محمد الأمين نافع كم ذا بمصر من المضحكين والمضحكات، ولكن محمود السعدني الذي ألف كتاباً عن المضحكين حصره علي المضحكين من فئة الممثلين فقط، كان نسيجاً وحده في القدرة علي الضحك والإضحاك وإدخال المسرة الي القلوب الصدئة والافتراج الي الوجوه المقطبة. وتفرده يأتي من كونه عكس الساخرين الآخرين من كتاب أو ممثلين والذين يوزعون النكات والإفيشات المضحكة بين الجملة والجملة الي درجة تفقدها عنصر المفاجأة والإمتاع، كان رحمة الله عليه، يسير بالقارئ وسط جداول وخمائل كتاباته بهدوء غير صاخب وبأسلوب يراه القارئ عادياً لا جديد فيه متخيلاً أنه هو الآخر قادر علي الإتيان بمثله، لكن السعدني يكمن له بالمفاجأة المضحكة والسارة ربما في وسط المقال أو آخره، إلا أنها مفاجأة من الطراز الذي بإمكانه أن يزودك بمؤونة يوم أو أسبوع كامل من الضحك والمتعة والسرور، حيث يجعلك تنفجر ضاحكاً بكلمة أو جملة واحدة مفاجئة قد تأتي علي مخزونك من الضحك لذلك اليوم أو الأسبوع. بدأت قراءة السعدني في مجلة الدوحة القطرية الغراء عبر مقالاته التي صدرت فيما بعد في كتابه القيم/ مسافر علي الرصيف، وتابعته بعد ذلك أينما (عط وحط وشال) عبر كتبه التي جمعت بين الطرافة والتسلية التي تضطرك الي المتابعة بشغف واندهاش وبين الامتلاء بالمعلومات الفريدة التي لا يشاركه فيها أحد غيره، الي الدرجة التي يمكنك معها أن تحضر بحوثك ورسائلك الجامعية معتمداً كتبه مراجع موثوقة ووحيدة في بابها. منذ ذلك الحين بدأت أتعرف علي فرادة قاموس السعدني وتغوُّله علي التسميات الرسمية الخاصة بكلٍّ من الحكومة والقطاع الخاص وما سمي مؤخراً بالمجتمع الأهلي أو المدني وربما المخملي، فقد وصف الفساد في مصر بأنه أصبح العملة الرسمية فيها، ربطاً له باللغة الاقتصادية ولكن بتسمية من عندياته لا صلة لها بلغة الاقتصاد الجافة، ثم أطلق علي المدعي الاشتراكي اسم المدعي المشتراكي، كتعبير لطيف ومبلوع حتى بالنسبة للمشتوم به، يصفه بأنه علي الرغم من كونه جهة قانونية رسمية تمثل الادعاء العام إلا أنها جهة مشاركة في الجرم، أي أنها حكم وخصم، ويبدو أن السعدني لم يرث من مال وعقار المرحومة والدته/ أم محمود سوى ميزة إطلاق التسميات أو الألقاب الساخرة علي الناس التي اشتهرت بها دون غيرها من أفراد العائلة كما يروي ابنه الكاتب الصحفي/ أكرم السعدني أبقاه الله ذخراً لنا هو وأخواته الكريمات. أيضاً عرف السعدني بتفرده بين كتاب أدب الرحلات وتعدد رحلاته وكتبه عن تلك الرحلات، فبينما تغلب علي هذا الأدب الجغرفة، أي التركيز علي نقل وتصوير المعلومات الجغرافية والتعريف الشامل بالبلاد المزُورة، كان السعدني غالباً ما يترك هذا الجانب لغيره من الكتاب ليتحفنا بمعلومات طريفة ونوعية لم نكن لنحصل عليها لولا مغامرات السعدني وعبثه بخزائن الأسرار والمعلومات الطريفة حتى عن رؤساء وزعماء يتمتعون بالقداسة والحصانة أحياءاً وأمواتاً، ولا يهمه بعد ذلك أن تغضب معلوماته أنصار هذا الزعيم أو ذاك، أو تنتهي به شخصياً الي السجن بتهمة إلحاق الضرر بما يسمى عادةً بأمن ومصالح الدولة العليا، تلك المصالح التي لا يكاد الكتاب يتبينون عاليها من سافلها. كما عرف عنه الجد الهازل، وكأني به يتأسى برسولنا الكريم ( ص ) في تحري الصدق والحقيقة حتى في المزاح، فهو يسوق اليك معلومات نقية ومن مصادر موثوقة وحية لكن بأسلوب بعيد عن الأسلوب التقليدي والمطروق لنقل المعلومات التي تتعلق بالقادة العسكريين والسياسيين والفكريين بالذات. أمرٌ آخر أختم به شهادتي بالحسنى للمغفور له بحول العلي القدير، أنه كان ممن يتلقون الإساءة والخصومة الصحفية بالإحسان، بل يتلقفون كرة الإساءة الملتهبة فيردونها برداً وسلاماً علي صاحبها، فاقدة المفعول، زاهقة الروح، فعندما وضعه المشاغب الكبير والمفكر والأديب في ذات الوقت الأستاذ/ صلاح عيسى من حزب التجمع المعارض في القائمة السوداء للكتاب لتأييده انتخاب وزير الداخلية الشهير/ حسن أبو باشا الذي من الطبيعي أن يكون بينه وبين المعارضة شيء من حتى الشد والجذب، لم يجرد عليه السعدني سيفه الذي لا قبل له به، بل رد الإساءة بالإحسان، قالباً إياها من مذمة الي محمدة، واصفاً القائمة السوداء بقائمة الشرف التي يشكر عيسى لتفضله برفعه اليها بعد يأسٍ ولأيٍ من نيل شرفها، فإذا به يشفع بذلك لسبعين وربما أكثر من إخوته في تلك القائمة من فطاحلة الكتاب ويكفيهم شر قتال عيسى وتقديم القرابين اتقاء قيامته، ألا رحم الله الفقيد وأنزل علي روحه الضاحكة المستبشرة شآبيب الرحمة والغفران. أمرٌ آخر وأخير أرفعه الي المصريين والعرب عامة هو جمع شتات امبراطورية المرحوم الثقافية المترامية الأطراف وتيسير اطلاع أجيال التيك أوي عليها. وعلينا وعليهم وعليكم جميعاً السلام العادل والشامل.