعمت إسرائيل في حرب 1973م.
3- تحسُن المناخ الإستثماري خاصة بعد إستباب الأمن في الجنوب بعد توقيع إتفاقية سلام أديس أبابا. 1972م.
رغم تحسُن المناخ الإستثماري إجمالاً إلا أن هذه الإستثمارات لم تكن مخصصة للإستثمار في مجال البترول الذي يحتاج لرؤوس أموال أكبر ، كما أن النفط هو صناعة تتسِم بكثير من المخاطرة والمجازفة، وكذلك فإن رؤوس الأموال العربية لم تكن مُوجهة للإستثمار في مجال النفط، وقد يكون العزوف عموما راجع أيضاً لِضعَف الإمكانيات التقنية والفنية للسودان في مجال صناعة البترول التي تتطلب إمكانيات خاصة في مجال الإدارة والمحاسبة وتشريعات قانونية مواكبة. ونسبة لما للقوانين النفطية من أثر في جذب الشركات النفطية الغربية فقد سارع نميري لإصدار قانون الثروة البترولية لعام 1972م ملغياً قانون الثروة النفطية لعام 1958م.
هذا القانون الجديد كانت أهم مميزاته أنه مدَ حدود البحث عن النفط للجرف القاري والذي أهُمِل في قانون البترول 1958م، وقد إستمر القانون في استعمال نظام عقدي الترخيص والايجار
“License and Lease”
وهو نظام يعتبر الأفضل بمعايير الخمسينات وحتى معايير السبيعنات حيث ان نظام "الإمتياز" كان هو السائد. تحت نظام الترخيص والإيجار فإن الشركة تُعطيَ " عقدترخيص" يخولها فقط القيام بأعمال الإستكشاف والبحث ، وحينما تكتشف الشركة بترولاً بكميات تُعتبر تجارية وقابلة للاسثمار ، فيحب عليها أن تتقدم بطلب آخر "جديد" للحصول على "عقد إيجار" والذي بموجبه يحق لها الحفر والإستخراج والإنتاج. هذا النظام رغم أنه من ناحية يضمن سيطرة الدولة علي مجريات الصناعة النفطية إلا أنه غير مُحبذ من قِبل الشركات النفطية، لذا فإن شركة شيفرون التي أُعطِيت عقد بموجب هذا النظام في 1974م رأت أنه مُعقَد كما أنه يجعل الشركة غير متأكدة ولا واثقة من إستمرارية عملها في الحقل الذي إستكشفته، فلربما يُعطى أو يُحوٌل العقد لشركة أخرى لتقوم بالإنتاج . ونسبة لأن شيفرون كانت ذات سطوة عالمية و"حظوة" عند نميري فقد تم تعديل قانون النفط في العام 1975م نزولاً عند طلبها وذلك بإدخال المادة (25) والتي تُخوِل لوزير النفظ أن يوقع عقد "المشاركة في الانتاج "
“Production Sharing Contract”
لأول مرة في تاريخ صناعة النفط السودانية وأُطلِقت يد الوزير حتي في تحديد مساحة العقد وبموجب ذلك تم إعطاء شيفرون إمتياز "عقد مشاركة في الانتاج" في منطقة وسط الجنوب في مساحة تقدر بأكثر من 580.000 كلم مربع.
ما يهمنا في هذه العجالة أنه بالرغم من أن الحرب في الجنوب بدأت قبل الإستقلال (1955م) إلا أن الحرب المرتبطة بالنفط أو دخول النفط كعامل مؤثر في النزاع الشمالي- الجنوبي لم يبدأ إلا في العام 1980م، فبعد أن نعِم السودان بفترة خالية من الحرب بعد افاقية أديس أبابا 1972م وإلي العام 1983م إلا ان بوادر لعنة النفط ظهرت للسطح للأسباب الآتية:
1- بعد إكتشاف النفط في الجنوب حاول نميري تغيير الدستور لمد الحدود جنوباً لضم منطقة" بانتيو" لولاية جنوب كردفان، وحينما واجه نميري مقاومة من حكومة الحكم الذاتي في الجنوب ما كان منه إلا إنشاء ولاية الوحدة حول حقول النفط حتى يتسنى له تجريد حكومة الجنوب من السيطرة الإدارية علي مناطق حقول النفط(سودان أبدايت).
2- كان هناك مقترح بأن يتم بناء مصفاة في بانتيو . في البدء عُدِل هذا المقترح بإقتراح آخر يتم بموجبه تحويل المصفاة الي مدينة كوستي في وسط السودان قبل أن يُستَبدل المقترحان ببناء خط أنابيب لبورتسودان. هذا التصرف زاد من غضب الجنوبيون حيث يرون أن تحويل المصفاة من بانتيو أو بناء خط أنابيب لبورتسودان كلها تصب في إتجاه محاولات نميري لتجريدهم من مدخلات نفط وثروة "الجنوب".
