مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    ماذا بعد انتخاب رئيس تشاد؟    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور


مختار اللخمي
"أقسى العذاب، أن توهب عقلاً محتجاً، في مجتمع غير محتج." عبد الله القصيمي
حول موضوع الكتاب
1.السيرة النبوية:
كتاب "نبوة محمد: التاريخ و الصناعة للدكتور/ محمد محمود، يقع ضمن كتب التراجم، و السير التي تغص بها مدونات التاريخ الإسلامي. فمن هذه الزاوية، لا أرى جديداً في الكتاب من ناحية المحتوى، لكن ربما يكون الجديد، هو المنهج و طريقة التناول لسيرة أحد أنبياء الأديان السماوية الثلاثة الكبرى. و لكن ما يميز سير الأنبياء عموماً، عن بقية سير البشر، هو أن سير الأنبياء عادة ما تكون محاطة بمقدار كبير من التقديس، و التعظيم. و ذلك لأن الراسخ في أذهان المؤمنين بالأديان عموماً، هو أن سير الأنبياء لها بعد ميتافزيقي، و هو أنهم متصلون بالذات الإلهية، و مرسلون من قبلها إلى البشر. و هنا يتداخل جانب الغيب مع التاريخ البشري. و لكن لأسباب تتعلق برؤية، و اختيارات الباحث، شاء أن يركز بحثه على جانب إشتغال النبوة على التاريخ البشري المحض، باعتبار أن الأديان عموماً ظواهر بشرية.
و هذه الرؤية، و الطريقة في التناول ليست جديدة، سواء عند القدماء، أو عند المعاصرين من الكتاب. و سبق للدكتور/ طه حسين في إسلامياته، خاصة في كتابيه عن الفتنة الكبرى، أن تناول أحداث التاريخ الإسلامي بنفس هذه الرؤية، و هي نزع هالة القداسة عن الفاعلين على مسرح الأحداث حتى يتمكن من الرؤية الموضوعية للأشياء. فقد ذكر أنه يستخدم منهجاً في دراسة التاريخ يختلف عن مناهج القدماء التبجيلية للصحابة. فهو ينظر إليهم كبشر تحكمهم قوانين حركة التاريخ، و إكراهاته، و تحركهم الرغبات، و المطامع التي تحرك البشر في أي صراع بشري في أي زمان و مكان. و هو أيضاً شبيه بموقف محمد أركون في تحليله، و استقصائه للعقل العربي و الإسلامي الذي يعتبره عقل ديني في الأساس. فقد وظف مفهوم "الوعي التاريخي"، في مواجهة "الوعي الميثي"، لكي يتمكن من الحفر في طبقات التراث، و الغوص في أضابيره لكي يصل للحظة التأسيسية التي يقوم عليها التراث الإسلامي من أجل تأسيس رؤية موضوعية للوعي الإسلامي المعاصر.
و استند الدكتور/ محمد محمود في دراسته لسيرة النبي بشكل أساسي، على المدونات الإسلامية، و كتب الأخباريين، مثل سيرة ابن هشام، و الواقدي، و الطبري، و غيرها. و الاعتماد على الأخبار، و الأخباريين كمصادر للدراسة، تثير مشكلات كثيرة اذكر هنا منها أثنين: المشكلة الأولى تتعلق بالأخبار نفسها، و الثانية تتعلق بالتراث الإسلامي، و كيفية تدوينه. أما ما يتعلق بالأخبار، فهو كما تعلمنا في علم البلاغة العربية، فإن علماء اللغة العرب يقسمون الكلام ضمن أقسامه الكثيرة، إلى خبر، و إنشاء. و يعرفون الخبر بأنه: "ما يحتمل الصدق و الكذب لذاته". أي أن الخبر ما يصح أن يقال لقائله، إنه صادق فيه، أو كاذب، فإن كان مطابقاً للواقع، كان قائله صادقاً، و إن كان غير مطابق للواقع، كان قائله كاذباً. هذا بينما يعرفون الإنشاء، و الذي هو عكس الخبر، بأنه "الكلام الذي لا يحتمل الصدق أو الكذب لذاته، و يطلقون عليه أحياناً الطلب. لذلك فالخبر بطبيعته إشكالي، بالمفهوم الفلسفي، فهو يحتمل الصدق و الكذب في آن.
