فالحكومة في الشريعة حكومة مدنية تحكم بإسم الشعب بقلم / نوري حمدون – الأبيض – السودان في ما يلي من سطور أنقل مقتطفات من كتاب ( جوهر الإسلام ) للكاتب د. محمد سعيد عشماوي . و رغم أن الكاتب معروف على صعيد واسع لكن لا بأس من تأكيد المعلومات الأساسية عنه . الكاتب هو المستشار المصري الجنسية المتخصص في القانون و الشريعة . و قد شغل المناصب القضائية المختلفة مدة خمسة و عشرين عاما و نشر العديد من الكتب التي منها خمسة كتب تدرس في جامعات العالم شرقا و غربا . و قد أطلع الكاتب على الثقافات و العلوم و الفنون المختلفة و درس الأديان جميعا و جاب العالم من أدناه لأقصاه للدراسة و البحث . من بين الكتب التي ألفها ننقل العناوين التالية : ( أصول الشريعة – الإسلام السياسي – الربا و الفائدة في الإسلام – الشريعة الإسلامية و القانون المصري – معالم الإسلام – الخلافة الإسلامية – حقيقة الحجاب و جحية الحديث ) . و لقد أحببت أن أشرك معي القراء في الفائدة عسى أن يسهم ذلك في إثارة الحوار الجاد خصوصا و أن ساحة الفكر في السودان هذه الأيام تضج بمثل هذه العينة من الأحاديث . يقول الكاتب : 1= الشريعة هي المنهج. و طرق المعاملات و قواعد العبادات هي أحكام الشريعة أو تطبيقات المنهج . 2= القرآن الكريم لم يستعمل - أبدأ – لفظ الشريعة في معنى وضع أحكام للعبادات أو قواعد للمعاملات . و في بعض الآيات عبر عن هذه المعاني بلفظ الوصية أو الفريضة أو الأمر (( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين )) ( سورة النساء 4 : 11 ) . 3= الإسلام هو دين الأنبياء و الرسل جميعا .. و الرحمة هي شريعة محمد (ص) . 4= تطبيق الشريعة الإسلامية لا يعني تطبيق قواعد المعاملات التي وردت بالقرآن أو السنة أو آراء الفقهاء و شرح الشارحين .. فذلك يعني تطبيق أحكام الشريعة لا تطبيق الشريعة . أما تطبيق الشريعة فيعني إعمال الرحمة و جعلها منهجا عاما في كل شئ بحيث تهيمن الرحمة على كل حكم , و أن تطبع كل قاعدة و أي تطبيق أو تفسير , و أن تكون هي الأساس في النص و اللفظ و التعبير . 5= و أحكام الشريعة هي القواعد التي ترشد الى العبادات أو تنظم المعاملات أو تحدد الجزاءات . و هذه القواعد تعد تطبيقا للمنهاج على حوادث معينة وو قائع محددة , فهي بذلك تطبيقات الشريعة .. لا الشريعة ذاتها . 6= لقد نص القرآن الكريم على تحليل البيع و تحريم الربا , و هذا هو حكم الشريعة . لكن تطبيق هذه القاعدة على واقعة معينة , إنما هو إجتهاد مجتهد أو تفسير مفسر أو شرح شارح أو حكم قاض . و الإجتهاد و التفسير و الشرح و الحكم هو من عمل الناس و ليس من أمر الله . لذلك فإنه يوجد ثم فارق بين القاعدة المحددة في القرآن أو المبينة في السنة ( و هي حكم الشريعة ) و بين تطبيقها ( و هو فعل الناس ) . 7= فالصحيح أن كل إجتهاد أو تفسير أو شرح أو حكم هو من أفعال الناس قابل للخطأ و الصواب , ليس معصوما و لا هو مقدس . و إدراك ها المعنى لازم عند تطبيق الشريعة حتى يستطيع المجتمع و يستطيع كل فرد أن يميز تمييزا صائبا بين الأحكام التوقيفية التي لا تجوز مناقشتها , و الأحكام التقديرية و هي قابلة للنقاش معرضة للجدل . 