3- حسب لقاء أجراه بيتر فيرني مع أبيل ألير نائب نميري ورئيس حكومة الجنوب في الفترة من 1975-1982م فان شركة شيفرون كانت متعاونة مع حكومة الجنوب ومهتمة بقِسمة مدخلات النفط الجنوبي مع حكومة الجنوب اكثر من إهتمامها بقسمته مع حكومة نميري المركزية في الخرطوم ، ولكن شيفرون في آخر المطاف قلبت لهم ظهر المُجن وتناست التعاون معهم وهذا ما دعي الجنوبيون لإتهام شركة شيفرون بإبرام إتفاقيات" سرية" أو غير معلنة مع نميري لإستكشاف النفط في مناطق يعتبرها الجنوبيون ضمن أراضيهم كما حدث في منطقة "حفرة النحاس" وحرمانهم من قسمتهم فيها بالرغم من أن إتفاقية أديس أبابا تعطي للجنونبيين الحق في المشاركة في أي "ثروة" تستخرج من أراضي الجنوب _ وهو ما اقرته إتفاقية نيفاشا 2005- .
4- هذا الغضب والغُبن المتراكم – ضمن أسباب أُخرى- قاد إلي تمرد جون قرنق علي حكومة الخرطوم وتكوين الحركة الشعبية لتحرير السودان في 1983م ، والتي إعتبرت إستثمار البترول مشابه لعملية "نهب" ثروات الجنوب وإستعمال تلك الثروة في شراء السلاح لقتل شعب الجنوب ولذا يجب إيقاف إستخراج النفط بكافة الوسائل و السُبل الممكنة. وقد نادت الحركة الشعبية شركة شيفرون في بياناتها المتكررة بإيقاف عملياتها النفطية وطالبتها بالخروج من السودان وإلا فإنها ستستعمل الوسائل العنيفة والتى تراها مشروعة، لأن مدخلات النفط ستساعد نميري في شراء السلاح وقتل المواطن الجنوبي. وعندما لم تستجب شيفرون لنداءات الحركة الشعبية قامت الأخيرة بمهاجمة معسكر شيفرون بمنطقة "ربكونا" وقامت بإختطاف ثم قتل ثلاث من عمال شيفرون في فبرائر 1984م مما أجبر شيفرون على الإنسحاب من السودان وبنهاية 1985م كانت كل العمليات النفطية قد توقفت تمامأ..
لعنة هذا السائل السحري تواصلت في بداية عهد الحكومة" الإنقاذ" الحالية حيث أنها قاتلت بضراوة وإستعانت بمليشيات ماتيب ورياك مشار لتأمين الحقول النفطية ومقاتلة الحركة الشعبية، حتى تم تحقيق السلام ووقف الحرب في 2005م بإبرام إتفاقية نيفاشا التي أقنع فيها الأمريكان جون قرنق بتقاسم مدخلات النفط مع حكومة المؤتمر الوطني بدلا من تقاسم الفقر والحروب والأمراض، إلا ان اللعنة الكبرى تمثلت في أن النفط هو العامل الرئيسي الذي أغرى "فيما بعد" الجنوبيون بالإنفصال وتقسيم السودان لدولتين كما ذكرنا في مقال سابق.
المرض الهولندي:
قطاعات واسعة من الشعب السوداني المسحوق معيشياً كانت تري أن النفط "نعمة" أنزلها الله لتُفرٌِج عنهم كُُرب الحياة وضنك المعايش، وهناك من نسجوا الأحلام حول مستقبل حياتهم بعد تصدير أول شحنة في 1999م. ولكن هذه الأحلام تبخرت ولم تتحقق في خلال ال 12 سنة التالية لتصدير النفط، وكثيرون كانوا يؤٌملون في إيجاد فرص عمل لهم وتأمين دخل منتظم وخاصة وهم يستمعون لإعلام الحكومة يورد تقارير البنك الدولي ويبشرهم بنسب نمو تتفاخر بها دولتهم، رغم أن هذا النمو المزعوم لغة لايفهمها المواطن الفقير وخاصة وهو لا يرى في حياته اليومية تحسناً بل لا يشهد إلا غلاءً فاحشاً في ضروريات الحياة يفوق مداخيله المحدودة ويفاجأ بمطالبات بأكل "الكسرة" التي هو أصلاً لا يملك ثمن الحصول عليها.
ورغم ان هذه الورقة غير متعلقة بالاقتصاد لكننا نرى ان السودان مصاب بداء "المرض الهولندي". المرض الهولندي تعبير استخدم في 1977م لتوصيف حالة الإقتصاد الهولندي بعد إكتشاف غاز بحر الشمال في 1959م . و هو مفهوم يوضح العلاقة بين الزيادة في إستغلال الموارد والثروات الطبيعية والإنخفاض في مجال "التصنيع".
والمصطلح في مجمله يقول بأن الزيادة في مداخيل الموارد الطبيعية (او حتي إنسياب الإعانات الإنسانية) سيجعل عملة الدولة المعنية قوية مقارنة بالعملات الأخرى وهذا يجعل الصادرات الدولة المعنية غالية ومُكلِفة للدول الأخرى التي تريد الشراء او الإستيراد منها، مما يجعل القطاع الأنتاجي "الصناعي أو الزراعي" ضعيف المنافسة خارجياً . هذا يعني أن المظهر الخارجي للإقتصاد هو أن الدولة غنية ولكن في الداخل نسبة العطالة فاقت كل المعدلات ولم يخلق ذلك الدخل فرص عمل للأيدي العاملة العاطلة. بل أن بعض الإقتصاديين يرون أن ذلك يؤثر علي القطاعات الأُخرى ويجعلها ضعيفة المردود وكمثال فان توفر وظائف ذات دخل عالي في مجال البترول يجعل القطاعات الأُخرى تتضرر حيث تجد نفسها مضطرة لرفع أُجور عمالها حتي لا تفقد تلك العمالة"الماهرة" وبالتالي تخسر مادياُ أو تكون مهددة بفقدان بعض العمالة المدربة وذات الخبرة التي تبحث عن أجور أفضل.
