أسرعت سيارات التوزيع بالحوادث، طازجة وساخنة، من الخرطوم بحري، إلى امدرمان على الضفة الاخرى من النيل، وإلى الخرطوم على الضفة الأخرة من النيل الأزرق.. وهما المدينتان اللتان تشكلان مع بحري، العاصمة المثلثة، وفقا للتوصيف القديم. كنا لا نزال، في دار فرح للطباعة والنشر، حين عادت سيارات امدرمان والخرطوم، محملة –بعد وقت- بالحوادث. سألنا بالحاح وكان الرد: الجسور مغلقة بالجيش، بحسب تعليمات القيادة! إنه الإنقلاب، إذن.. وكانت الخلفية لهذا الظن، المذكرة التي رفعتها القيادة العليا للجيش، قبل فترة لرئيس الحكومة، والتي كان يشتم منها بانف كلب بوليسي، ان الجيش قد سئم المماحكات السياسية، التي ادت غلى اهيار تام للامن، مهذا ماقد يعرض امن الوطن كله، للخطر! نهرت سيارتي، إلى جسر النيل الازرق، ثم جسر القوات المسلحة، على النيل الازرق، ثم إلى الجسر الذي يربط بين الخرطوم بحري وامدرمان: كانت الجسور الثلاثة مغلقة بأصحاب الخوذات والملامح الخشنة والدبابات. تيقنت ان الجيش قد فعلها. نهرت سيارتي، إلى دار فرح. غيرت المانشيت سريع: الدبابات شيعت الديمقراطية الثالثة، وانزلت خبر: الصادق للحواث،إلى أسفل الصفحة، مع الغشارة، إلى الحوار في الصفحة الثالثة، على انه آخر حوار مع الصادق في الديمقراطية التي غابت عنها الشمس. دارت المطبعة، وحين إشرأبت أول صفحة، من ( الرول) ( طق) انقطعت الكهرباء، وغرقت المطبعة، والخرطوم، والودان كله، في الظلام! انتظرنا لوقت، وحين اشار الوقت إلى السادسة صباحا، نهرت سيارتي- وكان معي الزملاء جمال عدوي وعمر اسماعيل وعبدالعزبز عيدرالروس، إلى الخرطوم. عن اول ناصية شارع من دار فرح، لمحت سيارة جيب عسكرية، في مقعدها الامامي رتبة، وعلى متنها ثلاثة جنود يحملون كلاشنكوفات، كان على أحدهما من اعرفه تماما، جنديا في سلاح الموسيقى. انحرفت بالسيارة، اطارد الجيب. توقف: شنو يا عبدو بقيت تشيل الكلاشن؟ اطلق واحدة من ضحكاته: وامال دايرني أشيل الريد وأشيل ودو، في هذا اليوم! تحرك لساني بالسؤال للرتبة: ياجنابو.. الإنقلاب يقيادة الفريق فتحي؟ وكان الفريق فتحي أحمد على رئيسا للاركان في ذلك الوقت.. وهو الذي كان قد ارسل مذكرة الجيش الشهيرة. - البلد دي مافيها راجل غير الفريق فتحي؟ السؤال كان انكاريا.. وكان بالضرورة، يحرك اللسات بسؤال أخر، لكن جنابو، امتنع عن كشف هوية الإنقلاب، مكتفيا بالقول: انتظروا البيان الأول! كانت تلك اول إشارة، ربما كانت في ذلك اليوم، أن الغنقلاب ليست له صلة مباشرة، بالمذكرة الشهيرة: مذكرة القيادة. عند كوبري القوات المسلحة، ترجلنا من السيارة، اقتربت من رتبة، أستأذنه المرور: نحن صحفيين مساهرين في المطبعة، ونريد فقط العبور. طلب منا ان ننتظر( شوية) وسيسمح لنا بالمرور. رحنا ننتظر. كان ثمة انس: عمال وجنود والقليل من السيارات تنتظر-أيضا- قريبا، من الدوار الذي يفضي إلى الجسر. فجاة وقفت سيارة دبلوماسية بيضاء، رباعية الفع، وترجل منها شاب ( أسمراني اللون) ويحمل شنطة دبلوماسية. وراح يهتف: لا احزاب بعد اليوم.. لا حزبية ولا..." كان ذلك الشاب منطبعا في ذاكرتي، منذ الجمعة التي ابتسم فيها الأستاذ الشهيد محمود محمد طه، وحبل المشنقة يلتف حول عنقه، في 18 يناير من العام (985 1) كان وقتذاك، يهتف- ملء حلقومه وكما لو كان قد افطر بساندسيستم- (سقط هبل.. هذا الحكم حكم الشعب وهذا الشعب شعب مسلم) وهو احد الهتافات الشهيرة للاخوان المسلمين. التفت سريعا للزملاء الثلاثة، أقول: على الطلتاق يالتلاتة الجبهة القومية الاسلامية مسكت البلد! جاءني صوت عمر اسماعيل: ياهاشم البيان لسع ماانذاع وانت حكمت عليهم بالجبهجية؟ قلت له .. هذا الشاب أعرفه منذن اعدام الأستاذ.. والأيام بيننا! عادت السيارة الدبلوماسية، وانحشر قيها، وانطلقت باتجاه حلة كوكو والحاج يوسف، و.. عبرنا! و... لا نزال زوجتي الفاضلة في عصمتي!