لذلك لاحظت أن الدكتور/ محمد وقيع الله، في الحلقة الرابعة من سلسلة حلقاته حول كتاب "نبوة محمد، بإشارته إلى إختلاف آراء الأخباريين، و ذكر آرائهم السالبة في بعضهم البعض، قد أثار مشكلة، أكثر من تقديمه حلاً للمشكلة، حيث كتب يقول: "و لا أدري كيف يتجاهل باحث متخصص في علم مقارنة الأديان، منهجية البحث المعروفة التي يستخدمها أرباب هذا العلم، و هي عدتهم الأساسية، و هي منهجية التحليل المقارن، و يغفل عن مقارنة النص الذي جاء به بنصوص أخرى في موضوعه جاءت بإفادات مختلفة". و أشار كذلك إلى الآراء السالبة لكل من أحمد بن حنبل، و الإمام الذهبي، و أبو فرج الأصفهاني، في ابن الكلبي صاحب كتاب "الأصنام، من أنه راوية رافضي معروف بالكذب، و متروك من أجل ذلك من العلماء، و لا يثق برواياته حتى الأدباء. هذا القول يغفل حقائق مهمة تتعلق باللحظة التأسيسية في الإسلام، و الصراع الذي دار حينها بين العلماء، و من أن التدوين نفسه، قد تم في جو من الصراع في عصر غاطس في المشافهة، حيث يتم تأسيس المواقف طيقاً لرغبات متعارضة، فكل باحث كان يدفع في إتجاه الموقف الذي يرغب فيه، فيجعل من إشارة وردت هنا، أو هناك سنداً لموقفه، أو دحضاً لموقف خصمه. ففي هذا التراث، يوجد ابن تيمية، و ابن سينا، و ابن رشد، و ابن الراوندي، فأيهما نختار، و كيف؟!
كما يغفل هذا الموقف أيضاً، الصراع الذي دار في صدر الإسلام بين المشافهة، و الكتابة. فالأديان نتاج الحقبة الشفاهية، و في تلك الحقبة حفظت نصوصها في الذاكرة، قبل أن يتم تدوينها، فيما بعد. لقد ورد عن الرسول قوله: "لا تكتبوا عني شيئاً سوي القرآن، و من كتب عني غير القرآن، فليمحه". و لما استؤذن أن يدون حديثه، قال مستنكراً: "أكتاباً غير كتاب الله تريدون؟ ما أضل الأمم من قبلكم، إلا ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله." و ورد عنه أيضاً قوله: "إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة". ( عن موسوعة السرد العربي، للدكتور/ عبد الله إبراهيم، الجزء الأول، الصفحة 44). و هذه فقط باقة مختارة من الأحاديث تعكس التوتر الذي ساد في صدر الإسلام بين المشافهة، و الكتابة.
و هناك أيضاً ملاحظة مهمة ذات صلة بهذا الأمر، و جديرة بالتأمل، و هي أن عصر التدوين، قد بدأ في ظل المؤسسة الدينية، في القرن الهجري الثاني الذي وصفه طه حسين بأنه عصر الشك، و الاضطراب الناتج من تداخل الثقافات، و الأعراق، و الشعوب. فاستبعد التدوين ما لا يتوافق و شروط الإمبراطورية الإسلامية، و استوعب ما وافق هذه الشروط، و عضونه في جسد الثقافة الإسلامية.و ذلك لأن قانون التصادم بين الثقافات و الأفكار لا يسمح بالزوال المطلق للثقافة المهزومة. و هنا يذكر محمد أركون في إحدى ملاحظاته الثاقبة، أن المسيحية قد ورثت الإمبراطورية الرومانية الغربية، ثم الشرقية، أي أن المسيحية قد وجدت الدولة قائمة، بينما الإسلام نشأ في منطقة لم تعرف ظاهرة الدولة المركزية في تاريخها، فالإسلام هو الذي أنشأ الدولة، و قد كانت دولة ثيوقراطية قابضة، ملك عضوض، لذلك كان الكثير من العلماء، و المفكرين، و الكتاب، جزء من جهاز هذه الدولة، لذلك كانت مهمتهم الأساسية هي تبرير توجهات هذه الدولة، و من خالفها واجه مصيره المأساوي، مثال لذلك واقعة أحمد بن حنبل حول خلق القرآن مع المعتزلة. لذلك يجدر التعامل بحذر مع نصوص هذا التراث.
و كنتاج لعملية التنقية للموروث السردي القديم التي قام بها التدوين، ضاع جزءً هائلاً من الموروث الثقافي القديم. و هنا يعزو الجاحظ إلى الفضل الرقاشي، القاص، و الخطيب، و السجاع، و أشهر قصاص البصرة في القرن الثاني الهجري، قوله بغزارة النثر العربي القديم، طبقاً لما أورده على لسانه من أن "ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر من ما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشره، و لا ضاع من الموزون عشره." ( عن المحاورات السردية للدكتور/ عبد الله إبراهيم، صفحة 13، نسخة إليكترونية). و الرقاشي هنا لا يؤكد قدم المرويات النثرية و غزارتها فحسب، بل يؤكد الحقيقة المرة: و هي ضياع تسعة أعشار ذلك النثر، بينما بالمقابل جرت رواية تسعة أعشار المرويات الشعرية. فحفظ الشعر، و تناثرت المرويات النثرية.