وهذا الوصف ينطبق علي الإقتصاد السوداني عامة الآن، حيث أن الدولة في خطوات غير مدروسة أنشأت العديد من الجامعات والتي تدور علامات الإستفهام حول مؤهلاتها العلمية وخرجت الآلاف من الطلبة الذين لايجدون فرصة عمل ولا يرغبون في العمل إلا في مجال النفط أو البنوك للمداخيل العالية وذلك في ظل إقتصاد يروج أهلوه لنموه بل وعدم تأثره بالازمة الإقتصادية العالمية. من وجهة نظري أن الجنوب سيتأثر بلعنة النفظ أكثر من الشمال ومصاب بالمرض الهولندي أكثر من الشمال خاصة وأن الحركة في خطوة غير مدروسة حددت الأُجور في الجنوب بما يعادل ضعفها في الشمال وهناك الآلاف من الموظفين والجنود والعمال غير المؤهلين (لا اريد ان القول أمييون) وغير المنتجين يتلقون مرتبات لا تتناسب وما يقدمونه مقابل تلك المرتبات، وهذا المال المهدر أفقد وسيُفقِد الجنوب كثير من الأموال التي كان يجب إستثمارها في التنمية البشرية والبنية التحتية وهذه الدخول العالية إضافة الي إنسياب أموال الإغاثات وتواجد عمال الاغاثة (ذوي الدخل والمنصرف العالي) في الجنوب جعل جوبا من أغلى مدن العالم فقد أوردت الفايننشال تايمز أن الليلة في فنادق جوبا تتراوح ما بين 200 الي 800 دولار. من ناحية أُخري فان اللعنة في الشمال تمثلت في إهمال الحكومة للقطاع الزراعي وخاصة مشروع الجزيرة وأهملت تصدير منتجات كالصمغ والسمسم والقطن، كما أن القطاعات الصناعية تم تدميرها في خطة يرى اليساريون أنها مدروسة لإضعاف النقابات والضغط على الطبقة العاملة التي كانت رأس الرمح في كل مظاهرة او إعتصام ضد الحكومات السابقة.
بعض الدول كبتسوانا والنرويج إستطاعت إستعمال مواردهما الطبيعية بطريقة تفادت بها مساوئ " لعنة الموارد" وحسنت من وضعها المادي بالإستفادة من مداخيل تلك الثروة وحولتها لنعمة لشعوبها، وعلي سبيل المثال الإهتمام بتنمية القطاعات الأخرى والإستثمار في الخارج عوضا عن الإستثمار في الداخل و هي الطريقة التي يجب أن يتبعها الشمال والجنوب لتحسين إقتصادياتهما ، كما أن الشفافية والخضوع لنظام رقابة ومحاسبة صارم في بيع حقوق التنقيب وإستخراج النفط ودعم القطاعات الأخرى هي من الوسائل الناجعة لمعالجة هذا المرض العضال.
عدم الشفافية:
بعد تعيين وزير النفط السابق لوال دينق وزيراً فقد إعترف السودان في أُغسطس 2010م بإنعدام الشفافية في مجال صناعة النفط في الماضي ووعد بأنه منذ الآن ستكون هناك شفافية وسيتم نشر الإنتاج اليومي ووعد بمراجعة و محاسبية محايدة لصناعة النفط منذ 2005م ، وكل ذلك تم في إطار تحرك متأخر لإسترضاء الجنوب والحركة الشعبية قبل أشهر من الاستفتاء ولنفي إتهامات منظمات المجتمع المدني الغربية. فقد كانت الحركة وبعض المنظمات الغربية تتهم الحكومة بالسيطرة علي وزارتي المالية والطاقة وفرض" سرية مفرطة" غير مبررة سوى لتغطية فساد ما في مجال صناعة النفط ومداخيله. ففي هذا الإطار فقد إتهمت قلوبال وتنس(سبتمبر 2009م) الحكومة بإيراد أرقام متضاربة -عن حجم الانتاج النفطي من حقول الحنوب- مع أرقام الشركات المعلنة حتى تستولي علي نسبة "زائدة" من نفط الجنوب خارج إطار القسمة المتفق عليها وقد هاجمت الحكومة ذلك التقرير وإتهمت قلوبال بالكذب والعمالة والحقد قبل أن تدعوها للخرطوم لنقاش التقرير المزمع.(رويتر).
