قد بدأ العد التناذلي لاستقلال جنوب السودان ورفع علم الحرية في كافة مدن وقرى الجنوب المختلفة وفي دواوين الحكومة والمحال التجارية اعلانآ للدولة الوليدة. المنتظرون لتلك اللحظات الخوالد كثر، لكن البعض قد اصابتهم الارق لما يجري الان في الجنوب من عدم إستقرار في الأوضاع الأمنية،لاسيما النعرات القبلية التي باتت موروثة من قبل الحكومات التي حكمت المنطقة في الامس القريب. هذه الحكومات لسنوات عديدة أستثمرت وزرعت الفتنة والاحقاد بين مختلف قبائل الجنوب، مستخدمة بعض الاطفال المدللين اصحاب الملاعق الذهبية ، وابناء السودان البررة ، والحبل على الجرار ... بما يسمى سياسة فرق تسد والتي ورثوها مِن مَن أستعمرونا قبل مجىء ما يسمي بالحكومات الوطنية للسلطنة، والتي لم تفعل شيئا وطني طيلة الفترة الماضية- اللهم إلا الإسم. بل حتي السينما سٌميت بالسينما الوطنية! ولكن هل يغني الإسم عن العمل؟ وهل نافع بنافعٍ؟! بكل تأكيد لا، وإنما العِبرة بالعمل وليس بالتسميات الرنانة والطنانة.
فظاهرة الانشقاقات العسكرية والتي يقوم بها بعض ما يسمى بالجنرالات سواء كانت في صفوف الجيش الشعبي لتحرير السودان ، او من بعض المليشيات القبلية والتي تعودت على التمرد منذ بداية النضال الشعبي كما لا يفوتني الفرصة لاهنئ رئيس هيئة الاركان للجيش الشعبي لتحرير السودان الفريق اول جيمس اوث ماي للنصر الكبير والمؤزر الذي احرزته قوات الحركة امس على مليشيات الارعن قبريال تانق قجينا واسره حيآ هو واعوانه بمنطقة قناة جنقولي في ملتقى نهري نهر النيل والسوباط . فليكن هذا النصر الحاسم عبرة لكل من تسول له نفسه العبث بمقدرات هذا الشعب الابي.
هناك الكثير من العمل لابد من القيام بها اولآ، وهو محو او محاربة الامية التعليمية، السياسية والحضارية. ولمحاربة الامية الحضارية لابد من التخلى عن العادات الضارة والمتمثلة في الشلوخ، الوشم- التاتو- وقلع الاسنان، والختان الفرعوني للاناث، وخاصة اوساط المسلمين، وأن لا يتم هذا الختان إلا بعد استشارة طبية لحالات مرضية خاصة. اثناء زيارتي للسودان العام المنصرم وجدت تغييرات طفيفة جرت في فترة الخمسة عشر عامآ التي قضيتها في المهجر. وجدت ان بعض العادات قد تلاشت تمامآ وخاصة لدي قبيلتي النوير والدينكا ، او انها في طريقها الى الزوال رويدآ... رويدآ. اما محاربة الامية الابجدية المتمثلة في القراءة والكتابة فقد قطعت هذه الاخيرة شوطآ طويلآ ، وخاصة بعد فترة نضال شعبنا ضد الظلم وعدم المساواة وفرص متساوية للجميع لينالوا حظهم مثل الاخرين في شتي المجالات.
الهجرة الجماعية التي شهدها مواطني جنوب السودان داخل السودان وخارجه الى دول الجوار لاجئين. ومن ثم الى اوستراليا ، كندا ،الولايات الاميريكية ودولا اوربية اخرى، كان لها مردودها الطيب في التعليم رغم ان الهدف كان بحثآ عن ملاذ آمن نتيجة لاندلاع هذه الحرب اللعينة، والتي كانت حامية الوطيس بين الجيش الشعبي لتحرير السودان وجيش النظام الحاكم في الخرطوم.
والجدير بالذكر هنا، هو ان الجنوبيين الذي نزحوا إلى دول الجوار والدول الأوربية قد ساهموا في انتعاش اقتصادات تلك الدول في شكل عمالة رخيصة، وكما يقال بان مصائب قوم عند قوم فوائد.
دعونا نعود الى موضوع هذا المقال، فهو محاربة الامية، وكما ذكرت سلفآ بان نسبة لا يستهان بها من الجنوبيين قد دخلوا المدارس لمحو الامية في اعمار متاخرة الامر التي كان له مردوده الايجابي في تطوير المنطقة- جنوب السودان- وخاصة بعد توفيع اتفاقية السلام الشامل، اذ انها خرّجت قادة في ساحتي السياسة والمدنية. فالامية التي كانت متفشية في الاعوام الماضية اصبحت الان في خبر كان. الطاعون الذي يواجه حكومة الجنوب حاليآ، هو أن هناك مشكلة، لابد من الاعتراف بها وتشخيصها حتى نستطيع ايجاد علاجآ ناجعآ لها. المرض هذا هو الفساد . لان الكل يريد ان يغنى بين عشية وضحاها. لا ألومهم لان الحكومات المتعاقبة في الخرطوم دمرت الجنوب بسياسات خرقاء، قضت على الاخضر واليابس. ولكن ليس مبررآ لسرقة اموال الفقراء والمساكين، وغياب حكم القانون والشفافية، مثل من أين لك هذا؟ ساهم في إستشراء الفساد على الرغم من وجود مفوضية لمكافحة الفساد. يجب تطبيق قوانين اخرى مثل قوانين مكافحة الثراء الحرام، حتي تهدأ عاصفة الفوضى وتعود المياه الى مجاريها. فبدل السؤال عن القبيلة سيكون عن الجنسية كما حدث للبطل علي عبداللطيف اثناء محاكمته امام القاضي الانجليزي عزيزآ ومرفوع الرأس ، فسآله القاضي: ما اسمك ؟ فاجاب البطل : علي عبداللطيف القاضي : ما جنسيتك ؟ البطل : سوداني القاضي الانجليزي: اقصد السؤال عن قبيلتك ؟ البطل قائلآ : لا تهمني هذه القبيلة او تلك فكلنا سودانيون يضمنا قطرآ واحدآ ، ونعمل من اجل هدفآ واحدآ، وهو تحرير بلادنا من سيطرتكم.
اخيرآ، فليعلم الجميع بان التغيير لاياتي بين ليلة وضحاها، بل ياتي بعد عمل مضنى، قد يستغرق مدة طويلة، ولكن لابد من رؤية لتحقيق هذا الهدف. فدولة الجنوب الوليدة ماضية بخطوات ثابتة وواثقة نحو مستقبل مشرق.