8= يعتقد من لم يدرس أحكام القانون مقارنة بأحكام الشريعة و أصول الفقه الإسلامي أن القوانين المدنية التي تطبق في مصر (و في البلاد الإسلامية) قوانين غريبة عن الشريعة بعيدة عن الإسلام .. و أنه لابد من تطبيق أحكام الشريعة في المعاملات حتى تستقيم الأمور و يقع الصلاح . و الواقع غير ذلك , فكل أحكام القوانين المدنية و التجارية في مصر متفقة مع الشريعة متسقة مع أحكامها متوافقة مع الفكر الإسلامي . و ذلك فيما عدا عقد التأمين الذي يرى فيه البعض غررا و نظام الفوائد على الديون الذي يرى فيه البعض ربا و الذي نرى بحثه إستقلالا لإستجلاء حقيقته . 9= فلا يصح – و الحال كذلك – أن يزعم زاعم أن ما يقوله هو حكم الشريعة , لأن حكم الشريعة هو النص الذي ورد في آية قرآنية أو في حديث صحيح عن النبي (ص) و ما عد ذلك يعتبر تطبيقا لحكم الشريعة على واقعة معينة , و هذا التطبيق من عمل البشر و تقدير الناس لا عصمة و لا قداسة له . 10= يقوم النظام الجزائي (الجنائي) الإسلامي على حالات جزائية ثلاث : الحدود , التعزير , و القصاص . و الحدود في القرآن هو أمر الله بشئ أو نهيه عنه . و جزاء الخروج عليه عذاب في الآخرة : (( و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين )) ( سورة النساء 4 : 14 ) غير أن لفظ الحد إكتسب معني آخر – في الإصطلاح الفقهي – فأصبح يعني العقوبة التي يقدرها الشارع على فعل إعتبره إثما . و الحدود على هذا المعنى ستة : حد السرقة , و حد القذف , و حد الزنا , و حد الشرب (شرب الخمر) , و حد قطع الطريق (الحرابة) , و حد الردة . 11= الحدود وضعت جزاءات على جرائم كانت متفشية وقت نزولها لكن القرآن لا يتضمن أي جزاءات عن جرائم إستجدت مع ظروف العصر و تطور المجتمعات و أصبحت أشد خطورة على الناس و على المجتمع من جريمة القذف , مثلا. من ذلك جرائم إختلاس الأموال الحكومية و الرشوة و التزوير و الخطف و هتك العرض (الإغتصاب) و الحريق العمد و التهرب من الضرائب و التبديد و جرائم التسعيرة و جرائم المرور و ما الى ذلك من جرائم . 12= نظام التعزيز في المسائل الجزائية يكاد يكون هو النظام الأساسي في الإسلام , لأنه هو النظام الذي يمكن بمقتضاه تأثيم ما لم يرد تأثيم بشأنه في القرآن الكريم مما يرى فيه المجتمع خطورة على أمنه أو على أمن الناس . كما أنه - من جانب آخر – يواجه بالعقوبات الحالات التي لم تتوافر فيها شروط إقامة الحد أو الحالات التي يتنازل فيها ولي الدم عن حقه . فيرى – رغم ذلك – ولي الأمر أن المصلحة تقتضي تعزير الجاني . 13= من إيمان الشفاه أو إيمان العماء أن يردد البعض في حماس شديد و جهل بالحقيقة آيات القرآن الكريم : (( و من يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون )) , (( و من لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الظالمون )) , (( و من لم يحكم بما أنزل الله فالئك هم الفاسقون )) ( سورة المائدة 44: 47 ) – يقصدون منها أن الحكومة التي لا تحكم بما أنزل الله حكومة كافرة ظالمة فاسقة , و هم بذلك يرغبون في حكومة تحكم بما أنزل الله . 