في كل دول العالم يعتبر البترول ثروة قومية ويتم التعامل مع هذه الثروة ومدخلاتها ضمن نطاق ما تمليه مصلحة المواطن، ولكن الملاحظ في السودان أن الحزب الحاكم يعتبر أن البترول مِلك للحزب لا الدولة بحكم "الاستخراج" و "وضع اليد" لذا فإن صناعة البترول ومداخيله تعتبر من الأسرار التي لا يحق لأي كائن أن يطلِع عليها، وكاتب هذه الورقة عاني الكثير في سبيل الحصول علي معلومات عن النفط السوداني بغرض البحث العلمي ووصل بطلبه للوزير ولكن تم رفض طلبي بدعوى "السرية" والتي يقولون أن "الشركات" النفطية تفرضها عليهم. يؤيد ماذهبت اليه من أن هناك سرية "مفرطة ومصطنعة" أن وزارة النفط ستبدأ في نشر شروط العقود في اطار برنامج الشفافية الجديد. و نشر العقود وإعطاء حرية الإطلاع عليها لمن يريد الاطلاع عليها لهي من أساسيات "الحكم الرشيد"، حيث أن المواطن من حقه أن يرى ماذا فعلت الدولة بثروة تعتبر ملك له وللأجيال القادمة.
والسودان يمكنه في هذا الإطار الإقتداء بأصغر دولة في العالم وهي
Sao Tome& Principe
والتي لا يتجاوز عدد سكانها ال 165 ألف مواطن، جعلت حكومتهم "الشفافية" همها و تمليك المواطن كل الحقائق عن النفط"هدفها" بحيث أنه يحق لأي مواطن الإطلاع علي العقود مقابل رسوم رمزية، كما أنها في 2004 م إفتتحت الدولة حساب"بنكي" للبترول وهو محروس من مؤسسات الدولة "الشرعية" وكل دخل النفط يوضع من قبل الشركات النفطية في هذا الحساب مباشرة ولا يتم السحب منه إلا بموافقة عدة جهات "دستورية" ويسحب منه لمرة واحدة في السنة لدعم الميزانية فقط و المبلغ المسحوب" محدود" للحفاظ علي الفلوس الموفرة للأجيال القادمة ولا يسحب منه لأي ظرف (جوزيف بل).
هذا الوضوح وتلك الشفافية مفتقدة في صناعة النفط السوداني ، فهذه السرية "الحديدية" المفروضة علي النفظ قد وُوجِهت بها الحركة الشعبية حينما طالبوا بإعطاءهم "نُسَخ" من العقود التي أُبرِمت قبل توقيع إتفاقية نيفاشا، فقد أوردت "بيزنس مينتور" أن الحركة قد رُفِض طلبُها الأول بدعوى أن وكيل الوزارة في رحلة خارجية وبعدها لم يتم السماح لهم "برؤية" العقود إلا بعد 11 شهراً وكانت "رؤية" مشروطة بالإطلاع وأخذ "ملاحظات فقط" وليس صور من العقود بالرغم من أن الحركة الشعبية ملزمة بإتفاقية نيفاشا بعدم إعادة مناقشة أو تعديل العقود والمعاهدة سمحت فقط باجراء بعض المعالجات إذا كان العقد المبرم قد تسبب في مشاكل إجتماعية أو بيئية. لذا فإن عدم السماح بأخذ صور من العقود لا يمكن تبريره. علي كلِ فإن الحركة تتحمل جزء من مسئولية التأخير والتقصير في" الإطلاع" بعدم جديتها في هذا الأمر الهام لتتركه بعد المحاولة الأولى لمدة 11 شهراً ، و حتى بعد السماح لها بالاطلاع لم تكن لجنة الحركة المكونة لدراسة العقود بالتأهيل الفني والقانوني المناسب لدراسة مثل هذه العقود المعقدة.
وتجلت عدم شفافية صناعة النفط في السودان في الفترة الإنتقالية(2005- 2011) في أن الحكومة لم تسمح للحركة الشعبية بتولي أيِ من وزارتي المالية او الطاقة، بل إنها حينما أرادت التعديل الوزاري لم تزد علي أن أعطت وزارة المالية لوزير الطاقة السابق الجاز ووزارة الطاقة لوزير المالية السابق قبل أن تعطي وزارة الطاقة للحركة الشعبية في خطوة تعتبر متأخرة وغير ذات جدوى وقد تكون معظم الملفات المهمة المتعلقة بصناعة النفط قد إنتقلت لخارج الوزارة أو تحت أيدي كوادر المؤتمر الوطني في الوزارة أو المؤسسة الوطنية.
عدم الشفافية يتبدى أيضاً في عدم معرفة شروط العقود الخاصة بأنابيب النفط والتي لا يدري أحد مدي ملاءمتها للشروط العادلة وما المدة الزمنية التي بعدها ستؤول ملكية الأنابيب للدولة السودانية ؟ وهل كل الشروط عادلة و تصب في مصلحة الوطن.
تلوث البيئة:
عرف قانون حماية البيئة السوداني لعام 2001م كلمتي " تلوث" و"البيئة" كالآتي
التلوث: و يقصد به التغيرات التى يُحدِثها الإنسان فى البيئة وما ينتُج عنها من آثار للإنسان والكائنات الحية من الإزعاج أو الأضرار أو الأمراض أو الوفاة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أو إفساد العناصر الأساسية للبيئة أو الإخلال بأنظمتها السائدة والمعروفة ويشمل ذلك تلويث الهواء ، الماء ، التربة والنباتات.
