:- وهي تغالب نفسها من الضحك ؛ قالت المذيعة في قناة الجزيرة الأخبارية أن السعودية قد منعت الطائرة التي تقل الرئيس السوداني من عبور أجوائها إلى إيران ..... وعلى الرغم من إقتضابه فقد أثار هذا الخبر بالطبع الكثير من علامات الإستفهام حول الأسباب التي دفعت السعودية إلى منع عبور الطائرة التي تقل رئيس جمهورية السودان (العربية) وجارتها الإستراتيجية من عبو أجوائها .... فما هكذا تعودنا على السعودية في مجاملاتها وعلاقاتها مع الرؤساء والمسئولين العرب عامة والسودانيين منهم خاصة. في الداخل قوبل هذا الموقف المحرج بشماتة منقطعة النظير من جانب المعارضة السياسية والمسلحة على حد سواء ؛ وبدأ البشير في نظر المهمشين والغبش مهمشاً وأغبشاَ عربياً هو الآخر وبإمتياز ... أو كأنه " ود الحِلة " المتفلهم الذي اشترى الفيزا وغادر بغرور إلى جدة ؛ ثم ما لبث أن عاد مقهورا على وقع الكَشّة. والبعض في الخارج تخيل للوهلة الأولى أن السعودية قد تعاملت مع الرئيس البشير رضوخاً لقرار وضغوط هائلة من المحكمة الجنائية الدولية . وأنها إختارت أهون الشرين ؛ وهو منع الطائرة التي تقله من عبور أجوائها بدلا من إجبارها على الهبوط وتسليم البشير إلى المحكمة الجنائية في لاهاي.. ولكن الذي غاب عن ذهن الكثير أن السعودية قد رغبت في واقع الأمر ، وبشكل مباشر إجبار الرئيس البشير على عدم السفر إلى إيران في هذا التوقيت بالذات الذي يصادف مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد "حسن روحاني". سفر البشير إذن يفهم منه أنه مباركة عربية للرئيس الجديد على المستوى القومي .... وتعبير عن الرغبة في إمتداد وإستمرار العلاقات الطيبة الخاصة بين البلدين السوداني والإيراني. السعودية بدورها لايعجبها هذا الود وتلك العلاقات الحميمية التي باتت تربط بين الخرطوموطهران . هذه العلاقات التي تستغلها إيران الرسمية من جهة لإستعراض عضلاتها البحرية الحربية في مياه البحر الأحمر ... ولما يوفره لها السودان من دعم لوجستي فاعل يستفز للسعودية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى ؛ ويستفز بالتالي الولاياتالمتحدة بوصفها الحليف الإستراتيجي لإسرائيل. من جهة أخرى فإن الدعم اللوجستي الذي يجده الأسطول البحري الإيراني من القاعدة البحرية السودانية يعطي زخماً للحوثيين (الشيعة) في شمال اليمن المتاخمين لحدود السعودية الجنوبية ... ولاشك أن بعض قطع هذا الأسطول تلقي بالأسلحة والذخيرة والإمدادات وعناصر الحرس الثوري إلى قوارب الحوثيين وسنابيك الصوماليين المتخصصين في التهريب ، الذين يسلمونها بدروهم للحوثيين . فتعينهم في حربهم المكشوفة ضد الحكومة اليمنية وتلك المستترة ضد السعودية . ثم ومن جهة أخرى نلاحظ إستغلال إيران الملالي الشيعية في قم لهذه العلاقة الحميمية مع الخرطوم في تصدير الثورة الخمينية الإيرانية إلى السودان أولاً . وبإعتباره قاعدة العبور والجسر الطبيعي نحو غرب ووسط أفريقيا . والذي شهد تاريخه ولا يزال دخول الإسلام إلى معظم أفريقيا عبر أراضيه .......... كما وتفيد التقارير الحديثة أن ظاهرة التشيع في السودان وأفريقيا تسير بخطوات حثيثة منقطعة النظير . وذلك بالنظر إلى أن السودان نفسه وكذا أفريقيا المسلمة السوداء تعتبر صفحة بيضاء . ولديها إستعداد فطري لتقبل الأفكار الجديدة بداية من طيور الجنة مروراً ببروتوكولات صهيون وإنتهاءاً بالطائفي الجعفري المصحوب بتجديدات الخميني الذي يلعب على وتر حب آل البيت الحساس لدى المسلم الأفريقي. لاسيما إذا أخذنا في الإعتبار أن أفريقيا لم تعاني طوال تاريخها الإسلامي من نشوب حرائق إقليمية بسبب النزاع الحضاري والطائفي بين العرب والفرس ؛ ثم السنة والشيعة مثيل لما تعرضت له رصيفتها الآسيوية سواء في الجزيرة العربية والعراق والشام وغرب آسيا خلال الفترة ما بين معركة القادسية مروراً بموقعة الجمل ثم كربلاء وإنتهاءاً بإكتساح المغول....... كذلك يستغل الشيعي الإيراني فقر الأفارقة وغياب العرب السُنة عن الدعوة الإسلامية لعدم التمويل وعدم الإدراك والجدية لدى الحكومات العربية في هذا الشأن ؛ فنرى (إيران) تقدم للأفارقة الدعم المادي والعلاج والتعليم والسكن والطعام المجاني وفرص العمل على نحو شبيه بما كانت ولا تزال تقدمه من تمويل ورعاية أبوية للشيعة العرب في لبنان . وكذلك لأبناء فلسطين في قطاع غزة اللذين يعانون من حصارين إسرائيلي وعربي .. فإلى من يتوجهون ويهربون بعد أن تم حشرهم في الزاوية؟ حشر الحليف الإستراتيجي أو العدو في الزاوية قد لايكون الطريق والسياسة الأسلم دائماً ... بل هي دائما سلاح ذو حدين .... والإنسان خلقه الله عز وجل كي يعيش لا أن يسعى بظلفه نحو حتفه .. وهو ما يستدعي دائماً تعلق الغريق منه بالقشة .... هكذا فعلت حماس في غزة .. ويفعل المؤتمر الوطني في السودان جراء فرض الحصار الغير معلن عليه على نحو لم يعد أمامه سوى الإرتماء في أحضان إيران وعينه تنظر إلى علاقات إستراتيجية مع روسيا بوتين داخل الجلباب الإيراني .. علاقات شبيهة بتلك التي أفلحت فيها سوريا الأسد . وبعد أن ثبت لحكومة المؤتمر أن الصين لا تتقن سوى إتباع سياسة "الإمتناع عن التصويت" في مجلس الأمن . ولا تهدد بإستخدام الفيتو إلا لمصلحة كوريا الشمالية. وفي حضور الكثير من التفاسير فالشاهد أن السلطات السعودية لم تأبه بحقيقة أن الذي بستقل هذه الطائرة كان الرئيس السوداني بشحمه ولحمه والوفد المرافق له ... وحيث لا يعقل أن تمر زيارة البشير إلى إيران مرور الكرام دون علم الإستخبارات السعودية في السودان وتمريرها على عجل إلى أعلى المستويات في الرياض ... ولكن جاء تعليل السعودية الأمر بأن السلطات السودانية لم تطلعها بمرور الطائرة بوقت كاف على سبيل التجمل والسماحة .. والدليل الأوفر أنها وبعد أن عادت الطائرة أدراجها بخفي حنين للخرطوم لم تكلف الخارجية السعودية نفسها بالإعتذار للرئيس السوداني أو حكومته على الرغم مما يمثله السودان من موقع إستراتيجي إلى جوار السعودية وشراكته لها في البحر الأحمر . وعلى ضوء الشد والجذب داخل مياهه الدولية بين البحرية الإيرانية والإسرائيلية اللتان لايمكن الإستهانة بقوتهما البحرية وتهديدهما للأمن القومي السعودي بوجه خاص. فإن الحسبة السعودية هنا تبدو مفاجئة وربما غير محسوبة بدقة ميزان الذهب المفترضة في هذه الحالة ولجهة حساسية العلاقة. ................... واقع الأمر فإن الذي رشح بعد الأزمة الناتجة عن الإنقلاب على الشرعية في مصر هو قناعة النخبة السياسية العالمية ، ودهاليز الدبلوماسية العربية أن جماعة الإخوان المسلمين تتسم بالبراجماتية في ردود أفعالها . وميلها دائما للخضوع لتهديد القوة ومساومات تحت الطاولة ... فهل ينسحب هذا الإنطباع على حكومة "الكيزان" الإخوان المسلمين السودانية ؟؟ أخشى أن الرئيس عمر البشير لاينتمي تاريخيا لحزب الإخوان المسلمين ولا حتى للجماعة الإسلامية ..... وأن الطبع يغلب التطبع .... وأن طبع الجعلي وردود أفعاله المباشرة تظل بعيدة كل البعد عن البراجماتية ... فهل يستدعي عمر البشير طباعه وجيناته الجعلية لتحديد ردود أفعال السودان تجاه هذه الإهانة التي تعرض لها شخصياً قبل أن تكون بوصفه رئيساً لدولة عربية أفريقية كبرى عريقة الإستقلال؟ لقد أثبت الرئيس البشير جعلتيه في تعامله مع حكومة الجنوب عقب أم روابة وأب كرشولا . وقراره المنذر بإيقاف ضخ النفط الجنوبي يؤكد أنه بعيد كل البعد عن براجماتية حلفائه من الإخوان المسلمين في الحكم الذين سارعوا قبل ذلك إلى رفع عراريقهم وإرخاء تكك سراويلهم خلال مباحثاتهم خلف الباب المغلق مع الجنوبي في أديس أبابا ... وكادوا يمنحونه الحريات الأربع لولا أن تداركتهم إحتجاجات ورفض وصمود الشرفاء من نخب الشعب السوداني . الإحراج الذي تعرض له عمر البشير لم يسبقه على مستوى رؤساء الدول الأفريقية سوى ذلك الذي تعرض له الرئيس الكنغولي الأسبق تشومبي ؛ على يد الرئيس جمال عبد الناصر. بسبب إتهامه بإغتيال الرئيس باتريس لوممبا. الأيام وربما الأسابيع القادمة ستشهد حتماً بروداً في العلاقات الدبلوماسية بين الخرطوموالرياض .... ولكن ستظل درجة برودة هذه العلاقات تتوقف دائما على مدى الفائدة التي ستظل تجنيها الخرطوم من علاقتها مع طهران من جهة ؛ والخسائر التي ستتعرض لها جراء توتر علاقتها مع الرياض ...... وبين هذه الكفة وتلك الأخرى يتداخل بُطان البشير الجعلي مع وبراجماتية الكوز الأصلي...... وستبقى "الكَشّة" في كل الأحوال حنظلاً وشوكة سمك في حلق البشير الذي لن يهدأ له بال حتى يستعيد كرامته الشخصية قبل الرئاسية.