14= و لو قد علم من يردد هذه الآيات علما حقيقيا بإصول تفسير القرآن , و بأسباب نزول هذه الآيات لعلم أنها نزلت بسبب إمتناع اليهود في المدينة عن تطبيق حد الزنا كما ورد في التوراة , و لذلك فإن المنهج الصحيح في التفسير - الذي يربط الآيات بأسباب نزولها و يفسرها على خلفية الذي نزلت بشأنه – يرى أن هذه الايات تتعلق بحادث إمتناع يهود المدينة عن تطبيق ما قضت به التوراة من حد الزنا ( تفسير القرطبي – طبعة دائرة الشعب – صفحة 2185 و ما بعدها . 15= فالرسل و الأنبياء يبشرون و ينذرون , لكنهم , بحسب الأصل , لا يحكمون . غير أن العناية الألهية قد تشاء – في ظروف خاصة – أن تحكم البشر حكما مباشرا من خلال الرسول أو النبي فتنشأ في هذه الحالة حكومة الله . هذه الحكومة قامت في عهود إدريس و موسى و داؤود و سليمان و عيسى و محمد – عليهم جميعا صلوات الله و سلامه – ففي عهودهم حكم الله المجتمع البشري حكما مباشرا من خلالهم و بواسطة الوحي . 16= فحكومة الله لا تكون أبدا الا في عهد رسول أو نبي بحيث لا يجوز تصور وجود هذه الحكومة بغير رسول أو نبي يتنزل عليه الوحي فيسفر عن إرادة الله و يجلي للناس ما غمض عليهم فهمه أو إلتبس عليهم تقديره . 17= ففي حكومة الله , و في حكومة الله وحدها , يحكم النبي بإرادة الله و يقضي بوحيه و يأمر بنوره : (( و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى )) ( سورة النفال 8 : 17 ) . و لذلك تكون طاعة النبي طاعة لله و تكون مبايعة الرسول مبايعة لله : (( من يطع الرسول فقد أطاع الله )) (سورة النساء 4 : 80 ) (( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله )) (سورة الفتح 48 : 10 ) . و ينبني على حقيقة أن الولاء و التسليم في حكومة الله إنما لله سبحانه , أن هذه الحكومة تقوم على التحكيم لا على الحكم . 18= و بوفاة النبي تنتهي حكومة الله و تبدأ حكومة الناس . 19= فالحكومة في الشريعة حكومة مدنية تحكم بإسم الشعب و ليست حكومة دينية تدعي أن حكمها هو حكم الله . أن الذي يحكم حكم الله هو الرسول أو النبي وحده . و لا يجوز بعد النبي أن يدعي أي شخص أنه يحكم حكم الله فلا مساءلة لفعله و لا نقد لرأيه , لأن النبي كان يساءل أمام الله و يصوب الوحي ما يراه جديرا بالتصويب . 20= إن الذي يدعي أن حكمه هو حكم الله إنما يدعي ذلك ليضفي على حكمه تقديسا و يكسب رأيه عصمة و يضفي على أمره حصانة ... و هي أمور ليس من حق أحد أن يدعيها . 21= و الحكومة لا تكون دينية لمجرد تطبيق السياسة العقابية ( الحدود و التعازير و القصاص ) . فمع ما سلف من أن كل القوانين الجزائية هي من قبيل التعزير المطبق فعلا فإن السياسة العقابية تكون ذات أولوية خاصة في مجتمعات معينة . أما في العصر الحديث فتوجد سياسات أخرى لا تقل عن السياسة العقابية أهمية في تكوين المجتمع و التأثير في الأفراد . من ذلك السياسة الثقافية و التربوية و الإقتصادية و الخارجية و الإعلامية و العسكرية و ما الى ذلك من سياسات ينبغي تقويم الحكومات على أساسها دون اقتصار في التقويم على السياسة العقابية . 22= و رعاية الدولة للدين أو توطيده أو رغبتها في نشره لا يبدل الحكومة فيجعل منها حكومة دعوة بدلا من أن تكون حكومة مدنية . ذلك لأنه لابد لأي حكومة معاصرة – ما لم تقم على الإلحاد أصلا – أن ترعي قيم الافراد و أن تحافظ على تراث الجماعة . و من شأن ذلك أن تمتد الرعاية و المحافظة الى نبع القيم و أساس التراث , و هو لباب الدين و روح الشريعة . غير أنه لا يلزم عن ذلك أن تصبح الحكومة دينية . فالدين للمواطنين . لكن الحكومة – في الواقع الصحيح – دائما أبدا حكومة مدنية . 