أما البيئة فيقصد بها مجموعة النظم الطبيعية بمكوناتها من العناصر الأساسية كالماء والهواء والتربة والنبات ، وتشمل أيضا مجموعة النظم الإجتماعية والثقافية التى يعيش فيها الإنسان والكائنات الأخرى ويستمدون منها قوتهم ويؤدون فيها نشاطهم.
في العام 1995 تم إعدام الكاتب النيجيري والناشط المدافع عن البيئة "سارو ويوا" بسبب معارضته للصناعة النفطية في منطقة دلتا النيجر وهو من قبيلة "اوقاني" الصغيرة التي تسكُن تلك المنطقة والتي هي من أغني المناطق النيجيرية بالنفط وقد عانت المنطقة وسكانها من تلوث بيئ بسبب أعمال شركة شل، وقد افقرت تلك النشاطات النفطية سطان المنطقة بالقضاء على الوسائل التقليدية لكسب عيشهم مثل الزراعة وصيد السمك مع عدم توفير فرص عمل بديلة للسكان. فقد كانت بقايا النفط ترمي في المستنقعات والمياه التي يعيش الناس علي الزراعة بها أو صيد الأسماك منها، مما قلل فرصهم في الكسب من الزراعة أو الصيد. وقد لوحظ أن الاسماك قد قلت لأنها إنقرضت بسبب التسرب النفطي. وأصبحت الأسماك التي يمكن إصطيادها تفوح رائحة النفط من أكبادها وتسببت في الكثير من الأمراض ، إضافة الى أن الصياديين يجب أن يبحثوا عن الأسماك علي بعد 4 ساعات من مكان إصطيادهم المعتاد سابقاً (منظمة العفو الدولية) .
مقتل "ويوا" لفت الأنظار الي التلوث البيئي المحمي بواسطة السلطات الحكومية التي لم تصدر من قوانين حماية البيئة ما يجبر الشركات النفطية على الإلتزام بحماية البيئة ، كما يوضح مدى إستهانة الشركات النفطية بحماية بيئة وإنسان العالم الثالث وعدم رغبتها في دفع مستحقات حماية البيئة "المكلفة" للحفاظ علي نسبة الأرباح المحققة لتلك الشركات، وعدم إستجابتها السريعة لعلاج التسربات النفطية كما حدث في التسرب النفطي في خليج المكسيك في أبريل 2010م حيث رأينا سرعة التحرك وحجم ما دفعته وستدفعه شركة البترول البريطانية من تعويضات قد تصل ل50 مليار دولار لأميركا ولأفراد وشركات ولمنظمات حماية الأسماك والطيور في حين أن نفس الشركات في العالم الثالث تنكر أي تسرب نفطي وتتهرب من مستحقاته للبشر.
هذا الوضع البيئ في نيجيريا ليس ببعيد عن الوضع في السودان كما سنبين أدناه وهو وضع يتمثل في عدم وجود إدارة سليمة لصناعة النفط السودانية تهتم بوضع القوانين السليمة لحماية البيئة من آثار الصناعة النفطية وتتفاقم المشكلة في السودان بإعتماد السودان علي التكنولوجيا الشرقية وخاصة الصينية على الرغم من أن الصين لم تدخل الصناعة النفطية إلا بعد العام 1980م وقبلها كانت تعتمد علي تكنولوجيا "الشقيق الاكبر" الإتحاد السوفيتي منذ 1960م ومن المعروف ان الإتحاد السوفيتي نفسه بعد إنهيار الإتحاد إستنجد بالتكنولوجيا ورؤوس الأموال الغربية للإستثمار في المجال النفطي إعترافاً بضعف التكنولوجيا الروسية رغم ضلوع الأخير في صناعة النفط منذ منتصف القرن التاسع عشر. ضافة لما سبق نجد أن عدم الشفافية وإصباغ قضايا النفط بالصبغة السرية والسياسية يجعل الحديث عن الآثار المدمرة للنفط علي حياة الانسان والبيئة وبالتالي الإقتصاد إجمالاً من المحرمات ودواعي توزيع صكوك العمالة وعدم "الوطنية" المحتكرة لفئة معينة من الحكام.
القوانين المتعلقة بالبيئة وهي قانون حماية البيئة لسنة 2001م وقانون صحة الييئة لعام 2009م وهما لا يحتويان إلا على مواد عمومية ومبهمة لا تعالج إشكالية التلوث البيئي النفطي كالتسرب النفطي من الأنابيب او الناقلات أو مخلفات الشركات النفطية في الحقول او المصافي او التلوث البحري في حقول البحر الأحمر مثلاً . وللأسف فإن صفحة وزارة الطاقة والتعدين السودانية تحتوي علي عمود فارغ(في النسخة الانجليزية والعربية) ولا يحتوي علي أي معلومة أو حتي نصوص قانونية إسمه " بيئة وسلامة".
