لازالت تلك الكلمات ترن فى ذاكرتى رغم مرور السنوات ... ( الأساطير والأحاجى التى يرويها الناس معظمها حدثت فى الماضى .. مع اختلاف الزمان والمكان واختلاف بعض التفاصيل ) قالها أستاذ التاريخ بمدرسة الدامر الابتدائية لأستاذ الدين وهما يحتسيان الشاى السادة فى فسحة الفطور .. داخل البرندة التى تتوسط مكاتب الأساتذة . لا أدرى مدى صحة ما ذهب اليه أستاذ التاريخ من الناحية الدينية والتاريخية .. لكن ما أدريه تماما ان تلك الواقعة قد استوقفتنى كثيرا ولا زالت .. فهى لاتخلو من رؤية فلسفية عميقة الدلالات . عندما سأل بروفيسور ( ويليام كاستل ) أستاذ الأنثروبولجى أحد كهنة التبت عن تفسير بعض الظواهر والعادات الغريبة لسكان الهضبة .. أجابه الكاهن : ( فى هذه الحياة هنالك أشياء يجب ان نقبلها كما هى دون تفسير ) وهو منطق غير مقبول للانسان الفضولى بطبعه .. لاسيما وجود نزعة قوية لديه لمعرفة كل شئ والبحث وراء كل شئ . تماسيح بحر أبيض خريف 89 الأرض مبتلة ومرصعة ببرك المياه والأفق ينذر بالمزيد ... الأحذية الملطخة بالطين تصعد الى البصات النظيفة فى طريقها الى فجاج السودان المختلفة .. كنت أحد ركاب النيسان بالرقم 5037 فى طريقى الى الدويم بدعوة من عمى محافظ الغابات آنذاك (عليه الرحمة) أكثر ما لفت انتباهى وأنا أعبر بالبنطون من الضفة الشرقية الى الضفة الغربية اتساع النيل فى هذه المنطقة حتى أنه يتعذر رؤية الضفة الأخرى فى بعض الأماكن ... غادرت البنطون وأنا اتلفت فى كل الاتجاهات مثل أى غريب تطأ قدمه مدينة لأول مرة ... وعلى غير العادة كادت ان تطابق الصورة الذهنية التى رسمتها للمدينة ما شاهدته على الطبيعة وهو أمر نادر الحدوث .. فدوما ما نخفق فى رسم صورة قريبة للأماكن التى نزورها لأول مرة ... بعد يومين من الاقامة بحى الموظفين تعرفت على شلة من أولاد الحى .. حيث كنا نذهب يوميا للسباحة فى البحر عندما ينتصف النهار .. فى طريقنا الى البحر كنا نمر بمنزل الشعار محافظ الدويم الأسبق .. لا أدرى لماذا تذكرت (سقوط بيت أشر ) قصة الكاتب الامريكى (ادجار ألن بو ) عندما وقع نظرى على بيت الشعار ... ربما الأشجار الكثيفة والخضرة التى تحيط بالمكان أو ذلك السكون المهيب الذى يشبه سكون الموتى ... أسعد لحظات تلك التى نقضيها فى ضيافة البحر .. عندما يصيبنا الارهاق من السباحة نستلقى على حافة النهر .. نتناول بعض الطعام الذى أحضرناه معنا .. ونتبارى فى قراءة ما نحفظه من أشعار ثم يأتى دور ( صارقيل ) ليتحفنا ببعض أغانيه الركيكة ... ذات نهار ونحن نمارس جلستنا الأثيرة تلك مر بنا شخص ذو قوام رياضى ووجه جامد خالى من أى تعابير كوجه تمثال حجرى ... انتفض أعضاء الشلة وحيوه باحترام لا يخلو من الرهبة .. حتى صارقيل توقف عن الغناء عند مرور العابر المبجل .. ظننت فى بادئ الأمر ان ذلك العابر الذى أربك جلستنا الاستثنائية هو أحد الأساتذة اللذين درسوهم فى المرحلة الابتدائية أو المتوسطة ... فسألتهم ونظراتهم لا زالت تتابع الرجل وهو يبتعد ... من يكون ذلك الرجل ؟ أجابنى الصادق وعلامات الجدية تبدو على محياه : قد لا تصدق أن الرجل الذى مر بنا منذ قليل هو أحد الذين يتحولون الى تماسيح تسبح فى النيل بعد غروب الشمس .. ثم يعودون الى هيئة البشر عند طلوع الفجر .. ويمارسون حياتهم العادية .. وكثيرا ما تنشب بينهم معارك داخل البحر .. تستخدم فيها ذيولهم القوية والباطشة .. وهو ما يعرف بينهم اصطلاحا ب ( المانو ) . لا أنكر ان كلام الصادق أدخل فى نفسى شئ من الرعب .. رغم عدم استيعاب عقلى ورفضه لكل ما سمعت ... أوصانى الصادق بالذهاب الى عمر الصياد فى حى الشاطئ وسؤاله عن صحة ما ذكره لى ... ذهبت فى اليوم التالى الى حيث يسكن عمر صائد الأسماك ورويت له ما ذكره الصادق حول الرجل التمساح ... حدثنى عمر بخبرة من قضى نصف عمره فى البحر .. عن العوالم الثلاثة .. عالم السماء وعالم الأرض وعالم البحر .. وأنه يحدث أحيانا تداخل (اختراق) بين تلك العوالم .. فالرجل الذى تحول الى تمساح أو العكس هو ما نطلق عليهم ( أهل البحر ) وهى مخلوقات ذات انتماء مذدوج تمتلك خاصية الانتقال من عالم الى آخر .. وأسهب فى شرح علاقة الجن والشياطين بعالم البحر ... خرجت من عند عمر الصياد وأنا أقلب ما سمعته فى رأسى ربما وربما - لكن – قد يكون – لقد ذاد الأمر غموضا واتساعا .. فدوما ما تضيع الحقيقة وسط سيل من الأسئلة التى لا اجابة حاسمة لها . منتصر محمدزكي [[email protected]]