كما ألاحظ أن الدكتور/ محمد وقيع الله قد استخدم نفس المنهج الذي عابه على دكتورم محمد محمود، و اتهمه من خلاله باتباع هواه، و هو عملية المقارنة بين النصوص، ثم القيام بعملية الترجيح، و التي هي في الأساس مسألة عقلانية محضة.فكتب يقول: "...أن يستخرج سمات التوافق و المخالفة بينهما، ثم يوازنهما ليرجح أيهما أقوى. و هذا هو فحوى منهجية التحليل المقارن التي لم يلتزم بها المؤلف." و المشكلة هنا كيف تتم عمليةالترجيح للأقوي، و ما هي معايير القوة، و الضعف على النصوص، هل هناك أسس موضوعية مستقلة عن الذات، أم هي مجرد عملية تفكير رغبوي؟!
2. ظاهرة النبوة:
هل النبوة ظاهرة شرقية محضة؟! يلاحظ أن الأديان السماوية التوحيدية الثلاثة، اليهودية، و المسيحية، و الإسلام، كلها ظهرت في منطقة الشرق الأوسط. و نقول "الأديان التوحيدية الثلاثة"، على الرغم من الديانة "الزرادشتية" الفارسية، هي الأخرى تتدعي أنها ديانة توحيدية، لأنها تؤمن بإله واحد، و لها كتاب مدون يسمى "البستاه"، مثل بقية الكتب السماوية، كما أن ديانة أخناتون في مصر في عصر الفراعنة كانت أيضاً ديانة توحيدية. بالإضافة لهذا، هناك أيضاً أديان "أرضية" كبرى توجد كلها في منطقة الشرق الأدنى، مثل الديانة البوذية، و الديانة الكنفوشيوسية في الصين، و الديانة الهندوسية، و ديانة السيخ، و ديانة براهما، و غيرها.
فهل هناك تفسير لذلك. لعل عالم الإجتماع العربي، ابن خلدون هو أول من حاول أن يقدم تفسيراً عقلانياً لظاهرة النبوة، و التي نثرها في مقدمة تاريخه الطويل، و التي اشتهرت باسم "مقدمة ابن خلدون. و في الواقع ظلت مقدمة ابن خلدون تجتذبني باستمرار، و تحيرني بطرافة آرائها. و قد ظلت هذه المقدمة مغمورة في زوايا النسيان، و لم يلتفت، أو ينتبه لها أحد، إلى أن قيض للمستشرق الفرنسي، "باترومان" أن ينفض عنها الغبار، و يخرجها إلى دائرة الضوء عام 1940م، أي بعد حوالي 450 عاماً من وفاة مؤلفها بن خلدون. و قد انتبه لجدة، و طرافة آراء ابن خلدون في السياسة، و العمران، و الإجتماع البشري، و عده مؤسساً لعلم الإجتماع، و فلسفة العلوم السياسية، قبل أن يعرفها الغرب. و من بعدها اندفع العرب، و المسلمون، خاصة ذوي التوجهات الأيديولوجية، يندفعون للإشادة بان خلدون، مثل المفكر "العربي القومي"، ساطع الحصري الذي أدار دراسة طويلة حول ابن خلدون، كعالم عربي سبق الغرب في مجال علوم الإجتماع، و السياسة.
حاول ابن خلدون أن يقدم تفسيراً عقلانياً لظاهرة النبوة في الشرق، في المقدمة الثالثة التي بعنوان "المعتدل من الأقاليم و المنحرف و تأثير الهواء في ألوان البشر و الكثير في أحوالهم." و هنا اقتبس هذا النص الطويل نسبياً من مقدمته: "قد بينا أن المعمور من هذا المنكشف من الأرض، إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه، و البرد في الشمال. و لما كان الجانبان من الشمال و الجنوب متضادين من الحر و البرد، وجب أن تندرج الكيفية من كليهما إلى الوسط، فيكون معتدلاً. فالإقليم الرابع أعدل العمران، و الذي حافاته من الثالث و الخامس، أقرب إلى الإعتدال، و الذي يليهما. و الثاني و السادس بعيدان من الإعتدال، و الأول و السابع، أبعد بكثير. فلهذا كانت العلوم و الصنائع و المباني و الملابس و الأقوات و الفواكه، بل و الحيوانات، و جميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة، مخصوصة بالاعتدال ، و سكانها من البشر، أعدل أجساماً، و ألواناً، و أخلاقاً، و أدياناً، حتى النبوءات، فإنما توجد في الأكثر فيها، و لم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية و لا الشمالية، و ذلك أن الأنبياء و الرسل، إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم و أخلاقهم." المقدمة صفحة 34.