بإلقاء نظرة على قانون الثروة النفطية لعام 1998م نجد أن المادة 13 (4) لم تطلب من الشركات الا بشكل خجول وبعبارة مبهمة " إيلاء الإهتمام الواجب بجماية البيئة وقد ورد النص بالإنجليزي كالآتي:
"TO GIVE DUE REGARD "
أي أن الشركات لها أن تولى حماية البيئة ومنع التلوث الإهتمام الواجب، وهو من ناحية أولى نص إستجدائي وغير ملزم وغير معبر و كان الأجدر بالمشرع السوداني أن يتمعنه قبل وضعه كنص قانوني يتعلق بأخطر آثار صناعة النفط على الإطلاق. كما أنه من ناحية ثانية نص يفتقر "لقوة" التنفيذ الذاتي حيث أنه لا يحتوي على أي عقوبة في حالة عدم " الإلتزام بايلاء الاهتمام الواجب ".
فإذا رجعنا للعقوبات المنصوص عليها في قانون حماية البيئة لسنة 2001م المادة (21) نجد أنها تعاقب المخالف بالسجن لمدة لا تتجاوز الثلاث سنوات أو بالغرامة التي لا تجاوز عشرة ألف جنيه سوداني أو بالعقوبتين معاً مع جواز مصادرة المواد موضوع المخالفة. لا أظن أن مثل تلك العقوبة مجدية إلا للأفراد فلا يعقل الحكم بسجن "شركة نفط" مخالفة بالرغم من جدوى سجن مديرها. كما أن الغرامة تعتبر شيئاُ لا يذكر مقارنة بالتلوث البيئي وتكاليفه، كما أن مصادرة معدات شركة نفطية من قبيل السفسطة القانونية، وبالرغم من أن القانون إستدرك في الفقرة (4) وأجاز الحكم بالتعويض لجبر الضرر المادي الناجم عن المخالفة ، فإنه من وجهة نظري لازال قاصراً عن حل إشكالية التلوث النفطي كما أن المادة أغفلت حقوق الأفراد في العويض عن الأضرار غير المادية كالإصابة بالأمراض النفسية أو العقم أو إنجاب أطفال مشوهين نتيجة التلوث البيئي النفطي.
أما الإجراء العقابي الآخر لتلويث البيئة فنجده قد ضُمِن في عقود الإستكشاف والمشاركة ( عقد بتروناس 2003م) حيث أن المادة 24(2)(ه) تعطي الحكومة الحق في إنهاء العقد النفطي إذا تسببت الشركة في تلويث البيئة. في هذا الخصوص أرى ان عقوبة إنهاء العقد هي عقاب للنفس، أي كأن الحكومة تفرض العقوبة على نفسها بدلاً من عقاب الشركة على تلويثها للبيئة، فالحكومة كأني بها كمن يضر بنفسه "نكاية في الآخر" فإنهاء العقد النفطي يعني إيقاف عمليات البحث والحفر والإنتاج والعملية النفطية بمجملها وهي في النهاية تؤدي لحرمان الدولة من مداخيل النفط وهي أحوج ما تكون لتلك المداخيل. كما أن إنهاء العقد قد يجلب معه كثير من المشاكل القانونية والمادية، فقد تفشل الحكومة في إثبات مدي تحمل الشركة لكامل المسؤولية عن التلوث وقد تثبت الشركة أنها قامت "بإيلاء الاهتمام الواجب" كما في المادة 13(4) من قانون النفط 1998م ، مع ملاحظة أن كل النزاعات النفطية تخضع للتحكيم مع ما يجره التحكيم وإجراءاته من ضياع للزمن و قد تستغرق القضية سنيناً، كما أن مثل هذه النزاعات قد تضر بسمعة الصناعة النفطية السودانية وتشجع الشركات الأُخري على الإحجام عن الإستثمار في السودان، لذا فان وضع قوانين واضحة في هذا المجال والتركيز علي الرقابة علي أعمال الشركات أولاً بأول وفي كل مرحلة علي حِدة قبل الإنتقال للمرحلة المقبلة قد يكون هو الحل الأمثل.
منطقة أبيي:
من المعروف أن معظم البترول السوداني ينتج من منطقة أبيي ولذا فإنها من أكثر مناطق الإنتاج تأثراً بتلوث البيئة بسبب النفط، والمتمثلة في تدمير وإزعاح والإضرار بحياة تلك المجتمعات إبتداءً بالمسح والاستكشاف الاهتزازي والتهجير القسري بدواعي التأمين والأمن، كما أن عمليات الحفر والإستخراج ورمي بواقي الصناعة النفطية تؤدي الى تسمم المياه ، كما ان المياه الملوثة المستخرجة مع النفط تضخ في الآراضي المجاورة للحقول وتنتشر مع المياه في موسم الخريف وتتسرب للمياه الجوفية هذا غير نواتج حرق النفط وإنبعاث غازات الكربون، والكبريت وغيرها في الجو، مما ينتج عنه تلوث بيئي يطال جميع الكائنات الحية في المنطقة التي تنبعث فيها الغازات. ومن المعروف ان معظم المنطقة (أبيي ومناطق الانتاج الأُخرى) هي منطقة مستنقعات وخيران مائية تغذي المياه الجوفية وكذلك تغذي النيل الابيض مما يعني أن التلوث البيئي بالنفط قد يتسرب وينتقل مع الماء إلى النيل وإلي باطن الأرض.
