كاد أهل الحي أن ينسوا ملامح عاطف .. فقد مرت خمس سنوات منذ مغادرته السودان الى قاهرة المعز .. حتى توقفت ذات مساء عربة أمجاد أمام منزل حاجة صفية .. بداخلها عاطف وحصاد خمس سنوات غربة .. ثلاثة شنط كبيرة .. وكرتونة متوسطة الحجم .. انطلقت زغاريد حاجة صفية فرحة بعودة الابن الضال .. فهو طيلة الخمس سنوات التي قضاها في القاهرة لم يكن يراسلهم أو يتصل بهم .. كانت الوسيلة الوحيدة في تسقط أخباره هي سؤال السودانيين القادمين من القاهرة عنه .. تغيرت ملامح عاطف .. زاد وزنه .. وفتحت بشرته .. زحف الشعر الى الوراء مفسحا الطريق لصلعة في طور الجلحات .. كان نصيب شلة العمود من الهدايا .. باكو سجائر من نوع ( كليوباترا ) لكل واحد .. كان يحكي لنا يوميا عن مغامراته البحرية من خلال عمله كبحار على ظهر احدى البواخر التي تجوب الموانئ الأوروبية انطلاقا من الموانئ المصرية .. ورغم علمنا أن نصف مايقوله لنا بعيدا عن الحقيقة ولم يحدث على أرض الواقع .. الا أن أسلوبه الجذاب وطريقته المشوقة في السرد .. جعلانا نتغاضى عن بعض المبالغات والبطولات الزائفة التي كان ينسبها الى نفسه .. حتى إلتقينا بعادل رفيق رحلاته البحرية .. ليفجرها داوية بقوله أنه وعاطف كانا يعملان ضمن طاقم المطبخ بالباخرة .. تحت إمرة كبير الطباخين وتقتصر مهمتهما في تقشير البطاطس وتقطيع البصل .. ومن يومها توقف عاطف عن إمتاعنا بقصصه المشوقة ومغامراته المخستكة بعد إجهاض عادل محاولاته الغير متقنة في نسج بطولات متوهمة ... ( ما عافية منك كان ختيت كراعك في باخرة تاني ) بهذه العبارة الحاسمة أجهزت حاجة صفية على أي أمل عند عاطف في العودة إلى حياة البحر .. فما كان أمامه سوى الخضوع لرغبة حاجة صفية .. بعد فترة من الزمن يمم وجهه شطر السعودية ( عمرة وزوغة ) .. بعد عام قضاه متنقلا من بيت عزابة الى آخر .. عاد عاطف الى حضن الوطن .. عودة محارب منهزم كسير الخاطر .. دون أن يحس به أهل الحي .. ودون أن تنطلق زغاريد حاجة صفية لتشق سكون الليل .. هكذا يعود من يتعثر بالكشة .. الشئ الوحيد الذي إكتسبه من رحلة السعودية أنه صار أحرف من يلعب ( الوست وكونكان 14) رغم أنه قبل سفره لم يكن يجيد لعب ( الليدو ) .. فكر عاطف في خوض معركة العمل داخل البلد .. شرع في دراسة كورس للإسعافات الأولية .. وتعلم ضرب الحقن .. إستلم شهادة الكورس ووضعها في إطار ذهبي أنيق .. وعلقها على حائط الديوان بعد أن كتب عليها بخط ردئ ( دبلوم طب ) أصبح تمرجي الحي لفترة من الزمن .. لكنه سرعان ما مل تلك الوظيفة .. وصار يبحث عن بديل .. شوهد عاطف آخر مرة .. وهو يبيع سندوتشات الطعمية بميدان جاكسون ... يداعب الزبائن ويحكي لهم عن مغامراته السندبادية ... ما يعجبني في عاطف أنه برغم تخبطه في دروب الحياة .. بلا طموح أو هدف محدد .. لم ييأس ولم يتوقف عن السعي ليندب حظه .. فهو من أنصار مدرسة ( على المرء أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح ) .