لذلك يرى بن خلدون أن النبوة لا تحدث إلا في المعتدل من الأقاليم، و هي منطقة الشرق. و لا شك أن ابن خلدون هنا متأثر بنظرية "الكيوف الطبيعية لأرسطو. فأرسطو قسم أمم الأرض إلى ثلاثة شعوب: الشعوب الأوربية: و هي القاطنة في الأرض الباردة، في شمال أوربا الحالية، و هؤلاء يتصفون بالشجاعة، لكنهم منحطون من جهة الذكاء و الصناعة. و الشعوب الآسيوية: و هم يتصفون بالذكاء و الإنتاج الفني، إلا أنهم يفتقرون إلى القلب، الأمر الذي جعلهم يقبلون الاستعباد و الطغيان. و أخيراً الشعب الإغريقي: و هو يجمع بين كيوف النقيضين، و تحديداً يجمع المظاهر الإيجابية من تلك الكيوف، و ذلك بحكم موقعه الجغرافي، فهو ذكي و شجاع، و لذلك فهو مرشح لفتح العالم إذا توحد في دولة واحدة. و لا يخفى على أحد ما تستبطنه نظرة أرسطو من تحيز عرقي واضح ضد الأعراق الأخرى.
لكن السؤال الذي يثور هنا، هل ابن خلدون يقول بصناعة النبوة، أي أن النبوة تطور طبيعي يحدث للكائن البشري، و ليست عملية اصطفاء إلهي حر؟! ذكرني كتاب نبوة محمد: التاريخ و الصناعة للدكتور/ محمد محمود كلاماً قديماً في مقدمة ابن خلدون، أثار دهشتي وقتها،و شكل لي مصدر صدمة عندما قرأته لأول مرة، مما اضطرني بعد قراءة كتاب نبوة محمد أن أرجع لقراءة المقدمة مرة أخرى. ففي المقدمة السادسة من مقدمة بن خلدون، و بعنوان جانبي: "و لنذكر الآن تفسير حقيقة النبوة على ما شرحه كثير من المحققين، ثم نذكر حقيقة الكهانة، ثم الرؤيا، ثم شأن العرافين، و غير ذلك من مدارك الغيب، تحدث ابن خلدون هنا عن ما أطلق عليه "عالم التكوين"، و الذي يتشكل من حلقات من الأكوان، و كل كون له إستعداد طبيعي للصعود إلى أعلى، أو الهبوط إلى أسفل بدءً من الأرض، ثم الماء، ثم الهواء، ثم النار. و يتصل العالم المحسوس بدوره، بعالم الأفلاك الذي يبدا بالمعادن، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الحلزون و الصدف، ثم الإنسان، ثم الملائكة، في تصور أشبه بتصور داروين في نظرية التطور.
و على الرغم من أن ابن خلدون لم يقل صراحة بأن النبوة تطور طبيعي يحدث للكائن البشري، ربما بسبب المناخ الديني السائد، إلا أنه تحدث بشكل ملتبس عن مثل هذا التطور، على الرغم من أنه لم يحدد الأسباب التي تجعل إنساناً ما يصعد إلى مرتبة النبوة، و لا تجعل آخر كذلك. و هنا اقتبس جزء من المقدمة السادسة، حيث لا يسمح الحيز باقتباس طويل في مثل هذه المقالات:
"اعلم. أرشدنا الله و إياك، أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب و الإحكام و ربط الأسباب بالمسببات و اتصال الأكوان بالأكوان و استحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه في ذلك و لا تنتهي غاياته. و أبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني، و أولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض، و كل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعداً و هابطاً، و يستحيل بعض الأوقات، و الصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك، و هو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط، و بها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها و أوضاعها، و ما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها ، ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدرج......ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر و آلته البطن الأوسط من الدماغ، و هي القوة التي تقع بها حركة الرؤية، و التوجه نحو التعقل، فتحرك النفس بها دائماً لما ركب فيها من النزوع للتخلص من درك القوة و الإستعداد للذي للبشرية، و تخرج للفعل في تعقلها متشبهة بالملأ الأعلى الروحاني، و تصير في أول مراتب الروحانيات في إدراكها بغير الآلات الجسمانية، فهي متحركة دائماً و متوجهة نحو ذلك، و قد تنسلخ بالكلية من البشرية و روحانيتها إلى الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب، بل بما جعل الله فيها من الجبلة و الفطرة الأولى في ذلك."
و نواصل في الحلقة القادمة الرد على مقالات خالد موسى دفع الله التي تظهر في يوم الخميس من هذا الإسبوع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.