بعد خروج شيفرون ومقاطعة الشركات ورؤوس الأموال الغربية للسودان إضطر السودان للإستعانة بالصين لإستخراج النفط وخاصة في مربعي 1و 2و 4 وتلك الشركات قامت بإستخدام وسائل تقليدية في الإنتاج من شفط وضخ من غير أي ضوابط ، وقد عمت شكاوى المهندسيين السودانيين من سيطرة الصينين وعدم نقلهم للمعلومات الفنية أو شرحها لهم وأن معظم البيانات والبرامج الإلكترونية والكتلوجات جاءت باللغة الصينية ودون ترجمة، ليس هذا المهم،إنما المهم أن الصينين لا يمتلكون التكنولوجيا اللازمة لتحديد ما يسبق الإنتاج من رسم وتخطيط لكل الحقل لتحديد نوعية المواد ونسبتها ليقارن ذلك بحجم الضغط داخل البئر وهي تكنولوجيا محتكرة للغرب وشركاته، لذا فإن الشركات الصينية لجأت للحفر المتكرر لزيادة الآبار للحفاظ علي نسبة الإنتاج وخاصة في حقل "هجليج" وهو ما أدى لإنخفاض الضغط داخل الحقول وقلل الإستغلال الأمثل للنفط السوداني وما للآبار الكثيرة من تكلفة و من أثار بيئية سيئة. ولرفع الضغط لجأت الشركات لحقن الآبار بالماء وخاصة في حقل هجليج المحتوي بتروله أساساً على كمية من المياه ولإنعدام الحلول الفنية" الأخرى" لدي الصينيين لمشكلة المياه لجأوا لبناء أحواض ضخمة لفصل البترول من الماء وتركت للحكومة مهمة التصرف في تلك المياه الملوثة(خيري عبدالرحمن) والتي غالبا ما تضخ في الخلاء ملوثة البيئة مرة اخري او تتسرب للمياه الجوفية. وفي بحث ميداني أكدت منظمة" بارقة أمل" الألمانية أن التلوث في منطقة الجنوب فاق المعدلات، وأنه أثر على حياة السكان والماشية حول حقلي "ملة وثارجاث" وأثر كذلك على مستنقعات النيل الابيض.
وأكدت المنظمة أن المياه المالحة والمحملة بالمعادن الثقيلة المتسربة من مركز معالجة النفط بثار جاث هو المصدر الرئيسي للتلوث، بينما المصدر الثاني هو المياه الحاوية لمواد كيماوية والمستخدمة عند الحفر. وقد أثبت فحص بعض العينات أن المياه في القرى المجاورة مالحة وتحوي كمية كبيرة من السيانيد والكروم والكادميوم والسترونتيوم والباريوم والزرنيخ، وهو مزيج معدني شبه مطابق لعينات المياه التي يتم إخراجها من مناطق الحفر المهجورة. ويُتَوقع أن الآثار البيئية ستكون مأساوية في منطقة تتألف من سهل واسع ينغمر بالمياه في موسم الأمطار و يغذي شرقا النيل الابيض وتمتد فيه المستنقعات على مد البصر(الحياة). ولا أظن أن "شركة بتروناس" العاملة هناك تملك الإمكانيات الفنية والتقنية والبشرية أو الرغبة لمعالجة الإشكال إضافة للإهمال الحكومي، في وقت اكد فيه اندرو روبينو الطبيب في مستشفى بانتيو عاصمة ولاية الوحدة أن "حالات لم تفسر من الإسهال ومشاكل كلوية خطيرة سجلت إرتفاعًا كبيراً في السنوات الأخيرة" . مما قاد أحد سكان المنطقة للقول باللجوء للحل النيجيري وهو إجبار الشركات للإلتزام بشروط الصحة والسلامة بالقوة أي إختطاف عمالها.
مصفاة الجيلي للتكرير:
تم بناء مصفاة الجيلي في منطقة تعتبر مأهولة بالسكان وقريبة من مناطق أكثر كثافة سكانية حيث تمتد آثار الغازات المنبعثة من مصفاة الجيلي لتؤثر علي سكان مناطق تمتد الى الخوجلاب والكدرو شتاءً ، هذا غير الآثار البيئية والأمراض التي عانى منها سكان قرى واوسي (السبعة) التي تقع جنوب المصفاة مباشرة. وقد أكدت تقارير صحفية إنتشار أمراض عديدة هذا فضلا عن انتشار روائح " غازات" كريهة تؤدي لضيق التنفس ليلا، كما تم التأكيد علي إنتشار حالات الإجهاض وولادة أطفال مشوهيين وزيادة الإصابة بالأمراض الصدرية. وقد اكد مصدر أن المرضي من تلك القرى عليهم بالعلاج في مستشفي المصفاة الصيني داخل المصفاة درءاً لإنتشار خبر تفشي الأمراض المرتبطة بالغازات والمصفاة. وهذه الإتهامات الخطيرة لم يتم إنكارها من قبل مسئولي وزارة الطاقة والتعدين وإنما برروا إطلاق الفائض من الغاز في الجو لعدم وجود مواعين لحفظها والإستفادة منها في إنتاج الطاقة الكهربائية أو الصناعات البتروكيمياوية. والتلوث البيئي الناتج عن مخلفات المصافي لا يتوقف على الغازات وانما نسبة لرداءة التكنولوجيا المستعملة فهناك مخلفات في شكل مواد صلبة وسائلة أيضاً. المخلفات السائلة تتمثل في الماء الناتج من التفاعلات الكيمائية وهذه المياه تختلط بها شحوم ومواد ناتجة من تغيير الزيت ويمكن أن تسبب أضراراً بالغة بالتربة لسميتها، كما يمكن أن تتسرب للمياه الجوفية مما يغيير خصائص المياه المعروفة فيما يخص صلاحيتها للإستعمال الآدمي (الصحافة).
