مصعب المشرّف: لم يأتي خبر إستعادة القوات النظامية المسلحة لبلدة أب كرشولا مفاجأة للناس ... فالجميع كان على ثقة بقواته المسلحة الباسلة ولتاريخها القتالي المنضبط الطويل .. وأنها إن تركها الساسة في الخرطوم "في حالها" تستطيع فعل الأفاعيل . ولا تقف في وجهها الجبال والغابات والأدغال والرمال المتحركة والأعاصير ..... في مقال سابق بعنوان "هل تطلق أم روّابة سراح قواتنا المسلحة وتعيدها سيرتها الأولى؟"+ جرى تناول أمر القوات المسلحة في ظل نظام المؤتمر الوطني بإستفاضة ..... وكانت "زُبْدة" الموضوع أن تحييد الدور الأمني للقوات المسلحة خوفاً من تدخلها في الشأن السياسي وتاريخ وسوابق إنقلاباتها العسكرية قد أدى إلى صنع فراغ أمني لايتماشى مع الحال السوداني خاصة ... وأنه كان من البديهي أن تملأ جهات مسلحة أخرى هذا الفراغ الأمني بالضرورة ... هذه طبيعة الأشياء ... وهنا يكمن السر وراء تنامي حركات مسلحة متمردة بدأت تتشكل على هيئة عصابات نهب مسلح . ثم أنتهى بها المطاف إلى مليشيات تقوم بتنفيذ رؤى سياسية وجهوية ليس بالضرورة أن تكون جميعها وطنية بقدر ما يعمل بعضها (رغم أنفه) أحياناً لمصلحة إسرائيل تارة ولمصلحة باقان أموم وزمرته من دينكا نوك جنوب بحر العرب ويحلمون بأبيي تارة أخرى. على أية حال نعيد بهذه المناسبة تذكير القيادة السياسية العليا والتنظيم في المؤتمر الوطني الحاكم بأن اللجوء لتطبيق نظرية "القدح الخالي" قد ثبت فشلها ؛ وينبغي التسليم بذلك تماماً لأن البديل للقوات المسلحة النظامية المنضبطة القومية ماثل أمامكم بكل الشفافية ؛ وهو مليشيات متمردة جهوية غير منضبطة تملأ الفراغ ، تقلل من هيبة الدولة وتعيث في الأرض الفساد... تنهب وتذبح وتهتك الأعراض ؛ وترهن سلاحها وتحركاتها بالمزاد لأعلى سعر. وحتى لو قال البعض من الكيزان أن إطلاق سراح القوات المسلحة وإخراجها من القمقم وُوُبْ .. فإننا نعود ونقول لهم إن المليشيات المتمردة التي ستملأ الفراغ قد أثبتت أنها وُوُبين عليهم ؛ وربما أكثر من ووبين وثلاثة أحيانا. لاسيما حين تكون الجهة التي تأوي هذه المليشيات هي "دولة" دينكا نوك . وأن الجهة التي تقوم بتسليح هذه المليشيات والإشراف على تدريب عناصرها ، وتأمين وتوجيه تحركاتها عبر الأقمار الصناعية هي إسرائيل ... وما أدراك ما إسرائيل ....... إسرائيل بنت أمريكا الوحيدة المدللة .... وستظل هذه البنت الوحيدة المدللة تستهدف سودان المؤتمر الوطني طالما ظل هذا السودان على علاقة إستراتيجية مع إيران ومعبراً للسلاح والمال لحركة حماس ؛ وكان الله المستعان. خطورة المليشيات الجهوية المسلحة أنها على العكس من القوات النظامية لاتكون معنية بالحفاظ على النسيج الإجتماعي والتخطيط الحذر لتلافي وقوع أعداداً كثيرة من المدنيين وخراب بنيات اساسية وممتلكات عامة وخاصة ... ولأحل ذلك تمتلك هذه المليشيات دائما ميزة حرية الحركة والسرعة في الإنقضاض والإنسحاب ... ولعل من نافلة القول أن تأمين الإنسحاب الآمن يظل دائما هو المحرض على الهجوم الخاطف .... وعليه فإن خوف النظام الحاكم من إطلاق يد القوات المسلحة النظامية كان دائما هو "السر الأعظم" في تشجيع هذه المليشيات وقدرتها على الهجوم والإنسحاب الآمن الملحوظ ، وحيث لاتوجد قوة حكومية نظامية مسلحة أخرى غير الجيش تمتلك قدرات وخبرات وإمكانات إعتراض هذه المليشيات بعد إنسحابها تمهيداً لإبادتها أو تكبيدها خسائر نوعية قاصمة للظهر. لن تكون أم روّابة وأب كرشولا وبلدات أخرى لا تزال محتلة نهاية المطاف . فغزوات الدفع الرباعي وأقمار إسرائيل الصناعية يبدو أنها ستوقظنا بعد كل تعسيلة وحالة إسترخاء . وستصبح موضة المليشيات الجهوية المسلحة طوال سنوات قادمة بعد أن كان دكتور خليل إبراهيم أول من إبتكرها ووصل بها حتى أمدرمان. ولأجل هذا وبين كل هذا وذاك فمن غير الحكمة ولا من مصلحة السودان العليا على المدى الطويل تقليم أظافر قواتنا المسلحة النظامية المنضبطة وتحويلها إلى مجرد قوات نفير ليس إلاّ ..... لا الأمن ولا الدفاع الشعبي ؛ ولا الجنجويد ولا الشرطة والطلبة يمكن تحويرهم لأداء مهام قتالية وإعتراضية ميدانية في مواجهة طوابير مليشيات مقاتلة مدربة تمتلك أسلحة وأجهزة مساندة متطورة .. وبإختصار فإنه لايمكن وضع البغلة في الإبريق.