23= إن آيات القرآن ستة آلاف آية , و ما يتضمن أحكاما للشريعة – في العبادات أو المعاملات – لا يصل الى سبعمائة آية , منها حوالي مائتي آية فقط هي التي تقرر أحكاما للتعامل المدني أو للجزاء الجنائي . و ترجع علة ذلك الى أن القرآن قصد – في الدرجة الأولى – أن يصب الإيمان صبا في النفوس و أن يعيد صياغة الضمائر على روح الشريعة و هدى الدين , فيكون كل فرد في المجتمع بارا رحيما عادلا فاضلا تقيا , و يصبح المجتمع من ثم مجتمع البر و الرحمة و العدل و الفضل و التقوى . فالضمير هو الأساس في الدين , و الروح هي الأصل في الشريعة . و إذا إستقام الضمير و قويت الروح لم يقتصر الإنسان على الإمتناع عما هو محظور فقط لكنه يسعى الى التفضل بفعله و التبرع بذاته أيضا . 24= و في خلاصة موجزة : إن قيام المجتمع على روح الشريعة يعني أن يلزم كل فرد فيه نفسه أحكام الشريعة و أن يلزم نفسه ما لا يلزمه به أحد من فضل و عفو و بر و رحمة و إحسان و إرتقاء بضميره و إبتغاء وجه ربه . 25= فليس العمل الصالح صلاة أو صوما أو زكاة من المال فحسب , إنه – الى جانب ذلك – عمل سليم منتج للحياة مفيد للإنسانية واق للذات من التدهور و التحلل و الإنحدار . إنه العمل الذي يجعل الفرد في يقظة دائمة لنفسه و لإسرته و للمجتمع , و عطاء مستمر من ذاته و من جهده و من جوده , و خلق دائم لشخصية حية و طباع نظيفة و عقل متطلع . 26= إن ما يستنبط من الشرائع و التعاليم التي جاء بها محمد (ص) هو ما نسميه بالفكر الديني , أى آراء الفقهاء و إجتهادات المفسرين و أحكام القضاة و شروح الشراح , و غير ذلك . و إعتبار أن أن هذا الفكر الديني هو الإسلام خطأ شديد , لأن الفكر الديني فكر بشر يتأثر بعوامل كثيرة و يتغير تبعا لأسباب لا حصر لها , و يختلف فيه الرأي و التقدير . 27= و فكرة حاكمية الله تقصد في الحقيقة الى أن يكون نظام الحكم معصوما من المساءلة عن أي خطأ , معزولا عن الشعب و إرادته . فهو ينتهي الى أن السلطان السياسي و التشريعي و القضائي ليس حقا من حقوق الأمة , و ليس مباشرة لسلطات الشعب . و هو إتجاه يعود الى فكرة الحق الألهي المقدس في الحكم , تلك الفكرة التي نبتت و إزدهرت في غير المجتمع الإسلامي . 28= فالفقه السياسي في الإسلام نشأ و إستقر في عصور الخلفاء (المستبدين) , و بذلك برر - ذلك الفقه لهؤلاء المستبدين - برر لهم فكرة الحق الإلهي المقدس للحكم , كما وطد معنى أن الحكم لله . و قد كان في الحق للخلفاء (المستبدين) . 29= فالقول بأن الحاكمية هي لله قول حق يراد به باطل , إذ أنه يهدف الى عزل الشعوب عن حق الحكم و الرقابة و يفرض عصمة على الحاكم , فيظلم و يستبد و يقتل بإسم الله و الله من كل ذلك براء . إنتهت بعون الله المقتطفات المختارة من كتاب د. محمد سعيد عشماوي (جوهر الإسلام) . الناشر : مطبعة مدبولي الصغير . الطبعة الرابعة 1996 . فالحكومة في الشريعة حكومة مدنية تحكم بإسم الشعب بقلم / نوري حمدون – الأبيض – السودان