كل هذه الآثار متوقعة في ظل إستعمال التكنولوجيا الغربية فما بالك بالتكنولوجيا الصينية المتواضعة والتي أدت وتؤدي وستستمر في إنتاج مخلفات سائلة أكثر من اللازم ستتسرب إلي المياه الجوفية وقد تتسرب الي النيل غير البعيد عن مصفاة الجيلي. هذا الحديث لا يعني معارضة مطلقة للتوسع الصناعي والمشاريع النفطية الضخمة ولكنه دق لناقوس الخطر من مخاطر إنشاء مشاريع صناعية دون الإهتمام بدراسة ومعالجة الآثار علي البيئة والإنسان والحيوان والمشاكل المترتبة علي تلك المشاريع ودفع مستحقات التنمية والتي من ضمنها حماية البيئة وصحة المواطن التي هي ثروة لا تقدر بثمن حيث أن تفادي الأمراض والتلوث البيئي بإتخاذ الوقاية اللازمة سيوفر مليارات الدولارات التي قد تذهب في سبيل علاج الآثار البيئة والأمراض الناتجة عن ذلك دون جدوى حيت أن وجود مواطن سليم ومعافي هو أهم شروط التنمية وأكبر ثروة تراهن عليها الدول، فان كانت تنمية علي حساب صحة البيئة والمواطن فانها ستكون تنمية غير مفيدة. فمصفاة الجيلي والأبيض كان بالإمكان إقامتهما بعيدأ عن مناطق الكثافة السكانية.
أنابيب النفط:
قد يتساءل البعض عن ما هي علاقة أنابيب النفط بلعنة النفط وتلويث البيئة، لأن الأنابيب مقفلة ولا أحد متأثر بذلك. والإجابة إنها لعنة محتملة ومؤجلة مالم تُتُخذ أساليب الوقاية المبكرة ودراسة سبل تفادي آثار أي تسريب نفطي مستقبلي. وأهم أنابيب النفط هو خط الأنابيب القادم من منطقة أبيي حيث أنه يمر بغرب النيل الي شمال الخرطوم قبل أن يعبر النيل الي الجهة الشرقية ومنها إلي بورتسودان. فهذا الأنبوب قد يكون عرضة للتخريب المتعمد من قبل أي فرد أو جماعة معادية للنظام في الخرطوم مما قد يتسبب في تسرب علي اليابسة يؤدي الي تلويث الآراضي الزراعية في منطقة أبيي أو كردفان أو قد يتعرض للتخريب بعد الإنفصال في إمتداد الأنبوب داخل أراضي الدولة الجديدة إن لم تُتخذ إجراءات مشتركة لحماية الأنبوب. ولكن الخطر الأكبر يتجسد في مساحة الأنبوب العابر للنيل من غرب النيل لشرقه شمال الخرطوم (لا ادري هل يمر الانبوب فوق أم تحت الماء) ولكن في الحالتين فإن حدوث أي إنفجار أو تسرب نفطي في النيل ستكون آثاره كارثية علي مجمل السكان شمال الخرطوم وقد تمتد آثاره لمصر(بيتر فيرني) وخاصة أن السودان لا يمتلك من المعدات والخبرات والكادر البشري ما يمكن ان يحتوي به مثل هذه الكوارث. وفي ظل الواقع الراهن وإعتماد الشمال والجنوب معا (حتي في حالة الانفصال) علي هذا الأنبوب فان الإستعداد والإعداد وتدريب الكوادر لمواجهة اي تسرب نفطي من هذا الانبوب والانابيب الاخرى يجب ان يحظى بتفاهم بين الطرفين.
(نشر من قبل في نوفمبر 2010)
المصادر:
1- J.Bell &T. Faria, Sao Tome and Principe Enacts Oil Revenue Law, Sets new Transparency, accountability and Governance, http://archive.revenuewatch.org/resources/ST_draft_law.pdf
2- Amnesty International: NIGERIA: PETROLEUM, POLLUTION AND POVERTY IN THE NIGER DELTA, 2009.
3- P. Sullivan & N Nasrallah, Improving Natural Resources Management in Sudan (US Institute for Peace, June 2010).
4- http://www.abritabag.net/vb/showthread.php?s=e0c2024989feb7bd5a44881cb3fb4c0b&t=11408
5- http://www.alhayat-j.com/details.php?opt=5&id=99533&cid=1694
6- http://www.alwatansudan.com/index.php?type=3&id=13729
7- www.sudanupdate.org
8- www.spc.sd
9- www.sudaneseonline.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.